هل تتردد بريطانيا في معاقبة "الحرس" الايراني؟

ضغوطات من واشنطن على لندن

(AP)
(AP)
عناصر من القوات الخاصة في "الحرس" الايراني قرب نصب الحرية في طهران في فبراير الجاري.

هل تتردد بريطانيا في معاقبة "الحرس" الايراني؟

هل يمكن اعتبار قرار بريطانيا تصنيفَ "الحرس الثوري الإيراني" منظمة إرهابية غيرُ قابل للتغيير؟

لندن مصممة، كما صرّح وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، في أواخر ديسمبر/كانون الأول، ومرد ذلك، هو أفعال طهران "المحلية والدولية"، في إشارة إلى قيام ايران بسحق الاحتجاجات الواسعة النطاق في الأشهر الأخيرة وتدخلّها الذي لا ينقطع في شؤون دول متعددة في أرجاء الشرق الأوسط كافة.

وذكرت صحيفة "تلغراف" البريطانية أمس، أن دبلوماسيين في حكومة الرئيس الأميركي جو بايدن يضغطون على الحكومة البريطانية حتى لا تُدرج بريطانيا "الحرس" في قائمة الجماعات الإرهابية. وكتبت الصحيفة البريطانية، يوم الأربعاء 22 فبراير(شباط)، أن سبب ضغوط واشنطن على حكومة لندن هو الاعتقاد بأن إعلانا كهذا سيضعف العلاقات الدبلوماسية بين لندن وطهران، علما ان الخارجية الأميركية قد أدرجت "الحرس" في قائمة الجماعات الإرهابية لسنوات عديدة.

في حال اقدمت لندن على هذا الاجراء، فلن يكون سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة من الأحداث في علاقة عاصفة بين لندن وطهران، تعود إلى بدايات "الثورة الإيرانية" في 1979. وفي السنوات الأخيرة، تعرّضت السفارة البريطانية في طهران للهجوم، واحتُجِزت ناقلات نفط من كلا الدولتين، بينما اعتقل عدد من المواطنين البريطانيين الإيرانيين في إيران، من أبرزهم نازانين زاغري راتكليف. وتفاقمت الأمور أخيرا بإعدام علي رضا أكبري، وهو سياسي إيراني يحمل الجنسية البريطانية، أعدمته طهران في 14 يناير/كانون الثاني، ضاربة عرض الحائط نداءات لندن المتكرّرة للرأفة به.

يمكن، في ضوء ذلك، أن تُعتبر عقوبات بريطانيا جزءا من سلسلة لا تنتهي من التوترات بين البلدين. بل يمكن القول إن لندن تأخّرت إلى حد ما في سلوك هذا النهج، حيث سبقها حلفاؤها الغربيون، الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وأوستراليا ونيوزيلندا، إلى تصنيف الحرس "الثوري الإيراني" منظّمة إرهابية. مع ذلك فإن اللافت هو مدى ضآلة التأثير المتوقّع لهذا الإجراء، سواء على الحرس الثوري الإيراني أو على سلوك إيران الإقليمي أو موقفها المحدّد إزاء بريطانيا.

لقد مرّ حين من الدهر كانت بريطانيا فيه قوة دولية رئيسية في الشرق الأوسط، على الصعيدين التجاري والعسكري، لكن قلائل في لندن اليوم يتوقّعون أن تغيّر هذه العقوبة أي سلوك لطهران، ولعلّ غايتها أقرب إلى أن تكون تعبيرا عن الاستياء من أن تكون تهديدا فعليا باتخاذ مزيد من الإجراءات. والحقّ أن قوّة بريطانيا آخذة منذ بعض الوقت في التراجع أكثر منها في الصعود، وقد أسهمت التغييرات الأخيرة في السياق العالمي والإقليمي والبريطاني إلى تسريع هذا الاتجاه الهابط، بحيث باتت لندن في طريقها السريع لتصبح قوة مستنفَدَة في الشرق الأوسط.

من الأمبراطورية إلى مكافحة الإرهاب

كانت بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين أقوى لاعب في الشرق الأوسط، حيث كانت تشرف على بعض أهم القرارات في تاريخ المنطقة الحديث، ولعبت الدور الرئيس في انهيار الأمبراطورية العثمانية، أولا باحتلالها مصر ومنطقة الخليج، ثم من خلال الهزيمة العسكرية التي ألحقتها بالدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.

