هكذا هندست الاستخبارات الإسرائيلية "الضربة المفاجئة" لإيران

تقرير تفصيلي عن عمل "الموساد" في الهجوم

أ.ب
أ.ب
رجل يمر بجانب لوحة إعلانات تُعرض عليها صور كبار القادة والعلماء الإيرانيين الذين قُتلوا في الضربات الإسرائيلية، طهران، 13 يونيو 2025

هكذا هندست الاستخبارات الإسرائيلية "الضربة المفاجئة" لإيران

في الساعات الأولى من فجر 13 يونيو/حزيران، شنّت إسرائيل إحدى أكثر عملياتها جرأة وإحكاما في تاريخها الحديث، فسدّدت ضربة غير مسبوقة في عمق الأراضي الإيرانية، جاءت تتويجا لسنوات، وربما لعقود، من جمع المعلومات الاستخباراتية والتسلل والخداع الاستراتيجي.

لم تكن العملية عملا حربيا ارتجاليا، بل حصيلة لعمل شبكات واسعة من العملاء، وطبقات متعددة من التمويه، وانضباط عملياتي صارم، يكرّس السمعة الراسخة لإسرائيل في مجال العمل الاستخباراتي.

ارتكزت العملية الاستخباراتية على ثلاثة عناصر حسابية حرجة: أولا، تحديد و"تصنيف" الأهداف ذات الأولوية القصوى لـ"تحييدها" خلال الساعة الأولى. ثانيا، توقع قدرة إيران على الرد وتعطيلها من خلال وابل صاروخي مكثف. وثالثا، خداع طهران وإبقائها في حالة إنكار حتى اللحظة الأخيرة، عبر جعل القيادة الإيرانية تعتقد أن التهديدات الإسرائيلية مجرد وعود فارغة لا تنوي تنفيذها على الأرض.

وقد نجحت إسرائيل في تحقيق هذه الغايات الثلاث بدقة شبه تامة. ووفقا للتقارير الواردة، فقد فاق حجم النجاح توقعات كبار المخططين الإسرائيليين. فبدلا من أن تطلق إيران وابلا من الصواريخ كان الإسرائيليون يقدرونه بنحو ألف صاروخ، لم يتجاوز الرد الفعلي 100 إلى 200 صاروخ، ما أتاح لإسرائيل نافذة مهمة من التفوق العملياتي خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى.

مجموعة التسلّح

على مدى سنوات، تمكّن عملاء الاستخبارات الإسرائيلية من تكوين صورة دقيقة ليس فقط عن البرنامج النووي الإيراني عموما، بل كذلك عن برنامج سري للغاية كان يعمل على إنتاج القنبلة النووية، لم يكن على علم به سوى عدد محدود من كبار المسؤولين في طهران.

ومرة أخرى، بدت في وسائل الإعلام انعكاسات لمحاولات إيران التأكد من قدرتها على صنع قنبلة نووية بسرعة. فمن دون علم غالبية القيادات العليا في إيران، عادت للعمل خلية كانت قد شاركت سابقا في أول جهد إيراني لتسليح قنبلة نووية. وفي عام 2023، نشرت تقارير في الإعلام الإسرائيلي تشير إلى محاولات إيران الحصول على مكونات محددة مثل المفجرات المستخدمة في تفجير القنبلة النووية. وفي يونيو من العام نفسه، كشف تقرير لموقع "أكسيوس" أن الولايات المتحدة رصدت مؤشرات تفيد بأن إيران يمكن أن تستخدم نماذج حاسوبية لتقليص المسافة الفاصلة بينها وبين امتلاك القنبلة.

وفي وقت سابق من العام نفسه، أثارت حادثة العثور على آثار يورانيوم مخصب بنسبة تزيد على 80 في المئة حالة من التأهب الشديد. ويُرجّح أن ذلك دفع إسرائيل إلى تحويل تركيزها إلى الجانب غير الخاضع للرقابة الدولية: أي برنامج التسليح النووي.

