غسان سلامة: ثلاثة أمور تقلقني في العالم

حذّر في حديث إلى "المجلة" من "تتفيه" استخدام "النووي"... وتحدث عن مخاض مؤلم لنظام عالمي جديد

Getty Images
Getty Images
وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة.

غسان سلامة: ثلاثة أمور تقلقني في العالم

ثلاثة أسباب في المشهد الدولي، تدفع وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة إلى "القلق العميق"، تتعلق بالتغيير المناخي والازمات الاقتصادية، واستعمال القوة.

يضاف الى ذلك، "أمر خطر"، يتعلق بالسلاح النووي. ويقول سلامة في حديث الى "المجلة": "لا يمر يوم واحد في حرب أوكرانيا لا نسمع فيه بالنووي. هذا النوع من "التتفيه" للسلاح النووي أمر في غاية الخطورة لأن هذا التتفيه سينسحب أيضاً على الدول النووية الأخرى".

يوافق سلامة على وجود اسباب كثيرة تدفع الى الاعتقاد بانتهاء النظام العالمي الذي عرفناه في العقود السابقة. ويقول "اننا نرى أوجاع مخاض" ولادة النظام العالمي الجديد. الاوجاع تشير إلى تغيير بنيوي وليس إلى تغيير سطحي في تركيبة النظام العالمي، ولكن يصعب علينا أن نرى الوليد".

  • هنا نص الحلقة الاولى من الحديث الشامل الذي جرى في باريس:

سبق وقلت في أجواء انتشار جائحة "كوفيد-19"، "إن العالم معتلّ ومريض". وتبيّن لاحقاً أن العالم بات عليه أن يتعايش مع الجائحة بالمعنى الواسع للكلمة. هل العالم مضطر الى التعايش مع "أمراضه" السياسية والاقتصادية؟

المشاكل التي يواجهها العالم اليوم متنوعة وبعضها خطير. اللائحة طويلة، لكن يجب أن نحاول حصرها بالأكثرها خطورة. أرى ثلاثة أسباب للقلق العميق، وكلها بمعنى من المعاني سياسي.

السبب الأول، هو التغير المناخي الذي يجعل من صعود مياه البحار وإمكان أن تُغطي مساحات من اليابسة. هذه التغيرات غير طبيعية بمعنى أنها من صنع الانسان. في الصيف الماضي، كانت هناك فيضانات غير مسبوقة في باكستان، بحيرات هائلة في الصين لم يعد فيها سوى ربع أو خمس كميات المياه المعتادة، موجات حرارة قاتلة في بلدان في شمال الكرة الأرضية مثل بريطانيا والمانيا.

التغير المناخي أمر من الصعب أن نقول إنه مجرد فرضية علمية. أنا مقتنع به مئة في المئة لكن مصدر القلق هنا سياسي. لأنه إذا كان معظم التغير المناخي سببه نشاط الإنسان فعلى الدول والحكومات أن تعالج هذه الظاهرة. وهي بدأت بذلك منذ بروتوكول كيوتو قبل 30 سنة إلى مؤتمرات واتفاقات مؤتمر باريس، لكن التنفيذ غير موجود. أولاً، لأن التنفيذ مكلف مادياً. ربما باستطاعة اوروبا أن تنتقل إلى اقتصاد لا يسرّع التغير المناخي لكن عددا كبيرا من الدول الأخرى عاجز عن ذلك مالياً. ثانياً، لأن جزءاً من الرأي العام لا يزال غير مقتنع فلا يضغط في هذا الاتجاه. ثالثاً، لأن هناك شركات متنفذة لا تريد لهذه السياسات أن تطبق فهي بالتالي تعرقل وتحوّل وتموّل لوبيات لعرقلة ذلك. رابعاً، وهو الاهم، أن حروباً ومشاكل تحصل، تؤجل أيضاً هذا الأمر. الألمان مثلاً كانوا على وشك إقفال ثلاث محطات نووية. مع حرب أوكرانيا وتوقف تدفق الغاز الروسي أصبحت هناك عودة إلى النووي وأيضاً إلى الفحم (الحجري).

AP
مسافر يسير خارج مركز اختبار COVID-19 في مطار إنتشون الدولي في إنتشون، كوريا الجنوبية، الجمعة 10 فبراير 2023.
  • ومصدر القلق الثاني؟

مصدر القلق الثاني عندي هو في النظام الاقتصادي العالمي. ربما كانت المخاوف من انكماش كبير في النمو مبالغا بها بعد الجائحة ولكن من الواضح أن هناك تضخما مقلقا ولو أن حدّته تختلف من بلد الى آخر وأن التوقع الغالب اليوم هو في انكماش ولو ضئيل في النمو، حتى في الصين بعد خروجها من أسر سياسة صفر كوفيد التي أنهكت اقتصادها. هذا يعني أن الاستثمارات الخارجية التي شهدت نوعا من التباطؤ في السنوات الأخيرة ستبقى على مستواها في أفضل الأحوال. وهذا يعني أيضا أن المساعدات الخارجية للدول الأكثر فقرا لن تكون بمستوى الحاجات لا سيما إن أضفنا إلى الحاجات المعهودة النتائج الكارثية للحرب الأوكرانية وللفيضانات الباكستانية وللزلزال الرهيب في تركيا وسوريا. المنظمات الدولية المهتمة بالشأن الانساني تحدد أرقاما لما هو مطلوب في كل حالة ولكن التعهدات من قبل الدول الثرية لم تعد تفي بالحاجة بل أضف إلى ذلك أن التحويلات الفعلية هي بالإجمال أقل من التعهدات المعلنة. لذلك علينا أن نتوقع مزيدا من اللامساواة بين الدول وداخل معظم الدول حتى المتقدمة منها وهذا ما لا يطمئن على استقرارها.

  • والثالث؟

- سياسيٌّ أكثر من الموضوعين السابقين وهو موضوع استعمال القوة. هناك خمسة أو ستة قرون من تراكم القوانين والأعراف في مجال حق اللجوء إلى القوة أو مجال سبل استعمالها بطريقة مقبولة أخلاقياً. منذ القرن الخامس عشر نشأ تراث وأصبح له جانب شكلي ومكتوب تحول منذ نحو قرن الى معاهدات واتفاقات مكتوبة أو متفاهم عليها. وجاء انتهاء الحرب الباردة ليعطي أملاً بأن استعمال القوة سيصبح استثنائياً بل صدرت الكتب والتحليلات التي تبشر بانتهاء الحروب تماماً. صحيح أن هناك عدداً من الحروب الأهلية نشبت بعد انتهاء الحرب الباردة، في يوغوسلافيا وفي آسيا الوسطى وفي عدد من الدول الأخرى، ولكن تم لجمها إلى حد كبير ولم تمتد إلى علاقات الدول الكبرى في ما بينها بل رأينا أن الدول الكبرى تتعاون أحياناً لحل هذه المشكلات. أتذكر مثلاً أنه كان لي بعض الدور البسيط في التوصل إلى اتفاق الطائف. وأقول اليوم إنه لولا البيريسترويكا والعلاقات الممتازة التي كانت قد نشأت بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية بعد 1988 التي سمحت بخلق جو مؤاتٍ، لكان من الصعب يومها التوصل إلى ذاك الاتفاق أو الى اتفاقات حل نزاعات أخرى تم التوصل اليها في الفترة نفسها، في السلفادور ونيكاراغوا وغيرها من مناطق النزاعات في العالم.

