نظرية المؤامرة

نظرية المؤامرة

غادر غورباتشوف الحياة، نهاية اغسطس (آب) الماضى دون ضجة، اكتفاءً بجنازة رسمية لم يحضرها بوتين، ليس لانشغاله بالحرب في أوكرانيا، بل لعدم شعبية آخر زعيم للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي غادر الكرملين تحت جنح الظلام بعد تصديق المجلس السوفياتي الأعلى على انفصال الجمهوريات السوفياتية في ديسمبر (كانون الأول) 1991، وإنزال العلم الأحمرللأبد ورفع العلم ثلاثي الألوان.

واختفى غورباتشوف الذي اعتبره الغرب بطلاً ومُنح جائزة نوبل 1990 واعتبره الشعب الروسي شريراً، لذا لم يحصل على أكثر من 5 في المائة من أصوات الناخبين، عندما حاول العودة للحياة السياسية 1996، فكان كعزيز قوم ذل، و لم يعد من دواعي الدهشة أن يفسر معظم السياسيين وقليل من المؤرخين الأحداث بنظرية المؤامرة، ونادراً ما حاول المفكرون تفكيك عناصر هذه النظرية ونقدها منهجياً، لاسيما أن هناك من حوادث التاريخ التي كانت عصية على التفسير، حتى مع اعتماد نظرية المؤامرة. فقديماً اختفى جيش قميز وحُرقت روما، وحديثاً تم فك حصار فيينا من العثمانيين دون سبب واضح، وتم حرق القاهرة، والفاعل لا زال مجهولاً، كذلك اغتيل جون كنيدي وانتحر المشير عامر، ودُمر برجا التجارة العالمي في أميركا، ولم تفلح أي نظرية للمؤامرة في التفسير الكامل والمقنع لأي من هذه الأحداث. فقد آن الأوان للتفكير بطريقة مختلفة وعكسية، ليس لعباً لغوياً بالألفاظ، ولكن فعلياً، فقد بات من المألوف الترويج المتقن للنظرية أولاً، وارتكاب الفعل لاحقاً، من غزو أو قتل أو حرق أو نسف، مثلما تنشر بعض أجهزة الاستخبارات أخبارا كاذبة عن صحة فلان أو علان. فيكون منطقياً إعلان وفاته في اللحظة المناسبة، وهناك من يفسر الموت المتتابع لثلاث من الزعماء السوفيات في أقل من ثلاث سنوات وصعود الزعيم الأصغر سناً والأخير ترتيباً في الزعامة للاتحاد السوفياتي كما عرفه العالم، كقطب ثان للعالم يوم استلامه الحكم ليبدأ الترويج لنظرية البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) وسياسة الجلاسنوست (الانفتاح والشفافية). والتي ظهرت نتائجها جلياً في عودة سخاروف أشهر معارض روسي من المنفى، وبداية تدحرج كرة الثلج مروراً بسقوط حائط برلين، وبالمحصلة انتصار الغرب والتبشير بنهاية التاريخ، وتدشين عصر القطب الواحد الأميركي، مما حدا بكثير من المفكرين لتفسير انهيار الاتحاد السوفياتي بنظرية المؤامرة، لتوافر عناصر الحبكة الدرامية الموجودة في قصة صعود الزعيم الأصغر سناً، الذي اعتلى سكرتارية الحزب الشيوعي. مع ملاحظة أنه منذ نيكيتا خروتشوف كان مظهر معظم الزعماء السوفيات أقرب إلى المومياوات المحنطة في متحف التاريخ، ولا يستطيع المرء أن ينسى صور الزعماء السوفيات في فترة الثمانينات وهم يظهرون في العروض العسكرية بمناسبة الثورة البلشفية، وكأنهم خرجوا محنطين من متحف التاريخ ليرفعوا أيديهم المجمدة على وضع ثابت لتحية الجنود. ولم تكن هذه الصور مجرد تسجيل للحدث، بل مظهر من مظاهر الجمود والعجز في الإدارة السوفياتية، التقطته العين الغربية المدربة على ترجمة لغة الجسد، ليبدأ الترويج لنظرية سقوط الاتحاد السوفياتي بدرجة وحشية لم تُر إلا أيام بناء حائط برلين، وهروب اللاجئين من ألمانيا الشرقية إلى الغربية.