بعد ذاك، قسّمت المنطقة إلى دول قومية على النمط الأوروبي، واستولت لندن وباريس على حصّة الأسد، قبل أن تسهّل قيام دولة إسرائيل من خلال وعدها للقادة الصهاينة بتقديم فلسطين لإقامة وطنهم المنشود على أرضها. قد يجادل المؤرخّون والمعاصرون في سلبيات وايجابيات هذه الإجراءات، التي كان من بينها تمكين كثرة من النخب التي لا تزال تحكم المنطقة إلى يومنا هذا، لكنهم يتّفقون جميعا على أن دور بريطانيا كان بلا جدال دورا كبيرا.

بعد الحرب العالمية الثانية، حلّت الولايات المتحدة محلّ بريطانيا باعتبارها القوة الأبرز في الشرق الأوسط، وساعد على ذلك أولا وقوع أزمة السويس عام 1956 ثم خروج بريطانيا من الخليج في عام 1971، وتحوّل الخصم الخارجي الرئيسي لواشنطن في المنطقة من لندن إلى موسكو. بيد أن ذلك لم يمنع المملكة المتحدة من أن تحتفظ بروابط ثقافية واقتصادية وعسكرية مهمة. وقد تبيّنت أهمية ذلك عندما استعادت المملكة المتحدة شيئا من نهضتها في المنطقة منذ الثمانينات.

(EPA)
من اجتماع وزراء الخارجية الاوروبيين في بروكسل في 20 فبراير والذي بحثت فيه فرض عقوبات جديدة على ايران

مع انتهاء الحرب الباردة، وسّعت الولايات المتحدة وجودها في الشرق الأوسط وأثبتت بريطانيا أنها الحليف الرئيسي لها من خلال تقديم المساعدة العسكرية والدعم الديبلوماسي. ولعبت دورا بارزا في حملة طرد صدام حسين من الكويت عام 1991، وساهمت إثر ذلك في إقامة منطقة الحظر الجوي لحماية أكراد العراق، ثمّ شاركت في غارات عام 1998 على بغداد.

وفي عام 2003 كانت بلا ريب الشريك الرئيس لواشنطن في "تحالف الراغبين" الذي غزا العراق واحتلّه، ما أعاد إلى لندن دورها الفاعل في المنطقة للمرّة الأولى منذ نهاية الأمبراطورية، عندما أنيطت بها إدارة منطقة البصرة. وعلى الرغم من انتهاء وجودها في العراق في عام 2009، عادت إلى المنطقة بعد الانتفاضات العربية عام 2011، أولا للمساعدة في إطاحة معمر القذافي في ليبيا، ثم كجزء من التحالف لإلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش" في العراق وسوريا.

لا ريب أن الإخفاقات النسبية لعقود عدة من النشاط قد لعبت دورا في تراجع بريطانيا من منطقة الشرق الأوسط، لكنّ ذلك لا ينفي وجود أسباب هيكلية أعمق وراء ذلك أيضا

بيد أن المملكة المتّحدة لم تتمكن رغم كل مشاركاتها العسكرية من تحقيق سوى نجاح محدود للغاية في حقبة ما بعد الأمبراطورية. صحيح أن حملاتها في العراق أطاحت في نهاية المطاف صدام حسين، لكن الحكومة التي جاءت مكانه ليست صديقة لبريطانيا، بل قريبة لإيران. بالمثل، ساعدت في هزيمة القذافي، لكن الحال في ليبيا لم تستقرّ منذ ذلك الحين، ويتطلع المنافسون على السلطة هناك إلى تركيا وفرنسا والخليج وروسيا للحصول على الدعم، متجاهلين المملكة المتحدة. كان أحد النجاحات الأخيرة، الحملة ضد "داعش" - التي اختارت لندن بشكل واضح عدم نشر قوات برية كبيرة، والاعتماد بشكل أكبر على القوة الجوية والحلفاء المحليين لخوض القتال.


الغرب يزداد ضعفا


لا ريب أن الإخفاقات النسبية لعقود عدة من النشاط قد لعبت دورا في تراجع بريطانيا من منطقة الشرق الأوسط، لكنّ ذلك لا ينفي وجود أسباب هيكلية أعمق وراء ذلك أيضا. 

