إيران من تغيير النظام إلى القنبلة النووية

أ ف ب
أ ف ب
دخان يتصاعد جراء حريق مصفاة نفط في طهران وراء اعلام ايرانية في 15 يونيو

إيران من تغيير النظام إلى القنبلة النووية

يُفضل في الساعات والأيام الحبلى بتغيرات كبرى، الابتعاد قليلا عن الألوان المبهرجة لانفجار الصواريخ ومشاهد الدمار والضحايا وخطابات السياسيين التعبوية والتزام الحذر في إطلاق الاحكام القاطعة، على الرغم من عُسر المهمة هذه. اللجوء إلى التقييم الباحث عن بعض المعنى والعمق في الخلفيات التي انفجر الصراع عليها، يبدو أجدى، خصوصا في حالة الحرب الدائرة حاليا بين إسرائيل وإيران والمثقلة بعقود من العداء والصراعات التي دارت بالوكالة أو في ظلال عالم الاستخبارات والضربات غير المباشرة.

لذلك يمكننا هنا التذكير ببعض المبالغات التي يكثر تردادها في وسائل الإعلام وعلى ألسنة المتحدثين الحربيين والمحرضين الأيديولوجيين. أول تلك المبالغات مقولة "تغيير النظام" في إيران.

دعونا نتذكر هنا أن النظام الإيراني ليس نظام أقلية معزولة تغتصب السلطة وتقيم فيها على الرغم من معارضة الأكثرية، على ما تصور وسائل إعلام غربية وعربية عديدة. "نظام الملالي" أو "نظام آيات الله"، على ما يسمى من قبل المعارضين، يتمتع بقاعدة اجتماعية وشعبية وازنة، ويرتكز إلى عدد من عوامل القوة التي تجعل سقوطه بفعل الضربات الجوية الإسرائيلية وحدها، مسألة فيها نظر كثير.

فقد تأسس الحكم الايراني الحالي بعد عملية صعبة شملت اسقاط الشاه السابق في ثورة شعبية واسعة والتخلص من رموزه العسكرية والامنية عبر حملة اعدامات واسعة والمرور بـ"مطهر" الحرب مع العراق التي مثلت امتحانا هائل الصعوبة للحكومة حديثة الولادة في ذلك الحين في طهران وصولا الى مرحلة "اعادة الاعمار" ثم توسع نفوذ "الحرس الثوري". وفي المراحل هذه جميعها، لم تظهر حركات اعتراض او تمرد جذرية، بل كان الدفاع عن النظام عاملا مشتركا بين الطرفين الكبيرين في المشهد السياسي، اي المحافظين والاصلاحيين، مع وجود تيارات اقل اهمية ذات مطالب جذرية بالتغيير.

استحضار مظاهرات "الثورة الخضراء" في 2009 على سبيل المثال، والتي جرت احتجاجا على تزوير الانتخابات الرئاسية لفرض حصول محمود إحمدي نجاد على ولاية ثانية، ومظاهرات 2022 بعد مقتل الشابة مهسا أميني التي عُرفت بحركة "المرأة – الحياة – الحرية"، والمظاهرات الطلابية منذ 1999، ليست مما يمكّن من بناء استنتاج صلب عن اهتزاز قاعدة النظام. التحركات المذكورة جرت في إطار مديني–شبابي، لم ينجح في استنهاض اعتراض القوى الاجتماعية القادرة على تغيير الخريطة السياسية. فالأرياف لم تتحرك ولا تجار البازار ولا الفئات العمالية الممسكة بصناعة النفط، أي القوى الشهيرة التي أدى تحالفها إلى سقوط نظام الشاه في 1979 بحرمانه من التأييد ومن السند المالي والشعبي.

الدولة والمجتمع

هذه القوى وغيرها ما زالت في صف النظام اليوم. وعلى الرغم من صحة الحديث عن شظف العيش في إيران بسبب العقوبات الدولية وتفشي الفساد وتمدد هيمنة "الحرس الثوري" على الاقتصاد وخصوصا القطاعات الأكبر ربحية فيه كالاتصالات وعقود المقاولات التي تمنحها الدولة (من خلال "مقر خاتم الأنبياء" الذي قتل قائده في الموجة الأولى من الغارات الإسرائيلية فجر يوم الجمعة 13 يونيو/ حزيران) إلا أن ذلك ليس إلا جزءا من الصورة الأكبر للاقتصاد الإيراني الذي يتسم بحجم تبادلات وإنتاج معتبر، على الرغم من أن الحديث يتركز دائما على القطاع النفطي، وهو ما لا يعكس بدقة صورة الاقتصاد الداخلي.

