يُفضل في الساعات والأيام الحبلى بتغيرات كبرى، الابتعاد قليلا عن الألوان المبهرجة لانفجار الصواريخ ومشاهد الدمار والضحايا وخطابات السياسيين التعبوية والتزام الحذر في إطلاق الاحكام القاطعة، على الرغم من عُسر المهمة هذه. اللجوء إلى التقييم الباحث عن بعض المعنى والعمق في الخلفيات التي انفجر الصراع عليها، يبدو أجدى، خصوصا في حالة الحرب الدائرة حاليا بين إسرائيل وإيران والمثقلة بعقود من العداء والصراعات التي دارت بالوكالة أو في ظلال عالم الاستخبارات والضربات غير المباشرة.
لذلك يمكننا هنا التذكير ببعض المبالغات التي يكثر تردادها في وسائل الإعلام وعلى ألسنة المتحدثين الحربيين والمحرضين الأيديولوجيين. أول تلك المبالغات مقولة "تغيير النظام" في إيران.
دعونا نتذكر هنا أن النظام الإيراني ليس نظام أقلية معزولة تغتصب السلطة وتقيم فيها على الرغم من معارضة الأكثرية، على ما تصور وسائل إعلام غربية وعربية عديدة. "نظام الملالي" أو "نظام آيات الله"، على ما يسمى من قبل المعارضين، يتمتع بقاعدة اجتماعية وشعبية وازنة، ويرتكز إلى عدد من عوامل القوة التي تجعل سقوطه بفعل الضربات الجوية الإسرائيلية وحدها، مسألة فيها نظر كثير.
فقد تأسس الحكم الايراني الحالي بعد عملية صعبة شملت اسقاط الشاه السابق في ثورة شعبية واسعة والتخلص من رموزه العسكرية والامنية عبر حملة اعدامات واسعة والمرور بـ"مطهر" الحرب مع العراق التي مثلت امتحانا هائل الصعوبة للحكومة حديثة الولادة في ذلك الحين في طهران وصولا الى مرحلة "اعادة الاعمار" ثم توسع نفوذ "الحرس الثوري". وفي المراحل هذه جميعها، لم تظهر حركات اعتراض او تمرد جذرية، بل كان الدفاع عن النظام عاملا مشتركا بين الطرفين الكبيرين في المشهد السياسي، اي المحافظين والاصلاحيين، مع وجود تيارات اقل اهمية ذات مطالب جذرية بالتغيير.
استحضار مظاهرات "الثورة الخضراء" في 2009 على سبيل المثال، والتي جرت احتجاجا على تزوير الانتخابات الرئاسية لفرض حصول محمود إحمدي نجاد على ولاية ثانية، ومظاهرات 2022 بعد مقتل الشابة مهسا أميني التي عُرفت بحركة "المرأة – الحياة – الحرية"، والمظاهرات الطلابية منذ 1999، ليست مما يمكّن من بناء استنتاج صلب عن اهتزاز قاعدة النظام. التحركات المذكورة جرت في إطار مديني–شبابي، لم ينجح في استنهاض اعتراض القوى الاجتماعية القادرة على تغيير الخريطة السياسية. فالأرياف لم تتحرك ولا تجار البازار ولا الفئات العمالية الممسكة بصناعة النفط، أي القوى الشهيرة التي أدى تحالفها إلى سقوط نظام الشاه في 1979 بحرمانه من التأييد ومن السند المالي والشعبي.
الدولة والمجتمع
هذه القوى وغيرها ما زالت في صف النظام اليوم. وعلى الرغم من صحة الحديث عن شظف العيش في إيران بسبب العقوبات الدولية وتفشي الفساد وتمدد هيمنة "الحرس الثوري" على الاقتصاد وخصوصا القطاعات الأكبر ربحية فيه كالاتصالات وعقود المقاولات التي تمنحها الدولة (من خلال "مقر خاتم الأنبياء" الذي قتل قائده في الموجة الأولى من الغارات الإسرائيلية فجر يوم الجمعة 13 يونيو/ حزيران) إلا أن ذلك ليس إلا جزءا من الصورة الأكبر للاقتصاد الإيراني الذي يتسم بحجم تبادلات وإنتاج معتبر، على الرغم من أن الحديث يتركز دائما على القطاع النفطي، وهو ما لا يعكس بدقة صورة الاقتصاد الداخلي.