ليس فقط الدول العظمى توقفت عن تمويل الحروب بالوكالة في القرن الافريقي مثلاً بين اثيوبيا والصومال أو في لبنان أو في أماكن أخرى، لكن أكثر من ذلك هي ساهمت أحياناً في إطفاء عدد من الحروب من خلال التعاون، ومن خلال مجلس الأمن. لكن في القرن الحادي والعشرين رأينا أن هذه العشرية أدت بعد انتهاء الحرب الباردة الى شيء مختلف لدى القوة العظمى في العالم التي هي الولايات المتحدة. كسرت واشنطن كل الأعراف والقوانين وقرارات مجلس الأمن بغزو العراق في ربيع 2003. هذا الغزو كانت أسبابه ربما الشعور المبالغ فيه بالقوة والشعور بأن هناك ظرفاً تاريخياً مناسباً للولايات المتحدة لكي تتخلص من بعض الخصوم الذين يزعجونها. لكنها كانت سابقة في غاية الخطورة لأن الدولة العظمى والدولة التي كان لها الدور الأكبر في بناء المؤسسات الدولية لا سيما الأمم المتحدة سنة 1945، هي التي تُقدم على خرق هذه الأعراف والقوانين وتقوم بحرب غير مبررة، بل غير قانونية كما قال الأمين العام السابق كوفي أنان.

ربما كانت المخاوف من انكماش كبير في النمو مبالغا بها بعد الجائحة ولكن من الواضح أن هناك تضخما مقلقا ولو أن حدّته تختلف من بلد الى آخر

 

  • كيف أثّر غزو العراق؟

- أدى غزو العراق في الواقع الى أن استسهال استعمال القوة انسحب من الدولة الكبرى الى دول كبرى أخرى، فوجدنا أن الصين تتعامل بطريقة مختلفة مع التيبت وخصوصاً مع هونغ كونغ وربما يوماً من الأيام مع تايوان وربما أيضاً مع جيرانها مثل فيتنام والفيليبين في عملية تحديد الحدود.

وجدنا أن روسيا بعد حرب العراق هجمت على جورجيا واقتطعت جزءاً منها أنشأت فيه جمهوريتين مستقلتين ثم بعد ذلك هاجمت أوكرانيا وأيضاً اقتطعت جزءاً من منطقة الدونباس وضمّت شبه جزيرة القرم ثم مناطق شرق أوكرانيا.

لم ينسحب سلوك الولايات المتحدة على روسيا وعلى الصين فحسب، بل انسحب أيضاً على دول متوسطة القوة أيضاً مثل تركيا التي تدخلت في سوريا والعراق وليبيا وغيرها وموجودة في الصومال وفي عدد من الدول الأفريقية وبنت قاعدة في قطر. وانسحب طبعاً على ايران التي لها أيضاً تدخلات في أكثر من مكان وهي تجاهر علناً بسيطرتها اليوم على القرار في أربع دول عربية. ثم انتقل هذا الأمر الى دول أصغر أو ما يُسمّى "اسبرطات صغيرة".هناك دول عربية صغيرة بدأت تتدخل هنا وهناك. في افريقيا لديك على الأقل دولتان تستعملان القوة بصورة متكررة هما تشاد التي نرى جنودها في غير مكان في القارة الافريقية وخصوصاً رواندا بقيادة الرئيس بول كاغامي.

اذاً، "اسبرطة الكبرى" خالفت القانون وتدخلت، فلحقتها "اسبرطات"أخرى من القوى الكبرى ثم لحقتها دول متوسطة ثم لحقتها أيضاً دول صغيرة. في العشرين سنة الماضية رأينا أن هناك استسهالاً لاستعمال القوة.

  • ثم جاءت الحرب الاوكرانية...

أعتقد أن ما حصل في الاقتصاد حصل أيضاً في استعمال القوة، بمعنى أن كل الفلسفة النيوليبيرالية التي غزت العالم بعد سنة 1980 مع مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان وغيرهما وانتقلت الى معظم دول العالم، قائمة على فكرة رفع القيود عن التجارة ورفع القيود عن الاستثمار وتخفيف القوانين وتسهيل الاستثمارات الخارجية وتسهيل انتقال السلع والمواد وما شابه والرساميل. هذا  انسحب أيضاً على استعمال القوة. أصبح هناك نوع من استسهال لرفع القيود ورفع القوانين التي تلجم استعمال القوة، وبالتالي عندما بدأت الحرب الاوكرانية كانت نوعاً من التتويج لهذا المسلك الذي بدأ منذ غزو العراق ومرّ بجورجيا وهونغ كونغ وعدد من الدول الافريقية والعربية. وجاء بصورة أكبر لأن أوكرانيا بلد أكبر. لذلك، فصلُ الحرب الاوكرانية عن هذا التطور السلبي منذ العام 2003 هو خاطئ في رأيي. هذه خطوة أكبر، ضمن صيرورة عمرها 20 سنة. تلك مصادر القلق الثلاثة بالنسبة إليّ.

Reuters
بحارة أميركيون مكلفون بإعداد المواد المسترجعة في المحيط الأطلسي من منطاد صيني، أسقطته القوات الجوية الأمريكية قبالة سواحل كارولينا الجنوبية لنقلها، 10 فبراير 2023.
  • إذا ربطنا بين مصادر القلق الثلاثة مع الحرب الاوكرانية مع التوتر في تايوان، كلها مؤشرات تدل كأن العالم الذي عرفناه سابقاً سينتهي ووكأن هناك مخاضاً لشيء جديد. هل هذا توصيف دقيق؟ هل توافق أن مخاضاً يجري سواء على المستوى الاقليمي أو الدولي وسيؤدي الى شيء جديد؟ وإن كنت توافق على فكرة المخاض فإلى أين يمكن أن يؤدي وفي أي اتجاه؟

عندما تتحدث عن مخاض، فأنت تشير إلى ظهور وليد جديد. نحن الآن نشعر بأوجاع ذاك المخاض لكننا لا نتلمس بعد معالم وجه الوليد. شعوري أننا لسنا في خضم تغيير سطحي في تركيبة النظام الدولي بل في مرحلة من التحول البنيوي الآيل إلى تعديلات عميقة في نسق العلاقات الدولية.