أربعة عقود من العقوبات الدولية منحت السلطات الإيرانية خبرة واسعة في الالتفاف على الإجراءات الغربية وإنشاء الشركات الوهمية والتهرب من العقوبات من خلال شبكات تنتشر في كافة أنحاء العالم

فمساحة إيران الشاسعة (أكثر من 1.6 مليون كيلومتر مربع) وتنوع مناخاتها من الجبلي الشبيه بجبال الألب في الشمال، إلى الصحراوي في الوسط، إلى شبه المداري في الجنوب، يوفر لها طيفا واسعا من المحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني. ما يجعل فرض حصار غذائي عليها شبه مستحيل. ناهيك عن أن أربعة عقود من العقوبات الدولية، منحت السلطات الإيرانية خبرة واسعة في الالتفاف على الإجراءات الغربية وإنشاء الشركات الوهمية والتهرب من العقوبات من خلال شبكات تنتشر في كافة أنحاء العالم يساندها في ذلك رغبة العديد من الشركاء الدوليين في تحقيق الارباح بغض النظر عن المخاطر. 

Open Source
آية الله الخميني والمرشد الحالي علي خامنئي في صورة تعود الى 1986

هنا، يبدو المعترضون على سياسات النظام في الداخل والخارج، يمثلون أساسا النخب المدينية والطامحين إلى تحقيق نموذج أكثر تطورا من الحكم. وهم بذلك- وعلى الرغم من وجاهة مطالبهم- جزء واحد من بين أجزاء كثيرة يتكون منها مجتمع الإيرانيين الذين ينتشرون في الأرياف ويعمل قسم منهم في مؤسسات الدولة وأجهزتها والذين يتبنون قيما ورؤى هي أقرب إلى مواقف النظام منها إلى آراء معارضيه. ولا ينبغي ان يسقط من هذا الاعتبار قلة استطلاعات الرأي في ايران وتراجع نسبة المشاركين في الانتخابات في الاعوام الاخيرة الذي فُسر كمقاطعة من قبل الجمهور ورفض لتوجهات الحكم. يترك ذلك هامشا عريضا للاعتقاد بأن الرأي العام الايراني لا يحظى بفرصة جدية للتعبير عن نفسه.  
ويجوز هنا تشبيه الثورة الإيرانية التي اعتمدت الإسلام الشيعي في إيران، بالثورة الصينية التي تبنت الشيوعية في الصين. فالإسلام بالصيغة التي دعا إليها الإمام الخميني، كانت اقتراحا لإخراج إيران من الطريق الذي وضعها فيه حكم الشاه محمد رضا بهلوي والذي اتهمه معارضوه بالتبعية العمياء للغرب وبعدم تقدير إيران حق قدرها وعدم الاستجابة لطموحات مواطنيه في تحقيق هويتهم، وذلك عبر تزوير تاريخهم وتحقيره خصوصا الجانب المتعلق بالشق الاسلامي منه. يشبه هذا الموقف ما كان يتبناه الشيوعيون الصينيون الذين اعتبروا أن الماركسية هي السبيل لإنقاذ الصين من المأزق الحضاري الذي وصلت إليه بسبب انحطاط الحكم الإمبراطوري الذي تحول إلى دمية بين أيدي القوى الأجنبية، أي الغرب واليابان والنفوذ الاجنبي في بلاد لطالما اعتزت بحضارتها. وهذا ما يفسر ضآلة ما يربط الحزب الشيوعي الصيني الحالي بالأيديولوجيا الماركسية التقليدية بعد نجاح الصين في قفزاتها التنموية والاقتصادية. 

الدولة الدائمة


كذلك الأمر بالنسبة إلى الخميني الذي كان يراقب منذ ستينات القرن الماضي، التغيرات في المزاج الاجتماعي الإيراني ويبني سياساته الداخلية على التوازنات وتحولاتها وهذا سلوك استمر عليه بعد وصوله الى السلطة. ومن أشهر الأمثلة تخليه عن تأييده للرئيس الأول بعد الثورة أبو الحسن بني صدر الذي اعترض على العلامات الأولى للحكم الشمولي. كذلك إقصاء الخميني لما سُمي "اليسار الإسلامي" ممثلا برئيس الوزراء في تلك المرحلة مير حسين موسوي الذي حاول العودة إلى الساحة في انتخابات 2009 لكنه وضع في الإقامة الجبرية حيث لا يزال موجودا. الخصومة بين مير حسين موسوي ورئيس الجمهورية في ذلك الحين علي خامنئي، حسمها الخميني الذي اعتبر أن "اليسار" غير مؤهل لقيادة إيران. كما أن إبعاد آية الله حسين منتظري من منصب نائب الولي الفقيه يصب في سياق مشابه. لكن صعود التيار المتشدد في إيران منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي لم يلغ التيار الإصلاحي الذي تمكن من إيصال الرئيس محمد خاتمي، من دون ان يفلح في الإمساك بمفاصل السلطة الحقيقية على ما ظهر مع بدء مظاهرات الطلاب في عهد خاتمي.  

