نتنياهو و"أمننة" التهديد الوجودي الإيراني

المراهنة على قوة صمود الشعب

دون إيمرت - أ.ف.ب
دون إيمرت - أ.ف.ب
بنيامين نتنياهو يستخدم رسما توضيحيا لقنبلة لوصف رؤيته لبرنامج إيران النووي أثناء إلقائه كلمته في الاجتماع السابع والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 سبتمبر 2012

نتنياهو و"أمننة" التهديد الوجودي الإيراني

يُعد استدعاء مفهوم "بقاء الدولة" كذريعة للسياسات الأمنية أداة سياسية فعالة، ويتجلى ذلك بوضوح في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يوظف سردية "التهديد الوجودي" عند الحديث عن إيران.

يرى نتنياهو أن إيران، وطموحاتها النووية تحديدا، إلى جانب أنشطتها الإقليمية، تُشكّل خطرا وجوديا على استمرار إسرائيل.

بهذا الطرح، لا يُقدّم نتنياهو القضية بوصفها تهديدا سياسيا أو استراتيجيا تقليديا، بل يصعّدها إلى مستوى تهديد وجودي، ما يمنح شرعية لردود استثنائية، من بينها الحرب أو ما وصفه في خطاباته الأخيرة مرارا بـ"الضربة العسكرية الاستباقية".

تبدو هذه المقاربة، في جوهرها، استخداما سياسيا دقيقا للقانون الدولي، إذ يُقدّم نتنياهو للإسرائيليين سردية مبسطة ومخيفة، قائمة على خيارين لا ثالث لهما: إما تحرك فوري وحاسم ضد "التهديد الإيراني المتصوَّر"، وإما مواجهة الفناء الكامل كدولة.

قبل ساعات من كتابة هذا التحليل، أصدر نتنياهو بيانا جديدا في اليوم السادس من عملية "الأسد الصاعد"، تناول فيه السيطرة على الأجواء الإيرانية، وخطر السلاح النووي، والهجمات الصاروخية، وقوة صمود الشعب الإسرائيلي.

يُقدّم نتنياهو للإسرائيليين سردية مبسطة ومخيفة، قائمة على خيارين لا ثالث لهما: إما تحرك فوري وحاسم ضد "التهديد الإيراني المتصوَّر"، وإما مواجهة الفناء الكامل كدولة

يمثل هذا البيان نموذجا تقليديا لتأطير "التهديد الوجودي" ضمن خطاب أمني، إذ يُبرز عناصر مثل التفوق العسكري (السيطرة على الأجواء الإيرانية)، والاحتمال النووي، والروح المجتمعية، ليُصور الصراع على أنه معركة مصيرية تهدد وجود إسرائيل ذاته.

منذ إعلان تأسيس الدولة عام 1948، شكّلت القضايا الأمنية والعسكرية دعامة مركزية في الهوية الوطنية والخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي. وأسهمت الحروب المتكررة، ولا سيما في عامي 1967 و1973، في ترسيخ الإيمان الجمعي بـ"حكمة" المؤسسة العسكرية وتفوّقها، وهو إيمان تعززه خلفيات معظم السياسيين الذين خدموا في الجيش، وكثير منهم تولى مناصب عسكرية رفيعة.

ويُعزَّز هذا التوجه بقيادات عسكرية تتبنّى أيديولوجيا اليمين، وأحيانا الصهيونية الدينية.

تظهر المعضلة حينما يتفق القادة العسكريون والسياسيون في إسرائيل على تفسير التهديدات من منظور أمني وعسكري وجودي فقط، ما يؤدي إلى تهميش بل وتعطيل أدوات الحلول الدبلوماسية الاستراتيجية.

"الحكمة" العسكرية

يُسهِم ما يُعرف بـ"حكمة" الجيش الإسرائيلي، بوصفه مؤسسة تحظى بثقة واسعة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، في تعزيز سلطة القيادة السياسية والعسكرية، ما يمنحهم القدرة على تجاهل، بل وقمع، أي نقاش نقدي من الصحافة أو من الأصوات السياسية المناهضة لخطاب الحرب، حتى في ظل تقارير وتحليلات صادرة عن وكالات استخباراتية دولية وهيئات رقابية نووية.

ومن الضروري فهم تقدم إيران في تخصيب اليورانيوم ضمن سياق تقني وسياسي بالغ التعقيد. فهذا التقدم، وإن دل على قدرة فنية قد تُقلّص المدة اللازمة لامتلاك سلاح نووي في حال اتخاذ قرار بذلك، لا يُمثّل في حد ذاته دليلا قاطعا على إثبات قيامها بالتسلّح النووي أو على خطر وشيك يُهدد إسرائيل.

