العراق المستقر و"مبدأ تيتو"

العراق المستقر و"مبدأ تيتو"

على الرغم من كل ما جرى، إلا أن الأشياء في العراق تسير كما كانت طوال السنوات الكثيرة الماضية: زيادة في نوعية الاقتصاد المركزي الريعي، مع هيمنة واضحة للميليشيات المسلحة على مختلف أشكال الحياة العامة، ومعها فساد هيكلي يُستحال تفكيكه، فائض يومي في مستويات الفقر والبطالة والعشوائيات والتضخم، وأشياء أخرى كثيرة من مثل تلك، ودائماً دون أي أفق.

يحدث ذلك، مع أن العراق شهد خلال الأعوام الماضية ثورة سلمية مدنية عارمة، شارك فيها ملايين المنخرطين، وامتدت لسنوات، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا. وبعدها جرت انتخابات عامة، افرزت هزيمة واضحة لأركان السلطة السياسية التقليدية. لكن الأمور بقيت على ما هي عليه، وتمكنت البنية الهيكلية للنظام الحاكم للبلاد من إعادة تشكيل نفسها، ورجعت لتُستجمع أواصر السلطات التنفيذية والاقتصادية والتشريعية والأمنية في البلاد بيدها، وكأنها لم تكن يوماً صاحبة المسؤولية عن كل هذا الخراب العراقي.

من التناقض الهائل في هذه الثنائية، يبدو وكأنه ثمة ما هو أكثر جسارة وجبروتاً من أية إرادة ومسعى لتغيير هذه الأقدار العراقية. ثمة حتى ما يتجاوز بعض التحليلات والخطابات الثقافية والوطنية الرومانسية التي تتحدث وتصنف النظام ونُخب الحُكم العراقية "المهيمنة" على الدولة والمجتمع كجهة "احتلال اجنبية". إذ تبدو حسب هذه النزعات والتحليلات الرغائبية وكأنها كنظام ونخبة هيمنة غريبة عن البنية الاجتماعية الأعمق والتوازن المركزي لشكل الحياة السياسية في العراق.

لكن الوقائع العراقية تُشير بوضوح إلى أن ما يحدث في العراق هو أساساً نتيجة القدرة الدائمة والمثابرة لهؤلاء الفاعلين المركزيين "الشيعة" على ابتزاز المجتمع والمؤسسات داخل الدولة العراقية، بدعوى وجود "خطر داخلي"، يُمكن له أن يطيح بمنطق وجوهر "توازن القوة" بين الجماعات والجغرافيات العراقية، وتالياً امتلاك هؤلاء الحاكمين للقدرة على خلق مجموعة كبرى من الديناميكيات الأمنية والاقتصادية والسياسية، التي تأخذ صفة الطوارئ والاستثناء، لما تعتبره استجابة لذلك الخطر الداهم، وإن كانت تلك الإجراءات تعني فعلياً إعادة هيمنة هؤلاء على الكيان العراقي، وتجاوز أي تناقض أو مأساة أخرى قد تظهر، فهي تعتبر كل ما هو دون ذلك الأساس من حفظ "هيمنة الجماعة الكبرى" هو مجرد عارض عابر، يجب غض النظر عنه وتجاوزه في سبيل "القضية الأساسية".

المقصود بضرورة ضعف "الشيعة" لتحول العراق إلى كيان سياسي ذو سياق وقابلية لتجاوز معضلاته، لا يُقصد به أي مسعى لحرمانهم من السلطة أو تهميشهم من الحياة العامة والسياسية، بل على العكس تماماً. المقصود هو تحويلهم الى جماعة عراقية "عادية"


لحل تلك المعضلة، أو محاولة فهمها على الأقل، ربما يمكن استعارة مبدأ سياسي/عقائدي من الزعيم اليوغسلافي السابق جوزيف تيتو، الذي كان يرى إن "ضعف الصرب وصربيا" هو شرط جوهري لـ "وحدة وقوة يوغسلافيا"، وليس العكس. 


فالدولة اليوغسلافية التي تأسست في نفس السنوات التي تشكل فيها العراق الحديث، عقب الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لتوازناتها، كانت مطابقة للعراق أيضاً في جوهر أخر، بكونها كياناً مؤلفاً من تشكيلة من الأعراق والجغرافيات المتحدة فيما بينها، سياسياً ومناطقياً بشكل فيدرالي.