تم تكثيف الهجوم الغربي عبر القوة الناعمة من وسائل الإعلام والأفلام الهوليودية المهربة لروسيا، والبضائع ذات السمعة السيئة من الملابس المثيرة، والأحلام بالرخاء، تزامناً مع أعراض تصلب الشرايين في الكرملين ووفاة بريجينيف سكرتير الحزب الشيوعي السوفياتي العتيد، والذي لحقه خليفته يوري أندروف بعد أقل من عامين، ليخلفه كونستانين تشرينيكو الذي توفي ايضاً بعد أقل من عام لتنصيبه سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي. وخلال حالة الارتباك هذه تم تصعيد غورباتشوف للمكتب السياسي، وفي زيارة له ولزوجته رايسا للندن، التقطته عين مارغريت تاتشر ودون أن يشعر أحد ركزت عليه في المحادثات دون غيره من أعضاء الوفد الروسي، وتم الاحتفاء بالزوجة مع جرعة مكثفة من العلاقات العامة، وأخذها في جولات صُممت بعناية لإبهارها بالحياة الغربية، فكانت على رأسها زيارة محلات هارودز الشهيرة التي فُتحت خصيصاً بعد مواعيد العمل الرسمية، ويقال إن أصحاب المحل هم من رافقوها. أخذ عملاء المخابرات البريطانية في مراقبتها لمعرفة نقاط ضعفها، ولم تتأخر رايسا كثيراً لإظهار شغفها بالمجوهرات والفرو، وملابس أحدث بيوتات الأزياء العالمية، تزامناً مع شهادة تاتشر بأن غورباتشوف رجل يمكن الوثوق به. وبعد أقل من ثلاثة شهور من هذا اللقاء تم انتخاب غورباتشوف سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي، ولا مجال هنا لمحاولة تفسير اختفاء كونستانين تشرينكو آخر القياصرة الذين عاصروا الثورة البلشفية 1917، بغير قيام ملك الموت بواجبه ليصعد غورباتشوف، الذي لم يعاصر الثورة البلشفية ولم يستطع أحد القطع بأسباب خروج الزعيم الجديد عن الخط الشيوعي، فهل هي التقية السياسية التي مارسها الزعيم طوال حياته حتى وصل إلى سدة الحكم، أو ولع زوجته بالسلع الغربية المستفزة، أم هو الترويج المتقن والمدروس لنظرية الرأسمالية باعتبارها العلاج الناجع لمشاكل الفقر والجهل والمرض. بالرغم من أن روسيا وقتئذ لم تكن فقيرة، ولكنها كانت تعاني من شيخوخة الإدارة، وهنا ظهرت سياسة البريسترويكا (إعادة الهيكلة) والجلاسنوست (الانفتاح والشفافية) وتم اعتمادهما ليس فقط في الاتحاد السوفياتي بل في الكتلة الشرقية لتتلقفها ماكينة الدعاية الغربية لتبيع الوهم الجميل لمواطني البلاد، التي كانت تدور في الفلك الروسي وتستقل ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا عام 1988 دون تدخل من الجيش الأحمر، لمنع هذا الاسقلال، وهو نفسه الذي اقتحم المجر 1956 وبراغ 1968 لأسباب أقل بكثير من الاستقلال بل مجرد إرهاصات تمرد على مبادئ الشيوعية الأممية. ولكن الزمن كان قد تغير وفقد الاتحاد السوفياتي نصف قوته تحت مطارق ومناجل الدعاية الغربية، وفقد النصف الآخر بتصلب عقول الزعماء لينفرط عقد وحدة الاتحاد السوفياتي الذي تمترس خلف الستار الحديدي، الذي منع نسمات التطور الطبيعي أو بلغة الماركسية حتمية التطور، فتخلف الاتحاد السوفياتي اجتماعيا واقصاديا وسياسيا، وإن كان متقدما عسكريا ويملك قوة نووية ضاربة. مع وصول نظرية التفكيك إلى أوجها وتصل روسيا إلى الفصل غير السعيد في تاريخها وتبدأ نظرية المؤامرة.

font change
مقالات ذات صلة