فمن ناحية، يبدو أن الجهات الفاعلة الغربية عموما باتت الآن أضعف مما كانت عليه في تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فالولايات المتحدة حاليا أقل نشاطا على مستوى العالم مما كانت عليه في ذروة سطوتها في عصر "القطب الواحد" الذي أعقب الحرب الباردة مباشرة، حيث أدى فشل "الحرب على الإرهاب" في العراق وأفغانستان إلى تقليل شهية الأميركيين لإرسال قواتهم إلى الخارج، مما كبح رغبة الولايات المتحدة في شنّ عمليات مماثلة في المستقبل. 

من الناحية الاقتصادية، احتاجت الولايات المتحدة سنوات طويلة لكي تتعافى من الآثار الكبيرة التي خلّفتها الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد منذ عام 2008، وأضحت الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي أقل قوة مما كانت عليه في السابق. 

أمّا على الصعيد السياسي، فقد غدت الولايات المتحدة أكثر عزلة، ولا يزال الانقسام في المجتمع حول دونالد ترامب وقضايا "الحروب الثقافية" المتصلة به يزداد عمقا، ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة أن تتّحد داخليا لتلعب دور القائد العالمي الذي كانت تضطلع به في السابق. في سياق متصل، أدى التشهير بالمشاكل الداخلية التي تعاني منها الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم في السنوات الأخيرة إلى تضاؤل قوتها الناعمة وفقدان الجاذبية التي كانت تتمتّع بها بالنسبة إلى بقية العالم.

في الوقت نفسه، وبينما كانت الجهات الفاعلة الغربية تتراجع نسبيا، كان هناك تعزيز لدور الدول غير الغربية على مستوى العالم وفي الشرق الأوسط. مثال ذلك صعود الصين التي افادت من الأزمة المالية لتحمل مبالغ كبيرة من الديون الغربية، وتستثمر بكثافة في الاقتصادات الغربية، مما رفعها إلى مصاف ثاني أكبر اقتصاد في العالم. 

فوق ذلك، ازداد نشاط بكين العسكري والاقتصادي خلال العقد الماضي، إذ وسعت وجودها في بحر الصين الجنوبي وبنت شبكة من الشركاء التجاريين العالميين عبر مبادرة "الحزام والطريق"، من بين هؤلاء الشركاء العديد من دول الشرق الأوسط. وعلى الرغم من معاناة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، إلا أنها لم تعد اللاعب الضعيف الذي كانته في التسعينات، وذلك بسبب تدخّلها الناجح في سوريا وتعزيز روابطها مع العديد من دول الشرق الأوسط من خلال العلاقات الديبلوماسية وصفقات الأسلحة. 

ويبقى أن نذكر أخيرا أن دول الشرق الأوسط نفسها صارت الآن أكثر حزما مما كانت عليه في السابق، فإذا كانت إيران على طول الخطّ متمرّدة على المخططات الغربية، فنحن نرى اليوم تركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وإسرائيل وهي تتّبع سياساتها الإقليمية الخاصة الآن، في تحدّ، على الأغلب، لحلفائها الغربيين. مع ذلك، لا يزال لدى اللاعبين الغربيين مصلحة في شؤون الشرق الأوسط، ولكن بخلاف تسعينات القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي، يتعيّن عليهم الآن التنافس مع العديد من اللاعبين الإقليميين والعالميين الآخرين، وهم سيتكبّدون اليوم عناء أكبر في الوصول إلى مبتغاهم.

بريطانيا تزداد ضعفا

ثانيا، بينما يزداد الغرب ضعفا على الصعيد العالمي وفي الشرق الأوسط، تزداد بريطانيا ضعفا داخل التحالف الغربي، ويعود هذا في المقام الأول إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وما نجم عن ذلك من تداعيات. لم تعد بريطانيا، من الناحية المادية، جزءا من الاتحاد الأوروبي، ففقدت بذلك ثقلها في أكبر كتلة اقتصادية في العالم. كانت لندن في زمن ما، قادرة على تضخيم نفوذها من خلال وجودها في الاتحاد الأوروبي، مما ساعد على تحديد بعض أولويات السياسة الخارجية لبروكسل. مثلا، حين أخذت المملكة المتحدة زمام المبادرة في الضغط على جميع دول الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على الرئيس السوري بشار الأسد في عام 2011 وها هي تفقد الآن هذه القدرة. 