هناك ولا شك تعديل في توزيع القوة في النظام الدولي ولكن هذا التعديل يتم على مستويات مختلفة لذا فهو شديد التعقيد. هو يتم أولا على مستوى تاريخي في وضع الرجل الأبيض مقارنة بالكتل البشرية الأخرى. نحن نعيش بلا شك تقلصا لسيرورة بدأت منذ نحو خمسة قرون تمكن خلالها الرجل الأبيض من الخروج من مواطنه الأوروبية والانتشار عبر العالم في اميركا الشمالية كما الجنوبية، في اوستراليا ونيوزيلندا وغيرها من البلدان. وإلى جانب هذا التوطن الذي تم ترافق أحيانا مع افناء الشعوب المحلية في مجازر مرعبة فقد تمكن الرجل الأبيض من استلحاق مساحات هائلة من العالم بسيطرته الاستعمارية والمثال الأبرز على ذلك هو تمكن أوروبا وبريطانيا بالذات من السيطرة الفعلية خلال القرن التاسع عشر على الاقتصاد الصيني الذي كان آنذاك أكبر اقتصادات العالم ومن الاستلحاق الكامل للاقتصاد الهندي الذي كان ثاني اقتصادات العالم بحيث إن نظرت إلى خريطة العالم منذ نحو قرن لوجدت أن الرجل الأبيض كان يمثل 27 في المئة من البشرية ولكنه يسيطر بشكل أو بآخر على نحو 82 في المئة من الكرة الأرضية. هذه السيطرة تنحسر اليوم بصورة جلية إذ يمثل الرجل الأبيض نحو 17 في المئة أو أقل من البشرية وهو يسيطر على 30 في المئة أو أقل من الكرة الأرضية. يحصل هذا التحول ببطء منذ نحو قرن ولكنه يتسارع الآن بفعل الانفجار السكاني في الهند وخصوصا في افريقيا مع تدهور واضح في المؤشرات الديمغرافية في كل الدول الغربية ناهيك عن روسيا واليابان وحتى الصين.

على مستوى أقرب الينا تاريخيا نرى توزيعا مختلفا للقوة بدأ منذ نحو ثلاثة عقود مع انهيار الاتحاد السوفياتي. هنا نرى أن قوة عظمى ذات طموحات عالمية انكمشت إلى اقتصاد يوازي الاقتصاد الاسباني وإلى افتقاد معظم عناصر القوة باستثناء القدرة العسكرية. ولكن انتصار الغرب في الحرب الباردة هو إلى حد كبير إعادة توزيع القوة داخل بيت الرجل الأبيض لمصلحة اميركا وعلى حساب روسيا مثلما كانت الحرب العالمية الثانية إعادة توزيع القوة على حساب ألمانيا ولمصلحة اميركا. ولكن هذا التغير لا يجب أن يحجب ما هو حاصل خارج بيت الرجل الأبيض من صعود متسارع للقدرات العسكرية الصينية وعودة الهند الى الصدارة وإعادة تسلح اليابان وتملك كوريا الشمالية للسلاح النووي. بمعنى آخر هناك حركية واضحة لمصلحة الولايات المتحدة داخل المجموعة البيضاء بينما هناك في الوقت عينه توزع جديد للقوة على المستوى الكوني لغير مصلحة هذه المجموعة.

"اسبرطة الكبرى" خالفت القانون وتدخلت، فلحقتها "اسبرطات" أخرى من القوى الكبرى ثم لحقتها دول متوسطة ثم لحقتها أيضاً دول صغيرة

  • هل هذا يتغير؟

-كانت هناك هيمنة غربية لقرون خلت. سنة 1930 كان الرجل الأبيض يشكل نسبة 27 في المئة من البشرية ويسيطر على 82 في المئة من الكرة الأرضية بما فيها أوستراليا والهند وغيرهما. اليوم لم يعد الرجل الأبيض يمثل سوى 17 في المئة من البشرية ولم يعد يسيطر سوى على 30 في المئة من الكرة الأرضية، مما يعني أن هناك تراجعاً. ناهيك بأسباب التراجع الأخرى مثل قيام القوة الاقتصادية الصينية وقيام القوة الهندية إلى ما شابه، وضعف امكانات الغرب في التدخل العسكري. أوروبا كلها ليس لديها 30 ألف عسكري تستطيع إرسالهم إلى الخارج، كإيران مثلاً، من أصل 500 مليون اوروبي. فرنسا قد تستطيع إرسال 7000 أو 8000 جندي. الجيش البريطاني اليوم هو أقل عدداً مما كان عليه أيام كرومويل، دون الـ 100 ألف ربما نحو 75 أو 80 ألفاً. ما يسمى power projectionضعف في الغرب. الاميركيون لا يزال لديهم ذلك ولكن لديهم رأي عام لا يحب أن يبقى الجنود فترة طويلة في الخارج. هناك أسباب عدة، موقع اميركا في الناتج العام العالمي كان 48 في المئة سنة 1945، اليوم هو في حدود 21 في المئة. مهما كانت المعايير المستعملة: عسكرية، اقتصادية، سيطرة أمنية على اليابسة... هناك تراجع للغرب.

رأينا ما فعل الغرب: تَحَارب في ما بينه واستوطن واستعمر ثم بعد 1945 وافق على إنهاء الاستعمار وإنشاء منظمات دولية.

AFP
خريطة سياسية للعالم تمّ التقاطها في 8 فبراير 2023 في متجر كتب في موسكو.
  • لكن من يتحدث اليوم عن أفول الغرب، ماذا يقدم؟

بالفعل، ماذا يجمع بين روسيا والصين والبرازيل وجنوب افريقيا والبريكس؟ لا يجمعها شيء. نحن نعلم تقريباً النسق الذي أنشأه الغرب في العالم وطوّره، ولكن ما هو النسق البديل؟ من السهل التحدث عن أفول الغرب ولديك معايير كثيرة عن أفول الغرب لكن ما هو البديل؟ هل تكفي الدعوة إلى الاستقلال الوطني كقاعدة لنظام دولي بديل كما يفعل الروس أو الصينيون خصوصاً؟ استقلال ماذا؟ والعلاقات الدولية مبنية على ماذا؟ هل المنظمات الحالية ستُدفع إلى الهامش أو سيستولي عليها الأقوياء الجدد؟ لذلك أنا أقول إن هناك مخاضاً ولا شك نراه في خطوط بيانية واضحة، صعود لبعض الناس، تراجع لبعض الناس أكيد، لكن ما هو البديل من النسق الغربي الذي فرضوه علينا؟ فكرة الدولة الحديثة فكرة غربية، فكرة الديمقراطية فكرة غربية، فكرة الأمم المتحدة فكرة اميركية، ما هو بديل هذه المؤسسات والأعراف والقوانين التي مصدرها في الأساس غربي، ما هو البديل؟ هل يكفي أن نقول أنا لا أسير في قضية المثليين بينما الغرب المتهالك يهتم بحقوق المثليين وأنا لا أقبل بذلك لأن ثقافتي مختلفة؟ هذا لا يكفي، هذا نوع من الممانعة (أو قل من الاستقلالية القيمية) لا يكفي لتصور أسس مختلفة للنظام الدولي القائم.

