كونتِن تارنتينو مثير الشغب في السينما الأميركية

كونتِن تارنتينو

كونتِن تارنتينو مثير الشغب في السينما الأميركية

 لندن: أصدر المخرج كونتِن تارنتينو في مطلع هذا الشهر كتاباً بعنوان «تكهنات سينمائية» وفيه يستعرض حياته والسينما التي أحب منذ أن كان صغيراً في الستينات وما بعد.
أن يكون المخرج كونتِن تارنتينو «سينيفيلاً» نموذجياً فهذا ليس غريباً. كلنا (وخصوصاً هواة أفلامه) يعرفون كيف غرَف المخرج من معين مصادر مختلفة من الإنتاجات الأميركية والأوروبية وكيف وجد في عمله داخل محل بيع أشرطة الفيديو (هل تذكرونها؟) الفرصة المثالية لمشاهدة كل ما يُثير خياله ويحفّزه على التحول إلى الإخراج.
اتخذ هذه الخطوة وأنجز فيلمين قصيرين متباعدين. الأول («طيور الحب في عبودية»، 1983) ثم («يوم ميلاد أعز أصدقائى»، 1987). هذا قبل أن ينطلق في درب الأفلام الطويلة محدثاً ضجة ورهجة من فيلمه الأول («كلاب الخزّان» 1991).‬
وفي العام الماضي اتخذ خطوة لا تقل جرأة ولا إثارة للجدل عندما أعلن اعتزاله إخراج الأفلام مكتفيا بأحد عشر فيلماً بدأت بذلك الفيلم البوليسي، «كلاب المخزن» وانتهت بفيلمه الاستعادي للماضي («ذات مرّة في هوليوود»، 1999).
قال إنه اكتفى وقال إنه كان قد قرر منذ البداية تحقيق أفلام قليلة وقال إنه يريد الكتابة وليس الإخراج. صدّقه البعض (ولمَ لا؟) وارتاب البعض الآخر في نواياه. وهذا الفريق الآخر ثبت أنه على حق.
نعم كتب بمعنى أنه ألّف كتاباً مثيراً حول حياته في السينما وآرائه في المخرجين وفي الفن السينمائي بوجه عام، لكن ها هو يحضّر للعمل مخرجاً وكاتباً لسلسلة تلفزيونية بعنوان «قانون المكافأة» من المرجح أنها من نوع الوستيرن الذي أنجز منه على الشاشة الكبيرة فيلمان سابقان هما («الثمانية الحاقدون»، 2015) و(«دجانغو بلا أصفاد» 2012).

تارنتينو خلف الكاميرا

مصادر مفضّلة
حسناً، سيكون الإخراج تلفزيونياً وليس للسينما لكن هل هناك من فارق حقيقي هذه الأيام؟ مسلسلات التلفزيون تتمتع منذ عقود بميزانيات كبيرة والمخرج معروف باستقلالية رأيه وببصمته المتميّزة وتجد القلّة من ممثلي ونجوم هوليوود الذين سيسعدون كثيراً لو نادى تارنتينو عليهم للاشتراك في هذا الفيلم الجديد.
تارنتينو (59 سنة) مخرج بالفطرة. التقط السينما من دون دراسة في معاهد من خلال عمله في محل فيديو. هذا كان في السبعينات. كان يؤجر ويبيع ويشاهد. شاهد كل ما استطاع المحل استيعابه من أفلام. كانت أشرطة الفيديو هي السينماتك التي صقلته. لكنه اهتم أكثر بسينما الستينات والسبعينات.
كونه وُلد في العام 1963 سمح له عدم الشعور بالغربة حيال موجات السينما وتياراتها آنذاك. وهناك صنفان من الأفلام التي اهتم بها أكثر من سواها: أفلام بوليسية أميركية من بطولة ممثلين أفرو- أميركيين وأفلام أكشن وويسترن إيطالية. حين قرر أن يصبح مخرجاً لم يكن في باله إنجاز أي نوع آخر ولم يكترث لتحقيق أفلام تنتمي إلى مدارس أميركية أو إلى نماذج كلاسيكية.
الأفلام البوليسية الأميركية التي قادها ممثلون سود في تلك الفترة كانت جديدة حتى على الجمهور وشركات الإنتاج على حد سواء. سُميت بـBlackexploitation لسبب مهم نابع من التسمية ذاتها: هي الأفلام التي تستثمر في شخصيات البطل الأسود، رجلاً كان أم امرأة. مجرد اختياره هذا النوع الشعبي (جداً) من الأفلام بعيداً عن ممثلي ومخرجي الصف الأول (ايستوود، واين، فورد، هاذاواي، ردفورد، إلخ...) كان إعلاناً منه لنوعية الأفلام التي يريد تحقيقها. لن تكون رخيصة الشأن وشعبية جداً، لكنها ستستوحي مكوّناتها الموضوعية من تلك الأفلام.
تارنتينو كان واقعاً في غرام الانفلات من قيود السرد الكلاسيكية. أحب أفلاماً تستغل المكوّنات الاجتماعية والعاطفية في حياة السود لتقديم وجهة نظر مختلفة وأحداث تنبع من حاجة مجتمع كامل للتبلور على الشاشة ونقل ما يحدث في هارلم وجواره. لم تكن أداة تعليمية (ولم يكن معظمها جيداً) بل كانت مغامرات يواجه فيها البطل الأسود أعداءه من البيض وكذلك من السود الذين كانوا يعملون مع العصابات البيضاء ويذعنون لها. أفلام مثل «شافت» Shaft (بطولة رتشارد راوندتري) و«سلوتر» Slaughter (جيم براون) و«بلاك سيزر» Black Cesar (فرد وليامسون). ثم خصوصاً الأفلام التي قادت بطولتها ممثلات أفرو-أميركياتكما بطولة تامارا دوسون ) ‬Cleopatra Jones و Coffi وFoxy Brown وبام غراير) وسواهم جميعاً.‬‬
هذا ما جعله عرضة للنقد كما للإعجاب. المنتقدون وصفوه بأنه يسرق مشاهد وإيحاءات من أفلام أخرى وأنه مثير للشغب كطفل غير مكتمل الموهبة. المعجبون وجدوه تجديداً فاعلاً في سينما كانت تحتاج لدم جديد وإلى سينمائي غير تقليدي في اختياراته.