الهجمات التي تتعرض لها المنشآت النفطية والصناعية الإيرانية، تنطوي على علامات أن حكومة بنيامين نتنياهو لن تقف عند حدود تجريد إيران من برنامجها النووي. بل إنها تسعى إلى تغيير النظام

الطريق إلى الانعتاق من خلال الهوية الدينية، الذي فتن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الباحث عن طريق ثالث بين الشيوعية السوفياتية المتكلسة والرأسمالية الأميركية (قبل أن يغير رأيه في وقت لاحق)، هو النموذج الذي قدمه الخميني لمسألة الدولة رافضا أن يكون دستورها القرآن، على الرغم من إلحاح الكثير من الأصوليين الإسلاميين، متشبثا بضرورة بقاء الدولة قادرة على المناورة بعيدا عن الأحكام المنزلة إلهيا، فيما يظل "الولي الفقيه" نائب الامام المنتظر هو الحاكم الاخير وصاحب القول الفصل. 

أ ف ب
متظاهرون يحرقون الاطارات في طهران احتجاجا على مقتل الشابة مهسا اميني في 19 سبتمبر 2022

وايران، في السردية السائدة، هي الدولة الوحيدة في العالم المستمر وجودها منذ نشوء الإمبراطورية الميدية في القرن السابع قبل الميلاد والتي لم تختف تماما سوى في القرنين اللذين أعقبا الفتح العربي-الإسلامي، لتُبعث من جديد في شرق البلاد. يمكن هنا العودة إلى كتاب المؤرخ عبد الحسين زرونكوب "قرنان من السكوت" ("دو قرن سكوت") للتعرف على خلفية الإشكالية الإيرانية في النظر إلى العرب والإسلام. 
بكلمات ثانية، تختلف نظرة الإيرانيين إلى دولتهم عن تلك السائدة في أكثرية البلدان العربية. إذ إن بقاءها وقوتها مسألة مرتبطة بالهوية بما يتجاوز مفهوم الدولة–الأمة (الذي صاغته الحداثة الأوروبية منذ معاهدتي وستفاليا في 1648)، إلى مفهوم الدولة الضامنة لوجود الشعب الإيراني وتاريخه وثقافته، إضافة إلى الحضور في العالم. وغني عن البيان أن الشعب الإيراني يتألف من قوميات عدة، أبرزها الفارسية والأذرية والكردية والعربية والبلوش وسواها من الأعراق والثقافات. لكنّ ثمة أمرا واقعا هو البقاء تحت مظلة دولة موحدة وعدم التسامح مع أي مطلب انفصالي. وجدير بالتذكير هنا أن حركة التمرد الأولى التي واجهها حكم الخميني كانت في كردستان الإيرانية وجرى قمعها بقسوة بالغة. 

مدى الحرب


ليس تفصيلا عابرا التحدي الذي رمته إسرائيل في وجه إيران. فالهجمات التي تتعرض لها المنشآت النفطية والصناعية الإيرانية، بعد الاستهداف الداهم للقواعد العسكرية ولمنازل المسؤولين العسكريين والباحثين في المجال النووي، تنطوي كلها على علامات أن حكومة بنيامين نتنياهو لن تقف عند حدود تجريد إيران من برنامجها النووي. بل إنها تسعى إلى تغيير النظام بحرمانه من موارده المالية ومن قدرته على الدفاع عن نفسه وتهشيم صورته كقوة لا تنازع أمام أعين مواطنيه من خلال عمليات "قطع الرأس" التي استهدفت شخصيات الصف الاول في النظام.