لقد كان مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من مثل رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، يصرّون على وجود سبل بديلة لـ"بريطانيا العالمية" تؤثّر من خلالها على العالم، لكنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بأي دليل يذكر على وجود مثل هذه السبل حتى الآن. صحيح أن لندن انضمت إلى أوستراليا والولايات المتحدة في تحالف عسكري جديد، هو تحالف أوستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة المعروف بـ"AUKUS"، لكن تركيز التحالف الجديد على المحيط الهادئ، ليس سوى توسعة لعلاقة موجودة مسبقا ولا يمكنه أن يعوض عن تراجع علاقات بريطانيا مع الحلفاء الأوروبيين السابقين الذي نتج من الطلاق المرّ بينها وبين الاتحاد الأوروبي.

بالمثل، لعبت لندن دورا رائدا في تسليح أوكرانيا ضد روسيا، ولكن أما كان بإمكانها فعل ذلك من داخل الاتحاد الأوروبي؟ لا بأس من القول إن جونسون شعر بأنه مضطر لتقديم المزيد من دعمه لأوكرانيا في محاولة لإقناع البريطانيين أن المملكة المتحدة لا يزال لها ثقل دولي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أكثر من كونه يتمتّع بأي حرية أكبر لفعل ذلك. 

لعلّ الدليل على ضعف بريطانيا بدا في قرارات جو بايدن زيارة فرنسا وألمانيا بشكل متكرر خلال فترة رئاسته أكثر من زيارته المملكة المتحدة، وهو أمر نادر بالنسبة إلى الرؤساء الأميركيين وعلامة على أن "العلاقة الخاصة" مع لندن تضاءل وزنها منذ خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي.

أثّر بريكست أيضا على سمعة لندن العالمية. فبينما كانت في زمن مضى تتمتّع بقوة ناعمة ملحوظة، أدت سنوات من الجدال مع بروكسل حول المغادرة، بما في ذلك التهديدات بخرق القانون الدولي والفوضى الداخلية داخل الحكومات المتعاقبة الناتجة من بريكست، إلى تحطيم الصورة العالمية للندن كجهة فاعلة ومسؤولة دوليا. بالمثل، كما جرى في الولايات المتحدة، أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتداعياته، إلى انكفاء الحكومات البريطانية المتعاقبة إلى الداخل، مع التركيز على السياسة الداخلية بدلا من العالم الخارجي. وبينما كان توني بلير وديفيد كاميرون مثلا يتمتّعان باستقرار محلي نسبي يسمح لهما بالانغماس في مغامرات في الشرق الأوسط، لم يكن لدى خليفتيهما مثل هذا الترف. وها هي بريكست تفسح في المجال الآن أمام مخاوف اقتصادية جدية، مما يجعل من غير المرجح أن يكون للقادة البريطانيين القادمين قدرة أكبر بكثير في الشؤون الخارجية.

تغيير الأولويات

ثمّة تغيّر أخير هو تغيّر أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى اللاعبين العالميين، بمن في ذلك اللاعبون الغربيون مثل المملكة المتحدة. فخلال الحرب على الإرهاب، كانت المنطقة بالطبع محط اهتمام العالم الغربي، ولا سيّما بريطانيا والولايات المتحدة. واستمر هذا حتى عام 2010، حين دفعت الانتفاضات العربية الحكومات الغربية إلى الاستجابة – بداية من أجل مساندة الحركات الديمقراطية، وتاليا لوقف انتشار الفوضى. وعند ظهور "داعش"، تحوّل الاهتمام مجدّدا إلى مكافحة الإرهاب وهزيمة الخطر الجهادي. غير أن التراجع الكبير لثورات 2011 وانحسار العنف المرتبط بها، أفقدا الغرب مبرّراته الكثيرة للانخراط في الشرق الأوسط. 

من جانب آخر، قللت التحولات الاقتصادية التي طرأت، كتحول الولايات المتحدة عن الاعتماد على نفط الخليج، أيضا من الاهتمام الغربي. في الوقت ذاته، تم توجيه موارد السياسة الخارجية الغربية المتناقصة إلى مكان آخر. وأعقب ذلك استفحال الاشتباك مع الصين تحت إدارة عدد متعاقب من الرؤساء في الولايات المتحدة، بدعم من الحلفاء الغربيين كالمملكة المتحدة، ليتوّج ذلك كلّه بالحرب في أوكرانيا التي أدّت إلى تحول تركيز الموارد العسكرية والديبلوماسية الغربية نحو روسيا وأوروبا الشرقية.