لكن شخصاً بتجربة وعمق الزعيم تيتو، خصوصاً بكونه منتمياً للعرقية الكرواتية، كان واعياً لموقع صربيا ودور الصرب ضمن هذه الدولة، كجماعة كبرى ودويلة مركزية ضمن هذا الكيان. فحسب تيتو، كان الصرب وحدهم يشكلون الجماعة القادرة على الإخلال بالتوازن السياسي والرمزي المضبوط بين مختلف الجماعات اليوغسلافية، وصربيا هي الدويلة الوحيدة ضمن التشكيل اليوغسلافي القادرة على تفكيك العقد السياسي/الاتحادي الذي كان.

وبذا كان ضعفهما (الصرب وصربيا) شرطاً أولياً ودائماً لبقاء واستقرار الصيغة التوافقية اليوغسلافية، وتالياً قوة الدولة اليوغسلافية وقدرتها على تجاوز محنها، عبر حمايتها من النزعات والخطابات العرقية والمناطقية الرنانة، التي قد تُلغي أية آلية أو تطلعات أخرى ضمن المشهد الكلي في البلاد. 


أثبتت مجريات التاريخ صحة استشراف تيتو، فما أن حاولت دويلة صربيا تشييد بنيان قوتها العسكرية والإيديولوجية الذاتية في أواخر الثمانينات، بزعامة القومي/العرقي ميلوسيفيتش، وألغت الحكم الذاتي لمنطقتي كوسوفو وفويفودينا، حتى اندلعت الحرب الأهلية اليوغسلافية، وتفكك الكيان عقب ذلك بفضل التدخل الدولي، بعد بحر كامل من الدماء.  


ضمن هذا المنحى، فأن المقصود بضرورة ضعف "الشيعة" لتحول العراق إلى كيان سياسي ذو سياق وقابلية لتجاوز معضلاته، لا يُقصد به أي مسعى لحرمانهم من السلطة أو تهميشهم من الحياة العامة والسياسية، بل على العكس تماماً، المقصود هو تحويلهم الى جماعة عراقية "عادية"، مكافئة وموازية لباقي التكوينات الطائفية والعرقية والمناطقية العراقية الأخرى، لا تكتنز القوى السياسية المعبرة عنها أية تطلعات أبوية عن الكيان العراقي، وتالياً تسمح للعقد الدستوري والاجتماعي العراقي لأن يكون صحياً حينما يكون متوازناً في القوة بين مختلف الجهات. لكن أولاً أن يُخلي ذلك التوازن من الفضاء العام في العراق من أية مشاحنات وأشكال الريبة والحروب الباردة والاستعدادات المتبادلة، وتالياً أن يفسح المجال أمام اشكال أخرى من المبادلة والمنافسة بين الجماعات العراقية. 


في المشهد العراقي، ثمة أمثلة لا تُحصى، حدثت كلها طوال السنوات الماضية، تُشير كل واحدة منها إلى رفض قوى الهيمنة المركزية المتكرر حدوث اشكال التوازن تلك. وإن كان رفض ذلك التوازن يجري على حساب السلام الاجتماعي والوئام الكياني العمومي الذي من المفترض أن يتحلى به العراق، كدولة ديمقراطية غنية الموارد المادية والبشرية. إذ لا تقبل قوى الهيمنة هذه إنشاء مجلس الاتحاد العراقي، الذي هو فرض دستوري، كغرفة تشريعية موازية وموازنة للبرلمان العراقي، تكون فيه مختلف الجماعات العراقية ممثلة بشكل متساو.

كذلك ترفض إقرار قانون لا مركزي للنفط والغاز وباقي الثروات، ليكون بمثابة أداة قوة وموازنة أخرى بين التكوينات العراقية. الأمر نفسه ينطبق على بنية الجيش والتشكيلات الأمنية والفصائل غير الدستورية. ففي كل مثال ثمة تلهف استثنائي لاكتناز القوة الذاتية، على حِساب إضعاف باقي الجماعات، وتالياً تحويل العراق إلى فضاء عمومي ترتاب فيه الجماعات الأهلية من بعضها البعض، وتالياً إخراجه من أي سياق قادر على تجاوز نفسه. 
 

font change