هل تحاول الصين، باعتبارها قوة صاعدة، وروسيا، أن تقدما هذا النموذج الشمولي: الدور الأساسي للدولة والدولة المهيمنة اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، وهذا النموذج الذي يجب أن يهيمن في العالم؟

هذا ليس شيئاً جديداً وهم يفضلون ذلك ولكن ماذا تفعل بقرون من تعلق الناس بحرياتهم؟ ماذا يقولون للناس الذين يريدون المزيد من الحرية، وتعوّدوا على مستويات من الحرية؟ هل تقول لهم: خلص، انتهى، نحن نعود إلى عصور الديكتاتورية وحكم الفرد أو الحزب أو ما شابه؟ يمكن تبرير الدولة التنموية المتجبرة إنما الى حين فقط. فنحن نعيش في زمن انتقال الأفكار والمعلومات وسبل العيش عبر وسائل التواصل الحديثة ويبدو لي أن هناك صعوبة بأن تتمكن الدول من اقفال مجتمعاتها في وجه الأفكار الواردة وصور الحياة عبر العالم، وبالتالي عن إبداء الرأي المختلف أو المطالبة بحق إبداء الرأي.

مياه النهر لا تجري مرتين، والعودة الى عالم ما قبل الهيمنة الغربية نوع من الهذيان. إن كنت معارضاً لهذه الهيمنة فعليك أن تواجهها بأفكار ووسائل اليوم

 

  • هل تعتقد أن الحرب الروسية في اوكرانيا أو التصعيد الصيني في تايوان يجب النظر اليهما ليس فقط كشيء عسكري يجري بل كشيء له علاقة بما هو أوسع من الشيء العسكري؟ وما هو؟

طبعاً. هو في الحالة الصينية كما في الحالة الروسية، إعادة رسم خرائط ما قبل سيطرة الغرب. تايوان انفصلت لمصلحة اليابان. لفترة طويلة جداً كانت تايوان جزءاً من الامبراطورية اليابانية في القرن التاسع عشر عندما قوي ساعد اليابان ثم أصبحت بحماية اميركية منذ ذلك الحين. لا شك أن هناك في الصين من يعتقد أن عملية انهاء الهيمنة الغربية على النظام الدولي يجب أن تضم أيضاً استعادة تايوان الى أمها الصينية. ما يحصل في اوكرانيا هو أن هناك جزءاً واسعاً من الرأي العام الروسي يعتقد أن هناك مناطق ودولاً لا وجود حقيقياً لها، نشأت فقط بسبب السيطرة الغربية على النظام الدولي.

الشيء المشترك بين الأمرين هو العودة إلى ما قبل الهيمنة الغربية. صحيح، هو استكمال وتسريع عملية انحسار النفوذ الغربي عليهما. هذا هو المنطق الذي يقودهما. لكن مياه النهر لا تجري مرتين، والعودة الى عالم ما قبل الهيمنة الغربية نوع من الهذيان. إن كنت معارضاً لهذه الهيمنة فعليك أن تواجهها بأفكار ووسائل اليوم، تماماً كما فعلت القوى المناهضة للاستعمار باستعمال الأفكار التي أنتجتها اوروبا نفسها للقضاء على استعمارها.

  • في الوقت نفسه رأينا أن الشيء الجديد هو أن الاميركيين أخذوا من الحرب الاوكرانية والتصعيد مع تايوان مدخلاً لإعادة شد العلاقة العابرة للأطلسي و"الناتو". هل الاميركيون غير قابلين بفكرة انحسار الغرب وسيحاولون قدر الإمكان الحفاظ على القيادة الغربية للعالم؟

من دون أي شك، النظرية السائدة خلال الحرب الباردة كانت أن لا يتراجع نفوذ دولة كبرى إلا وتحاول أن توقف هذا التدهور بطريقة عسكرية. هذا ما كنت تعلّمته في الجامعة وما علّمته أيضاً. هذه كانت الفكرة السائدة، هذا ما كان يسمى بـ"الفكر الواقعي الجديد"، وكان له أربابه في السبعينات والثمانينات وكانت هي الفكرة السائدة. ثم فوجئ العالم بأن قوة عظمى كبيرة كالاتحاد السوفياتي تتقلص مساحتها بطريقة دراماتيكية ويتقلص نفوذها في العالم بطريقة دراماتيكية ولا تُقدِم على حرب عالمية.

  • ألم تحاول روسيا في أفغانستان أن توقف هذا التدهور؟

في أفغانستان كانت في عز نموها، عندما دخل الروس الى أفغانستان سنة 1980 دخلوا أيضاً الى موزامبيق وانغولا والى عموم افريقيا، كان الاتحاد السوفياتي في مرحلة انتشار واسع، وبالتالي جاءت الريغانية لمحاولة لجم التوسع السوفياتي.

كتب الفصل الأخير في أفغانستان وانسحب، لكن عندما تدهور الاتحاد السوفياتي سنة 1989-1990-1991 كان الشعور الغالب أنه لو نجح الانقلاب آنذاك ضد ميخائيل غورباتشوف ولم ينقذ بوريس يلتسين غورباتشوف من ذلك الانقلاب ويستولي على السلطة، لو نجح الآخرون بقياة غينادي ياناييف واستولوا على السلطة كان من المفترض أن يكون رد فعلهم بعدوان خارجي ربما بحرب كبيرة لمنع هذا الانزلاق نحو الهاوية الذي كان يشعر به الاتحاد السوفياتي. المفاجأة الكبرى كانت أن الروس بدوا كأنهم إما غير راغبين أو غير قادرين على حرب عالمية توقف الهبوط في موقعهم الدولي.

الآن نشعر بالأمرين معاً، نشعر بأن روسيا تقوم بما لم تقم به سنة 1990 بغزو، أو عمل عسكري متأخر، لكن عندما اعتقد فلاديمير بوتين أنه تمكن من إعادة بناء الجيش الروسي وأصبحت لديه من خلال اتفاقات الغاز قدرة للضغط أكبر بكثير على الدول الأوروبية. ونرى في الغرب أن لدى الولايات المتحدة بعدما سمعت كثيراً عن أفول النفوذ الغربي رغبة واسعة بأن تثبت بأنها لا تزال القوة الكبرى في العالم. لذلك مصدر القلق بالذات، هناك دول كبرى باتت لا ترتدع عن استعمال القوة العسكرية لإثبات أنها لا تزال في موقع متقدم. الروسي يريد أن يثبت للاميركي أنه لا يزال على مستوى من الندية معه كما كان أيام الحرب الباردة على الرغم من أن إمكاناته لا تسمح له بذلك.