(من اليمين) ستيف بوشيمي، هارڤي كايتل، مايكل مادسن في «كلاب الخزّان»

تحبيذات
السبب في التفاتته للممثلات القويات (استعان ببام غراير في «جاكي براون» وبإيما ثورمن في Kill Bill  الأول والثاني)  يعود إلى شغفه بالأنوثة غير الناعمة. تلك المثيرة عاطفياً والخشنة في تصرفاتها والقوية في قدراتها.
وبما أن هذه الأفلام لم تدخل جعبة المخرجين الكبار آنذاك (أمثال نورمان جويسون وسيدني بولاك وجورج روي هيل) الذين اعتبروا أنفسهم، وعن حق، أعلى مستوى وأعرق تاريخاً من ولوج مثل هذه الأفلام السريعة، فإن هوليوود تركت لمجموعة من المخرجين الفالتين من توصيات الفيلم الكلاسيكي تحقيق هذه الأعمال التي بقيت متوفرة- كتيار- حتى السنوات الأخيرة من السبعينات. من بينهم، على سبيل المثال فقط، جاك هِل، جاك ستارِت، روبرت هارتفورد ديفيز («بلاك غن») وسولومون كلارك («هامر») لجانب آخرين كثيرين معظمهم مر عابراً ولم ينتقل من تلك الأفلام لما هو أعلى مكانة فانتهى عملياً إلى البطالة.
بالتالي، من العجيب أن يعتبر تارنتينو (كما يعرض في كتابه) مخرجي تلك الأفلام المذكورة (منهم جاك هِل (Hill) وجاك ستاريت (Staritt) نجومه المفضلين وراء الكاميرا أكثر مما نظر إلى ألفريد هيتشكوك، وجون فورد، وهوارد هوكس، وسواهم من أفضل وأبرع مخرجي هوليوود قي الستينات وقبلها.

ليوناردو دكابريو في «ذات مرّة في هوليوود»


المقابل الإيطالي لم يكن مختلفاً من حيث إن ما شغل بال وقلب تارنتينو لم تكن أفلام فديريكو فيلليني ولوكينو فيسكونتي وألبرتو لاتوادا أو فرنشسكو روزي (وبالتأكيد ليس أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني) ولا أي من السينمائيين الذين بنوا للسينما الإيطالية مكانتها الفنية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات، بل تلك التي تسرّبت كالماء من تحت الباب وشكلت تياراً واسعاً وطوفاناً من الأفلام البوليسية والويستيرن السريعة.
ما صاغ وله تارنتينو من تلك الأفلام تلك التي أخرجها سيرجيو ليوني وسيرجيو كوربوتشي وداريو أرجنتو (ولو أن تارنتينو امتنع عن تحقيق أفلام رعب حتى اليوم) وفرنينادو بولدي وفرانكو جيرالدي من بين آخرين عديدين.
في تلك الفترة كانت السينما الإيطالية وجدت منجم ذهب متمثلا في تقليد سينمات هوليوود بأسعار بخسة. الناتج كان موجة استمرت من نهاية الخمسينات إلى أواخر السبعينات تم خلالها تحقيق أفلام تاريخية وبوليسية وخيال-علمية وأفلام ويستيرن وأفلام رعب ولم ينج حتى جيمس بوند من التقليد فتم صنع نسخ من بطولاته في أفلام تحمل سخريتها في عناوينها مثل «جيمس تونت» و«العميل 707» و«008: العملية إبادة».
السبب في هذا الوله هو ذاته الذي حرّك تارنتينو حيال الأفلام السوداء الأميركية. أساساً كونها متحررة من ضبط المعايير الفنية الدقيقة وأكثر استقلالاً في الإنتاج من تلك التي تتداخل فيها عناصر وأطراف الصناعة. ذلك الشعور بأنها غير منظمة والمتوجهة في الأساس إلى جمهور لا يطلب الفن بل الترفيه بصرف النظر عن مستواه.
لكن تارنتينو لم ينقل الشرط الأخير بكامله. صحيح أن فيلمه «جاكي براون» (بطولة بام غراير، 1979) وقبله «بالب فيكشن» (1994) كان استيحاءً من سينما البلاك إكسبلويتاشن وأن «دجانغو طليقا» (2012) حمل عناصر الويستيرن الإيطالي، إلا أن المخرج لم يتصرف من دون مرجعيات فنية ارتفعت بأفلامه هذه عوض أن تكتفي بحمل تأثيراتها كما هي.

