أقليات إيران في "نظرية المؤامرة" الرسمية

لُعبة الارتياب

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متاجر مغلقة في البازار الكبير بطهران بسبب الحرب

أقليات إيران في "نظرية المؤامرة" الرسمية

بينما يخوض الجيش والحرس الثوري الإيرانيان حربا عسكرية ضد الهجمات الجوية الإسرائيلية، تبذل أجهزة الأمن والشرطة الإيرانية جهودا استثنائية لتتبع عدد هائل من شبكات المتعاونين مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، وربما استخبارات دول أخرى. في وقت صارت فيه القنوات الإعلامية والمنصات غير الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي تبعث رسائل مغلفة عن "تورط" أبناء القوميتين الأذرية والكردية في التعاون مع أجهزة الاستخبارات الدولية، ومثلهم جماعات دينية وسياسية مثل البهائيين والعلمانيين.

سلوكيات الأجهزة الأمنية الإيرانية تشي بالكثير من فقدان التوازن و"جنون الارتياب من كل شيء"، كما أخبر "المجلة" ناشط سياسي أذري/إيراني مقيم في العاصمة طهران، وأضاف: "في العاصمة طهران، ومثلها كل مُدن محافظات أذربيجان الشرقية والغربية وكرمانشاه وكردستان وإيلام، يوقف أفراد الأجهزة الأمنية في اليوم الواحد مئات المارة، يفتشون هواتفهم النقالة بدقة، ويسألونهم عن أماكن استقرارهم، بينما تتوزع الدوريات العسكرية بكثافة شديدة على كافة الطرق الرئيسة في هذه المحافظات الثلاث، وتفتش كل المركبات المغلقة، الكبيرة منها بالذات. وفي محافظتي كردستان وأذربيجان الغربية، إلى جانب الأحياء الكردية والأذرية في العاصمة طهران، منعت الأجهزة الأمنية أصحاب المكاتب العقارية تأجير أي منزل دون أخذ موافقة مسبقة، وتنشر طائرات مراقبة صغيرة فوق كل أحياء المدن، وأوصلت رسائل تهديد إلى كل مخاتير ومُلاك الأراضي في القرى الجبلية، متوعدة إياهم "في حال عدم إبلاغهم عن أي تحرك مشبوه".

يحدث ذلك بعدما اعتقلت قوات الأمن الإيرانية أكثر من 30 شخصا في العاصمة طهران، ووجهت إليهم تهما بالتجسس لصالح إسرائيل، واعتقلت قرابة 100 شخص آخر في عدد من المدن، بعدما نشروا مقالات أو تعليقات تؤيد إسرائيل في هذه الحرب. فيما قال النشطاء الإيرانيون إن مكاتب المدعين العامين في كل محافظة إيرانية شكلت وحدات خاصة لتتبع المشتبه بهم، وتوعد القضاء الإيراني بتنفيذ إجراءات سريعة بحقهم. فيما صارت وسائل الإعلام الحكومية تنشر مقاطع مصورة إرشادية، لمن يُشتبه بضلوعهم في عمليات التجسس أو التعاون مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية.

يحدث ذلك بعد الصدمة الكبرى التي تعرضت لها إيران جراء اليوم الأول من الهجوم الإسرائيلي، إذ تبين أن مئات الشبكات في الداخل الإيراني تتعاون مع الاستخبارات الإسرائيلية، تنقل معلومات دقيقة عن موقع وآليات عمل الوحدات العسكرية، بما في ذلك أماكن إقامة كبار ضباط الجيش والحرس الثوري والساسة والعلماء المشاركين في برنامج إيران النووي.

اعتقلت قوات الأمن الإيرانية أكثر من 30 شخصا في العاصمة طهران، ووجهت إليهم تهما بالتجسس لصالح إسرائيل، واعتقلت قرابة 100 شخص آخر في عدد من المدن، بعدما نشروا مقالات أو تعليقات تؤيد إسرائيل في هذه الحرب

الهَبة الأذرية

عموما، تتخوف السلطات الإيرانية من كافة أبناء المكونات القومية غير الفارسية في البلاد، وتستغل هذا الخوف بشكل غير مباشر لإعادة ربط القواعد الاجتماعية "الفارسية المحافظة" بالنظام الحاكم، إذ تبقى الأجهزة الإعلامية والدعائية للنظام الحاكم تنشر أخبارا مختلقة عن "محاولات تقسيم إيران" و"تعاون الانفصاليين مع قوى الاستكبار العالمية"، لكنها فعليا تخشى من قدرات الكُرد والأذر فحسب، المتمركزين في شمال وغرب البلاد.