Reuters
جنود أوكرانيون يطلقون صواريخ من طراز BM-21 Grad باتجاه مواقع روسية على خط المواجهة بالقرب من بلدة مارينكا، وسط هجوم روسي على أوكرانيا، في منطقة دونيتسك، أوكرانيا، 7 فبراير 2023.
  • هل أنت قلق من احتمال مواجهة مباشرة اميركية – صينية – روسية؟

أنا قلق عندما أسمع نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري مدفيديف يقول يوماً بعد يوم إننا يمكن أن نستعمل النووي وإن الاوروبيين قد يروا منا شيئاً لم يروه من قبل. ماذا يعني شيئاً لم يروه من قبل إلا النووي عملياً؟

طبعاً خائف من "تتفيه"السلاح النووي. السلاح النووي لا يمكن اعتباره مرحلة متقدمة من السلاح التقليدي. عندما ضربت اميركا هيروشيما وناغازاغي قال كثيرون آنذاك إن هذا نوع من السلاح أقوى من السلاح المدفعي الثقيل ونحن بضربنا هيروشيما وناغازاغي قللنا عدد المصابين اليابانيين لأن البديل كان قصفا يوميا على طوكيو وقتل الملايين من البشر، فالأفضل أن تستعمل السلاح النووي فتظهر اليابان أنها عاجزة عن مواجهة الولايات المتحدة لأن هذه الأخيرة أصبح لديها سلاح متقدم. لكن كل الفكر الاستراتيجي في الخمسينات والفكر الذي أطلقه هنري كيسنجر من العدم، أو غيره، قام على العكس من ذلك بالقول إن السلاح النووي ليس سلاحاً تقليدياً أكثر فعالية. هو سلاح راديكالي مختلف عن السلاح التقليدي، وبالتالي يُستعمل بصورة أساسية لأهداف دفاعية. أنت تخبر العالم بأن لديك سلاحاً نووياً لكي لا يقوم أحد بالهجوم عليك.

خلال كل الحرب الباردة كان هناك 13 انذاراً نووياً من قبل الولايات المتحدة وروسيا، 12 خلال أكثر من 40 سنة، منهامرة على لبنان، مرّتان على قناة السويس، 3 مرات لها علاقة بالصين، 3 مرات لها علاقة بكوبا، و3 مرات لها علاقة ببرلين. وكان على معيار من 5 درجات، أعلى درجة وصله الإنذار كان 3 من أصل 5، لا سيما وقت الدفرسوار.

  • كثر الحديث عن السلاح النووي بعد حرب أوكرانيا...

لا يمر يوم واحد في حرب اوكرانيا لا نسمع فيه بالنووي. هذا النوع من "التتفيه" للسلاح النووي أمر في غاية الخطورة لأن هذا التتفيه سينسحب أيضاً على الدول النووية الأخرى. سنسمع اسرائيليين يتحدثون وباكستانيين وهنوداً. كلنا وضعنا أيدينا على قلوبنا عندما حصل اصطدام بين باكستان والهند في أعالي هملايا. الحمد لله لم يتحدث أي من الطرفين عن السلاح النووي. اليوم روسيا التي هي ثاني دولة حصلت على السلاح النووي تتحدث عنه بهذه السهولة. هذا أمر في غاية الخطورة.

  • هل فعلاً لا تستبعد احتمال استعمال السلاح النووي؟

لا أستبعد استعماله بالمطلق. لا أعتقد أن استعمال السلاح النووي محتمل لكنه لم يعد مستبعداً بالمطلق كما كان في السابق. كان هناك تحريم نووي حقيقي لكن هذا التابو انكسر.

  • في حديث سابق بيننا ذكرت أنك لا تحب توصيف "الحرب الباردة" لأن ما يحصل ليس حرباً باردة. ما هو ؟

الحرب الباردة كانت تتميز على الأقل بأمرين. الأمر الأول هو الردع والردع المتبادل المبني على النووي من دون ذكر هذا الأمر. هناك معادلة في حال قصفتَني لديَّ من إمكانات الرد بطريقة أني أصيب مدنك الأساسية، فبالتالي أنت لديك نووي وأنا لديَّ نووي، وبالتالي لن نصطدم بطريقة مباشرة على الإطلاق. في الوقت نفسه فرضت قواعد للاشتباك إلى حد ما بين الجبارين. لكن الحرب الباردة كانت تضم شيئاً ثانياً أيضاً: لا أنا بحاجة إليك اقتصادياً ولا أنت بحاجة إليَّ اقتصادياً .كان مستوى التبادل التجاري بين روسيا واميركا لا يزيد على 50 مليون دولار في السنة. هناك مئات الأضعاف من التبادل التجاري اليوم بين الصين والولايات المتحدة. كان هناك أمر ثالث في الحرب البادرة أيضاً، أما وقد منعنا الحرب في ما بيننا، فيمكننا أن نستعمل كل حروب الهامش لكي نثبت قوتنا وعظمتنا ونفوذنا. حروب بالوكالة ما شئت: من كوريا الى فيتنام الى الشرق الأوسط الى موزامبيق الى انغولا الى كوبا الى نيكاراغوا... في كل أنحاء العالم مع تجنب الاصطدام المباشر.

وهناك أيضاً شيء رابع في الحرب الباردة وهو أننا نحن لا نريد إعادة صياغة الحدود. الحدود تبقى كما هي ولكن يهمنا التوجه الايديولوجي للأنظمة داخل الحدود. ولكن نحن لا فرق لدينا إن كانت بنغلاديش ستستقل أم لا، أو أن فلسطين ستنشأ أم لا، أو أن الأكراد يريدون دولة أم لا، هذه الأمور لا تعنينا. نحن قابلون بالوضع الراهن الاقليمي status quoلكن توجه الدول، إذا مصر مع اميركا أو مصر مع روسيا فهذا أمر نعمل عليه بعضنا ضدّ بعض لكن لا نتلاعب بالحدود. المانيا الشرقية هنا والمانيا الغربية هناك.

