ليس بعدك شيء

ليس بعدك شيء

فأنت الأول والآخر والظاهر والباطن العزيز القاهر فوق عباده وأنت الغفور الرحيم الأحد الفرد الصمد تجلت حكمتك ورحمتك التي وسعت كل شيء وسبحانك جلت قدرتك في كل شيء وعلي كل شيء ولا حول ولا قوة إلا بك.

 

تتنزل ملائكتك في رمضان ليلة القدر لتتوهج النفحات الرمضانية لتغسل آلام العام كله وأحزانه بسجدة مخلصة أو عبرة قد ضاقت بها المآقي أو زفرة مكتومة في الصدور من مكابدة كُتبت على الإنسان الخاطئ أحيانا والمقصر في الشكر دائما.

وقد من الله على بعمرة رمضانية لم تكن على البال ولا على الخاطر، ولكن رحلة تأخرت قرابة العشر سنوات منذ آخر زيارة للأراضي المقدسة ويبدو أن كل شيء كان مؤهلاً ذلك دون علم لي. والحقيقة أنني قابلت أحد الأصدقاء المقربين ولأنه خبير سياحي من الدرجة الأولى فقد بشرني أننا نستطيع أن نذهب إلى العمرة بدون تأشيرة طالما جواز السفر بريطاني على أن تحصل عليها في مطار المدينة المنورة برسوم بسيطة وتكون صالحة لمدة عام ولم أتردد لحظة فقام بإجراءات حجز الطيران وتصادف مكالمة لي من صديق آخر مقرب وخبير في السياحة البحرية يدعونني لقضاء رمضان في الغردقة أو شرم الشيخ فأخبرته أنني ذاهب للعمرة فقال أنا معكم، وتولى هو حجز الفنادق، فلم نفقد ثانية واحدة في أمر، فقط التمتع والبهجة وانشراح النفس والسعادة كما وعدنا الله فالدين أتى لُيسعد الناس وليس لعقابهم، لأن الله عز وجل قال وهو أعز قائل: «ما يفعل الله بعذابكم» صدق الله العظيم. (سورة النساء 137).

طبعا يجب التنويه بأنني كنت متمتعا تماما بمجهود خبراء السياحة وتفرغت للتأمل واجترار خواطري ومحاولة الإجابة على سؤال طال تردده من جيل إلى جيل، ألا وهو: كيف تخلف المسلمون وأصبحوا عالة على المخترعات والابتكارات الغربية بينما كانت أول صيحة في سماء مكة أمرا من الله إلى رسوله الكريم محمد بن عبد الله بالقراءة كإشارة إلهية إلى البحث والتعلم. لأن الله يعلم علم اليقين أن سنة الحياة هي التطور وأنه خلق الإنسان لإعمار البسيطة فكان الأمر بالقراءة والتدبر والعمل وهذه وصفة سحرية للتقدم ولتظل راية الإسلام خفاقة لخدمة البشرية ويظل المسجد الحرام ملتقى القلوب التي تهوي إليه تصديقا لدعوة أبينا إبراهيم أبي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، خاصة وقد تحقق الرزق فأصبحت مكة المكرمة تَجبي من كل الثمرات من جميع أنحاء العالم وبالفعل أصبح البيت الحرام مثابة وأمنا رأيناها بأعيننا كبصائر مهداة لأمة المسلمين وقد شربنا من ماء زمزم هدية سيدتنا هاجر للمسلمين وطفنا بالبيت العتيق عمل سيدنا إسماعيل وسيدنا إبراهيم عندما رفعا قواعده فكانت الكعبة المشرفة التي زينت بحجر من السماء (الحجر الأسود) فكانت كالنواة التي يطوف حولها المسلمون وهو المتكرر في أجرام السماء  كذلك أصغره ذرة في رسالة واضحة بوحدة الخالق الذي أجرى الكون على سنن كلها تدور حول مبدعها فلا ينبغي للقمر أن يدرك الشمس ولا الليل مدرك للنهار وكل في فلك يسبحون.

وبعد مناسك العمرة والتحلل كنا نتمتع بصلوات التراويح وقراءة الشيخ السديس ودعائه للمسجد الأقصي والحمد لله قضينا أياما جميلة في مكة المكرمة بعدما بدأنا بزيارة الحبيب في المدينة المنورة والجلوس في معيته بمسجده بصفاء نفسي افتقدته كثيرا في الإفطار الجماعي قبيل صلاة المغرب. وللحق نقول المملكة العربية السعودية لم تدخر جهداً لراحة الحجيج ولو أن لكورونا فائدة تُذكر فستكون ابتكارات المملكة في إجراءات الزيارة لقبر الرسول الكريم الذي أصبح أسهل كثيرا مع نظام الاتجاه الواحد في المرور ووجبات الإفطار أصبحت أكثر تعقيما ثم الطواف حول الكعبة الذي أصبح أكثر يسرا بعد منع الالتصاق بأستار الكعبة أو الاندفاع نحو الحجر الأسود ومنع التواجد في صحن الكعبة لغير المُحرمين فكان طوافي هذه المرة دون كدمات أو إيذاء للغير فقط الدعاء بالفرج والعفو والعافية لي بعد سنة كثيرة الآلام والأحزان والرحمة لأمة المسلمين والدعوات لكل أهلي وأصدقائي دون الخوف من السقوط من جراء التدافع كما في السابق فوجب الشكر لولاة أمور المملكة لأنهم نعم الأمناء على السقاية والرفادة وحفظ الحرم ونشر الأمن والأمان فكان هذا الموسم غير عادي لأنه أتي بعد سنوات عجاف استحالت فيها العمرة والحج بهذه الأعداد بفعل كوفيد-19 وفي الطريق من المدينة إلى مكة توقفت السيارات على الطريق السريع تماماً للسماح بقطيع من القرود بالعبور خلف قائدهم الذي كان كثير الالتفات ليؤمن العبور للقطيع وما يدهشني أن نفس هذا الموقف تكرر معي، وكان ذلك في شهر فبراير (شباط) الفائت ولكن في أقصي بقعة، فشمال إنجلترا بلاد تتجمد فيها حيتانها من البرد وكنت في القطار السريع الذي يقطع المسافة إلى لندن في أقل من ثلاث ساعات ولكنه توقف تماما بعد نصف ساعة لأن هناك قطيعا من الغنم يحتل السكة الحديد فصدرت الأوامر بعودة القطار وأخذ الطريق الغربي إلى لندن وهو الطريق الأطول وكله يهون في سبيل راحة الغنم ويثبت أن الإنسان واحد سواء في السعودية أو إنجلترا عندما تنصلح النوايا ويعود الإنسان إلى آدميته وفطرته السليمة.

بقي شيء واحد وهو أنني أصبت بكوفيد-19 والآن في طريقي للتعافي وقد زارتني بأمراض إنفلونزا شديدة وهذا من مزايا التطعيم الثلاثي وبركات العمرة فالحمد لله كاشف الكرب ومفرج الأزمات وهو الذي ليس قبله قبل، ويقيناً ليس بعده بعد.

font change