قللت التحولات الاقتصادية التي طرأت، كتحول الولايات المتحدة عن الاعتماد على نفط الخليج، أيضا من الاهتمام الغربي. في الوقت ذاته، تم توجيه موارد السياسة الخارجية الغربية المتناقصة إلى مكان آخر

لقد عكست أولويات السياسة الخارجية البريطانية هذا التحول، ففي 2021 أجرت بريطانيا المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية، التي كانت في ذلك الوقت بمثابة مخطط لسياسة لندن الخارجية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي تلك المراجعة وردت إشارة إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع حكومات الشرق الأوسط، لكن الحقيقة أن أهمية المنطقة كانت في انحدار مع تصاعد الميل نحو جنوب شرق آسيا. ومن المرجح أن تكون حرب أوكرانيا التي اندلعت بعد نشر تلك المراجعة قد دفعت هذه المنطقة أبعد من ذلك، إلى أسفل قائمة الأولويات.


مجالات الاهتمام


على الرغم من كلّ شيء، لا تزال المملكة المتحدة تحتفظ ببعض اهتمامها بالشرق الأوسط ولم تتخل عن المنطقة كليا، فهي لا تزال تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحلفاء القدامى في عُمان والأردن، إضافة إلى العديد من دول الخليج التي لا تزال تتمتع بعلاقات وثيقة مع الجيش البريطاني. وتحتفظ لندن إلى ذلك بروابط اقتصادية مهمة. ولا تزال دول الخليج حتى الآن تشكّل أهم العلاقات التجارية بالنسبة إلى لندن بفارق كبير. وبينما كانت تلك العلاقات في السابق ذات اتجاه واحد، حيث كانت لندن تبيع السلاح وتقدم الخدمات للدول النفطية المحدثة الثروة، أصبحت اليوم علاقات تبادلية، حيث تقوم حكومات الخليج باستثمارات مهمة في الاقتصاد البريطاني، ولا سيّما في مجالات العقارات ونوادي كرة القدم. علاوة على ذلك، جعلت الأزمة الأوكرانية لندن أكثر اعتمادا على الغاز الطبيعي المسال الذي يأتي من هذه المنطقة، وخاصة من قطر. بعيدا من الخليج، تحتفظ المملكة المتحدة بروابط تجارية مهمة مع تركيا، ومع مصر بدرجة أقل.

الأمن مجال رئيسي آخر مهم بالنسبة للندن. فعلى الرغم من أن تهديد "داعش" قد تضاءل كثيرا، فهو لا يزال يشكّل تهديدا، وفي حال انتعاشه مجددا أو ظهور بديل له، فإن المرجح أن تقوم المملكة المتحدة بالتعاون مع الحلفاء الإقليميين والأميركيين والأوروبيين مجددا باحتواء هذا التهديد وتدميره. من ناحية ثانية، إذا واجهت أي من الدول الكبرى انهيارا داخليا قد يؤدي إلى أزمة مهاجرين جديدة من شأنها أن تؤثر على أوروبا والمملكة المتحدة، فإن لندن ستقوم على الأغلب بتقديم المساعدة والمشاركة.


تبقى الخلاصة أن كلّ هذه التحركات التفاعلية لا تشبه في أي حال شكلَ القيادة التي كانت تقدمها لندن في الماضي، بغض الطرف عن إيجابية تلك القيادة أو سلبيتها. فحتى وقت قريب، أي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الكثيرون يعتبرون المملكة المتحدة لاعبا أجنبيا مهمّا. لكن هذا أصبح اليوم من الماضي مع قيام قوى أخرى كفرنسا وألمانيا بأخذ زمام المبادرة في المنطقة أكثر من بريطانيا. والحال أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتراجع القوة الغربية عموما وتضاؤل أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للندن وحلفائها الغربيين، أدت إلى ابتعاد المملكة المتحدة عن المنطقة. وربما لم تصبح قوة مستنفدة في الشرق الأوسط بعد، لكنها آيلة إلى ذلك.

font change