  • أي اتجاهات الأنظمة وليس الخرائط؟

الآن النقاط الأربع لا أجدها. أولاً، هناك حديث عن النووي بين الدول الكبرى، لم يعد النووي من المحرّمات بين الدول الكبرى. ثانياً، هناك تواصل اقتصادي ومالي كبير جداً لا سيما بين الصين واميركا وإلى حد ما بين روسيا واميركا، اعتماد متبادل اقتصادي ومالي. ثالثاً، هناك لعبٌ بالحدود في كل مكان. لم يعد هناك حدود لا نلعب بها بل نلعب بالتوجهات بينما المنظار الايديولوجي ضعيف جداً فلا روسيا تعتبر نفسها مرجعية الشيوعية ولا الولايات المتحدة فعلاً تسعى الى نشر الديمقراطية. ورابعاً، الحروب بالوكالة ليس فقط نعود اليها بل نمارسها بأنفسنا. اميركا دخلت بنفسها الى العراق، وليس كما حصل سابقاً في الحرب العراقية – الايرانية عندما حركت العراق ضد ايران. وروسيا لم تحرك بيلاروسيا في اتجاه اوكرانيا بل هي دخلت إلى اوكرانيا. وبالتالي لم تعد الحروب حروب الآخرين ونحن نساعدهم من الخارج أو نحن من عوامل التمكين enablers.نحن أطراف مباشرة في هذه الحرب. عندما يستفيق بوتين في كل صباح يسأل نفسه ماذا حضّر لي الاميركيون خلال هذا الليل لإزعاجي في اوكرانيا، وليس ما اخترع الاوكرانيون بل ما يحضّر لي الاميركيون خلال الليل ليخرّبوا الغزو الذي أقوم به. لم تعد حروباً بالوكالة. بوتين نفسه داخل في الحرب وهو يقودها. وفي اميركا كان جورج بوش يقود الحرب مع الجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات الاميركية في بغداد وقد كنت هناك. ليست مثل حرب فيتنام، لا حروب بالوكالة الآن. أصبحت حروباً مباشرة. الجيش الفرنسي دخل بنفسه الى مالي وليس أي أحد آخر. لم يقم الجيش الفرنسي بدعم الجيش المالي لكن هو دخل مالي ليحارب قبل أن يضطر الى الانسحاب. ما نراه الآن أني لا أجد العناصر الأربعة التي كانت تميز الحرب الباردة. أجد غيرها. لذلك أقول لك إن هناك مخاضاً ولكن لم أر بعد مواصفات الوليد.

  • من الأمور التي تغيرت بعد الحرب الروسية في اوكرانيا، أن هذا الشيء الذي تعودنا عليه بعد الحرب العالمية الثانية يتغير. مثلاً اليابان، والمانيا بشكل أكبر بكثير أجرت انقلاباً على علاقتها بالعسكر والدفاع. ما قراءتك لهذا؟

كان لديّ  صديق أستاذ ألماني اخترع تعبير "القوة الخفيفة" light powerوأعطى نموذجاً بالذات المانيا واليابان على أنهما قوتان مركزهما قوي جداً في الاقتصاد العالمي، من الخمس الأوائل، ولكن في العسكر الوضع تعيس. أذكر أن صديقنا (الرئيس السابق لاقليم كردستان العراق) مسعود برزاني عندما بدأ الهجوم على "داعش" كان الفرنسيون والألمان أعطوه (صواريخ) ميلان فاكتشف أن الميلان الذي زوده إياه الألمان انتهت صلاحيته منذ ثلاث سنوات ولا يمكنه استخدامه. اكتشف ذلك وهو أخبرني شخصياً بذلك وقال لي إن الفرنسيين أنقذوا الموقف.

صديقي الذي ابتدع فكرة "القوة الخفيفة" إسمه هانس مول وأنا استعملتُها واستهوتني ثم، بعد نحو ست سنوات، بنى عليها جو ناي الأستاذ في هارفرد فكرة القوة الناعمة (soft power). من منطلق أن من يحتاج الى العسكر بعد الآن؟ وفعلاً إذا راجعنا بالأرقام، الهبوط في الموازنة العسكرية فظيع في مختلف دول العالم. القوة الناعمة أصبحت صناعة. فإذا كنت ضعيفاً عسكرياً تواسي نفسك بأنك تتمتع بالقوة الناعمة.

القوة الناعمة ماتت في بغداد سنة 2003 عندما طلع المحافظون الجدد بفكرة جديدة ثم طوّرت في كتاب مشهور "خطة البنتاغون" Pentagon Plan لكن بول وولفويتز (نائب وزير الدفاع الاميركي الأسبق) كان مقتنعاً بها ومفادها أنه لا يكفي أن تكون نموذجاً يعجب العالم. كما قال جو ناي إنك نموذج الكل سعيد به فالكل يريد أن يتناول وجبات ماكدونالدز ومعجب بالدستور الاميركي ويتابع أفلام هوليوود. هذا لا يكفي. هناك ناس تحتاج أن تستعمل العسكر لاقتلاعهم. وهذه فكرة المحافظين الجدد، يومها ماتت القوة الناعمة، مع الماكدونالدز تحتاج إلى دبابة. هناك ناس لا تنفع معهم القوة الناعمة من أمثال نيكولاس مادورو وصدام حسين، بل تحتاج أن تقتلعهم. هنا سقطت نظرية القوة الناعمة.

على الصعيد الفكري، جو ناي نفسه راجع نظرية القوة الناعمة وتخلى عنها وقال إن المطلوب هو القوة الذكية smart powerوهذه ما بين القوة القاسيةhard power والقوة الناعمة، أي أنك بحاجة الى ماكدونالدز ودبابة.

مشكلة روسيا الأساسية اليوم أنه ليس لديها ايديولوجية أممية، ليس لديها مبرر لأن تتدخل في غير مكان. قد يستعمل رجب طيب اردوغان الإسلام، ولكن ماذا لدى روسيا؟

 

  • هل تغير الوضع في اليابان واميركا؟

الدولتان النموذجيتان أتاهما ما يجعل وضعهما يتغير. في اليابان بدأ الامر من نحو 20 سنة، حتى قبل أن يتسلم شينزو آبي الحكم في ولايته الأولى، وبدأ بالاضطرابات في اليابان التي كان وراءها القلق من كوريا الشمالية ثم بملاحظة اليابانيين لنمو القوة العسكرية الصينية. بدأ هذا النمو بعد نحو عشر سنوات أو 12 سنة من بداية النمو الاقتصادي. بدأت القوة العسكرية مع تجربة دينغ شياو بينغ، والآن بنوا ثالث حاملة طائرات. الياباني يرى أن الكوري يستفزه، والروسي ليس مستعداً للتفاوض على الجزر اليابانية. والكوري الشمالي يطلق يوماً بعد يوم صواريخه البالستية فوق الجزر اليابانية، والصين تكبر ويتعاظم نفوذها. بدأت اليابان بصورة تدريجية أولاً بالاشتراك في عدد من عمليات حفظ السلام في كمبوديا وفي سوريا وغيرها. ثم انتقلت الى زيادة الموازنة تدريجياً ثم انتقلت الى نقاش جدي حول إمكان تعديل الدستور. واليابان كما تعلم، دولة قادرة على انتاج سلاح نووي خلال ستة أشهر، وهي ضمن 15 دولة أخرى في العالم لديها هذه القدرة، بينها المانيا والسويد والبرازيل والأرجنتين وجنوب افريقيا.

في اليابان، في الولاية الثانية لشينزو آبي التي دامت نحو عشر سنوات، ومنذ ذلك الحين من دون أي شك، هناك إعادة نظر عميقة لم تمتد حتى الساعة الى الدستور ولكن من دون أي شك هناك عملية إعادة نظر في الاكتفاء بالحماية الاميركية على الرغم من أهمية هذه الحماية الموجودة على الأرض اليابانية في اوكيناوا.