يشرح الباحث المختص في الشؤون الإيرانية تيلي مهتدي أسباب ذلك تفصيلا في مقابلة مع "المجلة": "مبدئيا ثمة خمس جماعات قومية رئيسة غير فارسية في البلاد، تتملك كل واحدة منها نقمة مستدامة على النظام الحاكم، لأسباب تتعلق بعدم الاعتراف وسوء التقدير والاستبعاد من المشاركة في المتن الوطني. فالتركمان في الشمال الشرقي والبلوش في الجنوب الشرقي والعرب في الجنوب الغربي والكُرد في أقصى الغرب والأذر في أقصى الشمال ينطبق عليهم ذلك تماما، وإن بنسب متفاوتة".

لكن الجماعات الثلاث الأولى لا تعتبرها السلطات الإيرانية خطرا حقيقيا، لأسباب مركبة.

رويترز
أعلام إيرانية وتبدو من خلفها النيران والدخان في منشأة نفطية في طهران، قصفتها الطائرات الإسرائيلية، 15 يونيو 2025

يوضح مهتدي: "التركمان مُسيطر عليهم عبر الخطاب المذهبي، حتى إن النزعة القومية تكاد لا تعني لهم شيئا ذا قيمة، خصوصا في المجال السياسي. أما البلوش فثمة محق أمني تام بحقهم، لأن عددهم محدود إلى حد ما، وثمة تعاون إيراني باكستاني مديد في ذلك السياق. المناطق العربية تم (تفريسها) طوال أربعة عقود كاملة. فبفعل تمركز الثروة النفطية في منطقة خوزستان ذات الأغلبية العربية، تم جلب مئات الآلاف من الموظفين وأفراد الجيش والأجهزة الأمنية، ومنحهم امتيازات للاستقرار في تلك المنطقة، بحيث تحولوا بالتقادم إلى الطبقة الوسطى والتجارية وذات التعليم الجيد نسبيا في تلك المنطقة، إذ لا يُمكن الحديث اليوم عن منطقة عربية خالصة جنوب غربي إيران، إلا في الأرياف التي صارت صحراوية فعليا. ولا تنطبق كل تلك المعايير على الأذر والكرد في إيران.

الأذر لا يُمكن أن ينطبق عليهم أي شيء من ذلك، فتعدادهم العام يتجاوز 20 مليون نسمة، أي ما يزيد على ربع سكان إيران، ويشكلون أغلبية مطلقة في أفضل مناطق إيران بيئيا، ويستندون إلى تاريخ سياسي مديد، راكموا بسببه خطابا ونُخبا سياسية ذات دور في المجتمع الأذري الإيراني. صحيح نجح النظام السياسي الإيراني منذ أوائل الثمانينات بإقناع الأذر بإشراكهم في الدولة والسلطة الإيرانية، مستخدما خطابا يُعلي من قيمة المذهب (الاثنى عشري) على النزعات القومية والعرقية، مشيرا إلى الأصول الأذرية للمرشد الحالي علي خامنئي؛ إلا أن ذلك لم يعد كافيا وذا مصداقية في الراهن".

لكن كل النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأذرية تشير بوضوح وعلانية إلى الاستبعاد الفعلي الذي يعانون منه، وإلى احتكار أبناء القومية الفارسية لكل مفاصل الدولة، تحديدا في الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد والإدارة العليا.

لكن كل النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأذرية تشير بوضوح وعلانية إلى الاستبعاد الفعلي الذي يعانون منه، وإلى احتكار أبناء القومية الفارسية لكل مفاصل الدولة

يستدلون بذلك على (الخذلان) الذي تعاني منه اللغة الأذرية/التركية في الحياة العامة. فالتدريس بها لا يتجاوز ساعتين في الأسبوع، وفي المرحلة الابتدائية فحسب، ما دفع ملايين الأجيال الأصغر عمرا لأن تكون الفارسية لغتهم الأساسية في الخطاب، سواء المحكية أو الكتابية على وسائل التواصل. كما تأثر القوميون الأذر بتحولات تركيا خلال ربع القرن الأخير، وفقدوا الأمل بإمكانية إعادة تشكيل علاقة متوازنة وذات هوية تشاركية مع الفرس ضمن البلاد، مصرحين برغبتهم في تشكيل نظام سياسي ذي هوية لا مركزية، يفضلونها فيدرالية أو حتى كونفدرالية، يستطيع فيها الأذر حُكم مناطقهم.