يُسهِم ما يُعرف بـ"حكمة" الجيش الإسرائيلي، بوصفه مؤسسة تحظى بثقة واسعة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، في تعزيز سلطة القيادة السياسية والعسكرية، ما يمنحهم القدرة على تجاهل، بل وقمع، أي نقاش نقدي من الصحافة أو من الأصوات السياسية المناهضة لخطاب الحرب

وبعبارات أكثر تحديدا، فإن تخزين إيران 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، كما ذكر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي مؤخرا، يُعد أمرا بالغ الأهمية، لكنه لا يعني بالضرورة أن إيران تمثل تهديدا نوويا وشيكا.

ورغم أن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة يتجاوز النسبة المعتادة للاستخدامات المدنية، ويقترب من مستوى التخصيب المستخدم في تصنيع الأسلحة، فإنه لا يزال دون نسبة التخصيب البالغة نحو 90 في المئة اللازمة لصنع قنبلة نووية.

جاك غيز - أ.ف.ب
شرطي إسرائيلي ملثم خارج مبنى تعرض لضربة صاروخية إيرانية في مدينة حولون وسط إسرائيل في 19 يونيو 2025

الأهم من ذلك، أنه رغم توبيخ الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران على ما زُعم أنه خروقات لإجراءات الضمانات، صرّح غروسي بوضوح أن ذلك لم يدفع الوكالة للاستنتاج بأن إيران تعمل فعليا على بناء سلاح نووي.

وفي مارس/آذار، أفادت تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية في إدارة الرئيس دونالد ترمب، أمام أعضاء من الكونغرس الأميركي، بأن إيران لا تسعى في الوقت الراهن لبناء سلاح نووي، لكنها حذّرت من أن مخزونها من اليورانيوم المخصب بلغ مستويات غير مسبوقة بالنسبة لدولة لا تملك ترسانة نووية.

الحد من التصورات المبالغة

إن تفسير التقدم الإيراني في تخصيب اليورانيوم على أنه قدرة تقنية وليس مؤشرا على خطر داهم، يفتح مجالا مهماً لإعادة النظر في التأطير الأمني للقضية، ما قد يُمهد لخطوات تفاوضية وحلول دبلوماسية تُبدّد من المخاوف داخل المجتمع الإسرائيلي.

لو أن هذا التحول في الخطاب حدث، لكان من الممكن تخفيف حالة انعدام الثقة المتزايدة تجاه القيادة السياسية بقيادة نتنياهو، التي وُوجهت بانتقادات بسبب تعاملها مع أزمة الرهائن والحرب في غزة.

وخطاب يقوم على السلم لا على التهديدات العسكرية، كان ليُعزز ثقة الإسرائيليين في إمكانيات التسوية والدبلوماسية.

إن تفسير التقدم الإيراني في تخصيب اليورانيوم على أنه قدرة تقنية وليس مؤشرا على خطر داهم، يفتح مجالا مهماً لإعادة النظر في التأطير الأمني للقضية، ما قد يُمهد لخطوات تفاوضية وحلول دبلوماسية تُبدّد من المخاوف داخل المجتمع الإسرائيلي

هذا الطرح يتناقض مع السردية التي يروجها نتنياهو منذ ما يزيد على عقدين، إذ يقدّم البرنامج النووي الإيراني باعتباره خطرا وجوديا يتطلب تحركا عسكريا فوريا، وهو ما كرره مؤخرا عقب الموجة الأولى من الهجمات الصاروخية ضد إيران.

قال نتنياهو في 13 يونيو/حزيران: "اتخذت إيران في الأشهر الأخيرة خطوات لم يسبق لها أن اتخذتها من قبل: خطوات لتسليح اليورانيوم المخصب".

عبر تصوير الخطر الإيراني الخارجي على أنه آني وجذري، يُبرر القادة في إسرائيل الكلفة المادية، بل والبشرية، التي يُطلب من المجتمع تحمّلها من أجل الأمن، ما يُضفي شرعية على التعبئة المجتمعية والمشاركة العسكرية للدفاع عن دولة تشعر بأنها في مواجهة مصيرها.

وتبني الدولة في هذا السياق خطابا إعلاميا يُروّج لأهمية مشاركة المواطنين في الجهد العسكري، باعتباره واجبا وجوديا لا مهرب منه.

font change

مقالات ذات صلة