المانيا لم تتحرك خلال كل هذه الفترة بل وجدنا أن هناك في المانيا تياراً فعلاً استوعب فكرة القوة الناعمة إلى أقصى الحدود إلى درجة أنها أصبحت أول مصدّر في العالم تعتمد بصورة أساسية على السوق الصينية الى حد كبير. كانت انغيلا ميركل تصطحب معها مئتي رجل أعمال وصناعي في كل زيارة لها للصين، وأيضاً ببناء نورد ستريم ونورد ستريم 2، أي الاعتماد المطلق على روسيا في موضوع الغاز. 55 في المئة من واردات الغاز تأتي من روسيا. من يتصرف بهذه الطريقة يعتقد أن الحرب بين الدول الكبرى قد انتهت وأن التنافس الاقتصادي والرياضي حلّا مكان التنافس العسكري. فكانت المفاجأة الأولى التي تمّ نوعاً ما تناسيها في جورجيا وفي اوكرانيا وفي مولدوفا لفترة من الزمن، وجاء الهجوم الأخير على اوكرانيا فأصيب الألمان بصدمة حقيقية. وما اعتمل تدريجياً في رأس اليابانيين على فترة عقدين أو ثلاثة، حصل في ثلاثة أيام بين 24 و27 فبراير/شباط 2022 في المانيا. خلال ثلاثة أيام استفاق الألمان على عالم آخر واكتشفوا أن ليس لديهم جيش وليس لديهم سلاح وهم في حالة تبعية للسوق الصينية وللغاز الروسي وعليهم أن يغيّروا مسلكهم بطريقة جذرية.

في حقيقة الأمر لعب حزب الخضر ربما مع الحزب الاشتراكي الالماني، دوراً كبيراً في تسهيل هذا الانتقال، إن بقرار إنفاق مئة مليار دولار فوراً، في 27 فبراير/شباط بعد ثلاثة أيام على غزو اوكرانيا، وإنفاق إضافي على الموازنة العسكرية وإنفاق من ذلك المبلغ بصورة أساسية لشراء طائرات من اميركا، وطبعاً قرار زيادة الموازنة العسكرية الى 2 في المئة من الناتج العام، الأمر الذي كان الالمان قد استمروا يرفضون القيام به لمدة 40 سنة بضغط اميركي.

إذا أخذنا المانيا نموذجاً، في اوروبا مسألتان تحدثان بعد حرب اوكرانيا: العودة الى القوة القاسية أو القوة الذكية، وهناك في الوقت ذاته رغبة بالتخلي عن الاعتماد على الغاز والنفط الروسي. المسألة الثالثة أن هناك في اوروبا صعوداً واضحاً لليمين. هناك ما يحدث في اوروبا، ما بين الأزمة الاقتصادية ومشكلة الغاز والشتاء وصعود اليمين والإنفاق العسكري الزائد. نشعر أن اوروبا أيضاً قد تكون تسير في اتجاه شيء جديد.

  • هل يمكن رسم ملامح هذا الأمر؟ هل يمكن إيجاد رابط بين هذه العناصر المختلفة؟

الأمر ليس سهلاً لأن توجهات متناقضة تعتمل في اوروبا. سأعطيك نموذجاً محدداً. كان هناك نادٍ في اوروبا إسمه نادي فيشغراد (على إسم مدينة في جمهورية تشيكيا) يضم جمهوريات تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا وهنغاريا. ويجمع الدول الأربع نوع من ايديولوجية موحدة وهي رغبة في الدخول في الاتحاد الاوروبي، لكن لدى هذه الدول عداء مستميت للمهاجرين ولبعض الأفكار العصرية جداً كالمثلية. وكان أكثر الناس تشابهاً هم حزب "بيس"الكاثوليكي في بولندا وحزب فيكتور اوربان "فيدس"الكاثوليكي أيضاً في هنغاريا. يمكن القول بالنسبة إلى الحياة اليومية إن هذين الحزبين رجعيان، ضد زواج المثليين ومع العائلة، ويشتمان الغرب بصورة مستمرة. جاءت حرب اوكرانيا فما كان رد الفعل؟ هنغاريا كان موقفها أقرب الى روسيا، وبولندا كانت رأس حربة مع اميركا. عندما أقول إن التيارات متناقضة، فذلك يعني أن هذا النموذج يشير الى هذا الأمر. تَفَرّق نادي فيشغراد طبعاً لأن الدولتين الكبريين فيه، بولندا وهنغاريا، ذهبتا في اتجاهين مختلفين من موضوع الغاز الروسي، بينما في الايديولوجيا فإن الحزبين يشبه أحدهما الآخر كأنهما توأمان: حزبان كاثوليكيان رجعيان.

ما يحصل في اوروبا أمر عجيب بعض الشيء. جرت استطلاعات للرأي في بلد مثل ايطاليا قبل حرب اوكرانيا أظهرت أن الدولة المحبوبة أكثر لدى الطليان كانت روسيا والدولة التي يكرهونها أكثر شيء هي المانيا، تليها فرنسا. وكان هناك استعداد في ايطاليا لاعطاء ميناء باري للصين لتديره كما فعلت اليونان في ميناء بيرايوس. أين ذهبت هذه العواطف التي كان يحييها ماتيو سالفيني والسيدة جورجيا ميلوني والى حد ما سيلفيو برلوسكوني في علاقته الشخصية مع بوتين؟ أنا أعتقد أنها لم تندثر، اختفت لأن المواطن الاوروبي أصبح في "حيص بيص" (ارتباك). من جانب، هو لا يثق بالاميركيين ويعتقد أن لهم مسؤولية في شن حرب اوكرانيا ولا يريد أن ينبطح في يد الاميركيين، ويعلم أنه على تنافس مع الاميركيين في عدد من المجالات المالية والاقتصادية من جانب، ومن جانب آخر لا يريد أن يُصوَّر كأنه خائن وكأنه يقبل باستيلاء دولة كبرى على دولة أصغر. إذاً، هناك عواطف معادية لأميركا لم تندثر، لكن دخلت تحت السجادة، وقد يأتي يوم وتنفجر.