لا تملك قوى المعارضة الإيرانية "الوطنية" أي اهتمام بكل تلك التفاصيل. فتيارات مثل "الحركة الملكية" التي يقودها الوريث السابق للعرش الإيراني رضا محمد بهلوي، وتنظيمات مثل "حركة مجاهدي خلق"، أو حتى من يعتبرون أنفسهم "حاملي شعلة الحركة الخضراء"، لا يملكون إلا شعارات وطنية "سلطوية"، تخاطب الإيرانيين بالعموم، وتتطلع إلى إسقاط النظام الحاكم فحسب.

هذا الأمر يثير مخاوف النُخب والقواعد الاجتماعية الأذرية، كما تعبر عنها صراحة في الأعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، متهمين هذه الحركات بمطابقة السلطة الحاكمة، التي ترفض أي خطاب وتحليل يتناول مشاكل البلاد على أساس الخلافات الإثنية والعرقية والجهوية، ما يدفع الأذر لمزيد من التمركز حول الذات، والنظر إلى هذه الحرب باعتبارها "حرب الآخرين".

السلاح السياسي الكردي

يختلف تموضع أكراد إيران عن أذرها نسبيا، فهم أقل عددا، لا يتجاوز تعدادهم 7 ملايين نسمة. فوق ذلك، تتدين الأغلبية شبه المطلقة منهم بالمذهب السُني/الشافعي، وبذا فهم مُستبعدون تماما من مركز الفاعلية السياسية والاقتصادية والإدارية في البلاد، والقاعدة الأوسع منهم ريفيون تماما، وبذا ليس هناك تخوف من إمكانية سيطرتهم على واحدة من المُدن الكُبرى. لكن، ومع كل ذلك، يبقى كرد إيران رقما سياسيا ومحطة قلق بالنسبة للنظام الحاكم، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة.

يبقى كرد إيران رقما سياسيا ومحطة قلق بالنسبة للنظام الحاكم، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة

فالأكراد الإيرانيون هُم الجماعة الأكثر تنظيما على مستوى البلاد، بالذات على المستوى السياسي. فأحزاب مثل "الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران"، المرتبط تاريخيا بـ"الحزب الديمقراطي الكردستاني" في العراق، وحزب "كوملة" اليساري القومي، وحزب "بيجاك" المرتبط بحزب "العمال الكردستاني"، هي تنظيمات شديدة الحضور والتأثير على القواعد الاجتماعية الكردية في إيران، وقادرة على السيطرة الميدانية في أية لحظة تنكمش فيها الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام. وهي أساسا تيارات سياسية لا تخفي مناهضتها الجذرية للسلطة الحاكمة، وتستخدم شبكة واسعة من أذرعها الإعلامية والدعائية علانية في ذلك.

أ ب
رجل يحمل فتاة مصابة بعد انفجار في وسط طهران، في خضم الضربات الإسرائيلية ضد إيران، الأحد 15 يونيو

كذلك فإن التنظيمات الكردية المعارضة هي الوحيدة المنظمة سياسيا، بالذات حزب "بيجاك" المرتبط بـ"العمال الكردستاني". ويختلف "بيجاك" عن الأحزاب الأخرى بكون تنظيماته العسكرية ما تزال ناشطة عسكريا في المثلث الحدودي العراقي-التركي-الإيراني، بينما استُبعد مسلحو الأحزاب الأخرى حسب الاتفاق الأمني العراقي-الإيراني قبل قرابة عام، والذي وافق عليه إقليم كردستان وشارك فيه. كذلك ثمة مخاوف من تسليم "العمال الكردستاني" لكل ترسانته العسكرية إلى هذا الحزب "الشقيق"، بعد موافقة "العمال الكردستاني" على تفكيك نفسه ضمن "عملية السلام" مع تركيا.

أخيرا، فإن الأحزاب الكردية الإيرانية ذات علاقات إقليمية ودولية واسعة جدا، وهو ما يثير قلق النظام الإيراني. فتقليديا، وكلما حدثت حالة اختراق أو هبات شعبية معارضة، فإن الإعلام الإيراني الرسمي يذهب لاتهام الحركات الكردية بالتعاون مع "قوى الاستكبار".

font change

مقالات ذات صلة