بام غراير كما في «جاكي براون»

فيلمه الأخير (للآن؟)
أفلام كونتِن تارنتينو التسعة حتى الآن تحمل بالطبع هواه بتلك الأفلام الرخيصة التي انتمت إلى تلك الفترة المحددة من تاريخ السينما، لكنها ارتقت في شروطها الفنية عن العديد منها. استثمرت في حب المخرج لتلك الفترة (كما الحال في فيلمه المقبل «ذات مرّة في هوليوود») لكنها تمتعت كذلك بأسلوبه الخاص في تحريك ومعالجة أحداث أفلامه وشخصياتها وتميزت بمواقف مستقلة عما ورد في التيارين السابقين.
وفي فيلمه الأخير (حتى الآن) «ذات مرّة في هوليوود»، لم يتّجه لاستخلاص واستيحاء لا الأفلام الأميركية السوداء ولا أفلام الويستيرن الإيطالية بل نبش موضوعه من تاريخ هوليوود الستينات.
دار فيلمه هذا حول ثلاث شخصيات: ممثل  (ليوناردو ديكابريو) و«بديله» في المشاهد الصعبة (براد بت) والممثلة التي توفيت باكراً على يدي السفّاح تشارلز مانسون وعصبته شارون تايت.

إيما ثورمن وسيفها الباتر في «أقتل بل».


رك (ديكابريو) ممثل يقف على الحافة. ينظر إلى وضعه المتأرجح الذي قد ينتهي بفقدانه جمهوره وخروجه من قائمة النجوم الأول إلى ممثلي أدوار الشر وبعض أفلام الويستيرن سباغيتي. كليف (بت) لممثل بديل يُستعان به للحلول مكانه في تنفيذ المشاهد الصعبة. كليف هو مثل رك في وسامته، لكنه أكثر تحرراً. ليس لديه ما يخسره إذا لم يتم اكتشافه ويصبح ممثلاً، لذلك يعيش في سلام مع نفسه. هذا على الرغم من أن حياته المهنية هي أقصر من حياة الممثلين.
أما شخصية شارون تايت (أدتها مارغوت روبي) فهي شخصية الممثلة التي لديها الكثير مما تتطلع إليه مستقبلاً. هي ما زالت جديدة تؤدي أدواراً خفيفة وصغية لكنها تلفت الأنظار. لا تعرف أن حياتها مهددة بالقتل بسبب عصبة مجنونة يقودها تشارلز ماسون. لكن المخرج يحرص على أن لا يصوّر العملية. بل هو لا يصوّر مقتل شارون تيت مطلقاً. ما يفعله هو أن يترك لبعض أفراد العصبة الهيبية اقتحام المنزل الفخم للممثل رك بقصد قتله وقتل من فيه. المنزل يقع بمحاذاة المنزل الذي استأجره رومان بولانسكي لزوجته. بذلك يختار تارنتينو الحديث عن عملية خيالية لم تقع ويفرد لها وقتاً ممتعاً مفاده قيام كليف بالتصدي (وكلبه) إلى العصبة التي اقتحمت البيت).
الفيلم جاء كخاتمة لأفلامه السابقة. تحية لهوليوود التي أحبها بالطريقة التي فضّلها. خفيفة ونصف جادّة. وإذ أسدل الستار على أعماله بهذا الفيلم منصرفاً لوضع كتابه وكتابة سيناريوهات لأفلام لاحقة، يبدو أنه لن يقوى على ترك الإخراج جانباً. إن فعل فسيكون على حساب هوسه السينمائي العتيق.
 

font change