هناك تيارات متناقضة حالياً في اوروبا. هناك نخبة اوروبية يمثلها أشخاص مثل ايمانويل ماكرون واورسولا فون دير لاين وشارل ميشال وماريو دراغي، رئيس حكومة ايطاليا الأسبق، تعتقد أن هذا الضغط الروسي على اوروبا أحسن فرصة أعطيت لاوروبا لإعادة بناء نفسها، وبالتالي هم لا يخافون على الإطلاق مما هو حاصل. على العكس يعتقدون أنه بالإمكان حالياً تعزيز استقلال اوروبا. وهناك تيّارٌ ثانٍ تراه خصوصاً في اوروبا الشمالية يعتقد أن هذه أيضاً فرصة ولكن ليس لتعزيز استقلالية اوروبا عن كلٍّ من موسكو وواشنطن وإنما عن مزيد من توريط واشنطن في الدفاع عن اوروبا، وبالتالي تعزيز دور حلف الأطلسي. هذا الرأي ستسمعه في السويد وفنلندا والنروج وخصوصاً في الدنمارك. وهناك تيار ثالث يقول إن هناك مسؤولية كبيرة على اميركا في ما هو حاصل، ولا بد من إعادة روسيا إلى الحظيرة الاوروبية حتى لو تطلب ذلك التضحية بأوكرانيا. لديك ثلاثة آراء لكن هناك آراء يعبّر عنها بحرية الآن لأنها ضمن إطار الصواب السياسي political correctnessوهناك آراء موضوعة تحت السجادة ولكن قابلة لأن تنفجر في أي حين.

Getty Images
مؤيدو رئيس الحزب البرتغالي اليميني المتطرف آندري فينتورا يهتفون باسمه عند وصوله إلى قاعة الجلسات بعد إعادة انتخابه في اليوم الأخير من المؤتمر الوطني الخامس في 29 يناير 2023، في سانتاريم، البرتغال.
  • ماذا عن صعود اليمين أو الفوقية البيضاء في الغرب، في اوروبا/اميركا؟

في الغرب هناك صعود لليمين المتطرف نراه في استطلاعات الرأي وفي الانتخابات في كل دول اوروبا حالياً تفوّق على عتبة الخمسة في المئة وأصبحنا نتحدث عن 10 أو 20 في المئة في بعض الأحيان. وبعد فوز السيدة ميلوني في انتخابات ايطاليا، وفي الإمكان أن تأتي السيدة مارين لوبن رئيسة لفرنسا بعد أربع سنوات. هذا أمر أصبح ممكناً. هناك مسألتان، المسألة الأولى الى أي مدى تبقى هذه الأحزاب الشعبوية على أفكارها البدائية أو تتخلى عنها في حال اشتراكها في السلطة، تستعملها للوصول الى السلطة لكن تتخلى عنها بعد الوصول الى السلطة؟ هناك مؤشرات في عدد من الأماكن، في السلطات المحلية وأحياناً في الحكومات، مفادها أن اليمين المتطرف عندما يدخل الى السلطة نراه قادراً على المهادنة وقادراً على التخلي عن الأفكار الأكثر تطرفاً لديه. رأينا ذلك في الدنمارك وفي هولندا وفي السويد وفي سلطات محلية في فرنسا وفي غيرها.

السؤال الثاني الذي يطرح نفسه، هل أن موضوع الهجرة غير الشرعية هو الذي فتّق هذا الاتجاه وأعطاه نفساً دائماً أو غير دائم؟ هنا جوابي مقلق، بمعنى أنني أعتقد أن الضغط الديموغرافي من افريقيا الشمالية ومن افريقيا السوداء على اوروبا سيتضاعف. أنا لا أرى توقفاً للهجرة غير الشرعية في اتجاه اوروبا. قد تؤدي سيطرة هذا اليمين الى أعمال عنفية من نوع مختلف ضد هذه الهجرة في البحر المتوسط أو حتى في الدول المصدّرة لهذه الهجرة، لكن لأسباب لا علاقة لها بأوروبا، بل لها علاقة بالانفجار السكاني الهائل في افريقيا. لا أرى إمكان توقف هذا السيل من الهجرة غير الشرعية. لذا، فإن السبب الأول لقيام هذا اليمين المتطرف لن يندثر، وبالتالي علينا أن نتعايش معه. ضغط الهجرة غير الشرعية لا أتوقع له الإندثار بل الزيادة.

  • هل يمكن القول بوجود صراع اميركي – صيني على الموانئ والممرات؟

- هذا صراع معلن. في جوهر الموقف الاميركي ليس الموضوع موضع الموانئ أو المعابر. في جوهر الموقف الاميركي هناك شعور بالغُبن، شعور بأن اميركا أخطأت في تشجيع العولمة لأنها خسرت بها ولم تربح.

قامت مجلة "نيويوركر" قبل سنوات بإرسال أحد مراسليها لشراء عشرة منتجات من أسواق نيويورك فاكتشف أن تسعةً منها صناعة صينية وواحداً صناعة اميركية. هذا النمو الصيني ضرب أيضاً عدداً من الحلفاء في اوروبا الشرقية وفي اميركا اللاتينية. بالتالي، فإن تحوّل الصين الى مصنع العالم لم ينفع اميركا، لذلك هناك شعور متأخر بأنه يجب لجم عولمة النفوذ الاميركي بعدما سمح للصين بأن تتحول بفضل العولمة. وهناك قيود، والشغل الحقيقي الآن يجري أكثر على نقل التكنولوجيا.

  • لماذا الصين مهتمة بأفريقيا؟

كانت افريقيا ساحة للتنافس ولم تعد كذلك، لأن الهدف الصيني كان المواد الأولية والأسواق، لكن افريقيا لم تتطور بالسرعة التي راهن عليها الصينيون بحيث أن معظم الدول التي ساعدتها الصين للانطلاق عاجزة اليوم عن دفع الديون إلى الصين. بالتالي توقفت الصين إلى درجة أن شركات البناء التركية تفوقت على شركات البناء الصينية في عموم افريقيا لأن لديها دافعاً ثانياً دينياً واقليمياً ليس موجوداً لدى الصين. بينما نرى أن الاندفاع الصيني نحو افريقيا بدأ يتراجع بعض الشيء. الروس ليست لديهم قدرات، هناك 40 محطة للخطوط التركية في افريقيا. هل يمكن الخطوط الروسية أن يكون لديها 40 محطة في افريقيا؟ أنت تريد شيئاً آخر. تريد أن يكون لديك أسباب طويلة الأمد. مشكلة روسيا الأساسية اليوم أنه ليس لديها ايديولوجية أممية، ليس لديها مبرر لأن تتدخل في غير مكان. قد يستعمل رجب طيب اردوغان الإسلام، ولكن ماذا لدى روسيا؟

  • ألا يمكن لروسيا استعمال "معاداة الغرب" حجة لها؟

"معاداة الغرب" غير كافية، وهذا يعيدنا الى ما ذكرنا في بداية الحديث: ليس هناك بديل من النسق الذي ابتدعه الغربيون. معاداة هذا النسق لا تكفي لأن تبتدع شيئاً جديداً. "عدم الانحياز" كانت وراءه فكرة أن هناك جبّارين يتصادمان، ولا نريد أن نأخذ موقفاً. ما هي الفكرة اليوم؟ إن كانت عدم السير في ما يريده الغرب، فماذا بعد؟ الى أين سيؤدي ذلك؟ 

( غدا حلقة ثانية وأخيرة)

font change

مقالات ذات صلة