من المغامرة والتبسيط الركون إلى استنتاج واحد عن الوجهة التي ستمضي هذه الحرب فيها. لكن الأكيد أن التغييرات التي ستفرضها على شعوب هذه المنطقة ستستمر لعقود عديدة مقبلة

وهذه قفزة كبيرة في الصراع الإيراني–الإسرائيلي متعدد الوجوه والمستويات. فإلى جانب الكلام الكثير عن الموقف من القضية الفلسطينية واستخدامها الأداتي من قبل إيران، هناك مسألة الموقع الذي يمكن أن تحتله طهران في مستقبل المنطقة الذي تجري محاولات رسمه منذ ما قبل هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. تركيا وإسرائيل وإيران في الشرق الأوسط الجديد قد لا تتمكن من التعايش معا في ظل التباين الشديد في الأنظمة السياسية لكل منها. لذلك بدت الحرب، فرصة لإسرائيل لإبعاد منافستها إيران. 

 أ ف ب
ايرانية تحمل العلم الوطني اثناء مظاهرة مؤيدة للحكومة ولادانة الاحتجاجات على مقال الشابة مهسا أميني. طهران في 5 اكتوبر 2022

غير أن "القضمة قد تكون أكبر من معدة" إسرائيل التي لا تستطيع أن تمضي في مشروع إسقاط النظام الإيراني ولا حتى في الحرب بمستواها الحالي من دون إسناد أميركي كامل ومتواصل وهو ما لا يمكن الجزم به في ظل التبدلات المستمرة في مواقف إدارة دونالد ترمب. الامداد العسكري بالذخائر النوعية والمعلومات الاستخبارية والمشاركة في اسقاط موجات الصواريخ الايرانية الموجهة الى اسرائيل، يتعلق استمرارها بقرار البيت الابيض وتقييمه لمكمن المصلحة الاميركية. 
المسؤولون الغربيون وعدد من مراكز الأبحاث الدولية تحدثت منذ شهور عن أن إيران قد تجاوزت "العتبة النووية" وأنها في حاجة "إلى ما يتراوح بين بضعة أسابيع إلى بضعة شهور" لتصنيع قنبلتها النووية الأولى. وقد كشفت الوثائق التي صادرتها الاستخبارات الإسرائيلية من طهران وتفاخر نتنياهو بعرضها في 2018، أن صناعة رأس نووي قابل للتركيب على صاروخ باليستي كانت من بين اهتمامات العلماء الإيرانيين. وعليه، يمكن القول إن الإيرانيين قد تقدموا في هذا المجال كما فعلوا في مجال التخصيب الذي أعلنوا أنهم رفعوا مستواه إلى 60 في المئة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الموقع في 2015، وبذلك يكون الايرانيون قد قطعوا ثلثي المسافة التي تفصل عن المستوى العسكري لليورانيوم، أي 90–95 في المئة. 
كما أن الجهات ذاتها لم تترك مجالا للشك في أن أي ضربات إسرائيلية لن تستطيع تأخير البرنامج النووي الإيراني سوى بضعة أسابيع ما لم تتدخل الولايات المتحدة مباشرة وتقوم بقصف ثقيل للمراكز الإيرانية يؤدي إلى تدمير المنشآت الموجودة في باطن الجبال وعلى أعماق سحيقة تحت الأرض. وهو ما كرره رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ايهود باراك في مقابلة تلفزيونية بعد الهجوم الاسرائيلي الاول على طهران. 
هكذا يبرز الدور المركزي للولايات المتحدة في هذه الحرب: إذا مضت في دعم الهجوم الإسرائيلي الشامل بهدف إسقاط النظام وامتنعت عن المبادرة إلى طرح حل سياسي، سيكون في وسع الإيرانيين التراجع عن فتوى خامنئي بتحريم تصنيع القنبلة النووية، وإجراء تفجير تجريبي في غضون أسابيع أو أشهر قليلة كرسالة نهائية لإجبار إسرائيل على التوقف عن عملياتها، اذا رأوا ان التسوية التي ستعرض عليهم دون مطالبهم بكثير. 
كما أن المدى الذي ستبلغه الولايات المتحدة في دعم إسرائيل في حربها هذه سيجعل النظام الإيراني يعيد تقييم الأوراق التي لا زالت في حوزته كإغلاق مضيق هرمز وقصف القواعد الأميركية في الخليج والعراق وغيرهما. 
من المغامرة والتبسيط المخل الركون إلى استنتاج واحد عن الوجهة التي ستمضي هذه الحرب فيها. لكن الأكيد أن الولايات المتحدة تؤدي دوريا محوريا في الاحداث والكثير متعلق بما ستقرره، كما أن التغييرات التي ستفرضها الحرب الحالية على شعوب هذه المنطقة ستستمر لعقود عديدة مقبلة. 

font change