وعادت هذه المخاوف إلى الواجهة في أكتوبر الماضي، عندما شنّت إسرائيل ضربات انتقامية بعد موجة صاروخية إيرانية. وخلال تلك الضربة، استهدفت إسرائيل منشأة في مجمّع "بارشين" السري قرب طهران، كانت قد استخدمت سابقا لاختبار مفجرات نووية. وبينما اعتقد البعض أنها كانت مجرد رسالة تحذيرية، أفادت مصادر أخرى أن المنشأة كانت لا تزال نشطة، وتستخدمها مجموعة التسلّح لإجراء اختبارات جديدة.

وبعد ضربة 13 يونيو، راجت شائعات– لم تؤكدها تقارير رسمية– تفيد بأن محاولة إيران الحصول على مكونات تدخل في تصنيع غلاف القنبلة قد كانت من الأسباب الدافعة وراء قرار إسرائيل بتنفيذ العملية.

التحديد الدقيق للائحة الأهداف

ساعدت سنوات التغلغل في الجهاز الأمني الإيراني إسرائيل على فهم طبيعة ردّ الفعل الإيراني تجاه أي هجوم محتمل، ما مكنها من تفادي ردّ انتقامي كان من شأنه أن يودي بحياة مئات الإسرائيليين في اليوم الأول، أو حتى أن يشل قدرتها على مواصلة العمليات داخل العمق الإيراني. إذ احتفظت إيران بقوة صاروخية عالية الجاهزية، قادرة على إطلاق وابل كثيف من الصواريخ نحو إسرائيل. ولم يكن الهدف من هذه الضربات محصورا في إلحاق الأذى بالجبهة الداخلية، بل كان من شأنها أيضا تعطيل القواعد الجوية الإسرائيلية. ومن بين السيناريوهات الحرجة التي درستها تل أبيب، احتمال عدم تمكن الطائرات المشاركة في الموجة الأولى من الهجوم من العودة إلى قواعدها، بسبب التعرض لهجمات صاروخية مكثفة تنفذها إيران أو حلفاؤها.

لكن أحد المكونات الأساسية في هذه الاستراتيجية الإيرانية كان قد جرى تحييده قبل انطلاق الضربة، عندما أُخرج "حزب الله" من المعادلة، ومعه أكثر من 100 ألف صاروخ، بالإضافة إلى مخزونه المحدود من الصواريخ الدقيقة، والتي كانت معدة للاستخدام في حال هاجمت إسرائيل إيران. هذا التطور منح إسرائيل مساحة أوسع للمبادرة، من دون أن ينفي استمرار قدرة طهران على شن هجمات منفردة سواء ضد القواعد الجوية أو، كما هو حاصل اليوم، ضد الجبهة الداخلية. يضاف إلى ذلك عنصر المفاجأة الذي فاقم الأثر المتوقع للضربة: فلم يكن الجمهور الإسرائيلي على علم مسبق بالهجوم، وعلى الرغم من انطلاق صفارات الإنذار عند الساعة الثالثة والنصف فجرا يوم 13 يونيو للتحذير من وابل صاروخي محتمل، فإن كثيرين لم يدركوا أن الهجوم هذه المرة مختلف، بعد أن اعتادوا على الصواريخ الليلية التي يطلقها الحوثيون من اليمن.

كان تعطيل قدرات إيران على تنفيذ "رد سريع" أمرا بالغ الأهمية

لهذا، كان تعطيل قدرات إيران على تنفيذ "رد سريع" أمرا بالغ الأهمية. وقد أنجزت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية هذا الهدف من خلال خطتين متزامنتين: تمثلت الأولى في استهداف المسؤولين المباشرين عن قيادة القوة الصاروخية، القادرين على إعطاء أمر الإطلاق. وتشير التقديرات إلى أن إسرائيل استهدفت اجتماعا سريا للقيادة الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، ويُعتقد أن "الموساد" دفع إلى عقده بوسائل غير معلنة أقنعت كبار القادة بضرورة الالتقاء.

وخلال الضربة، قُتل قائد القوة، العميد أمير علي حاجي زاده، ومعه عدد من كبار مساعديه الذين كانوا يمكن أن ينوبوا عنه في تنفيذ الرد. بالتوازي، نُفذت ضربات على منصات الإطلاق نفسها لضمان حرمان إيران من الوسائل التقنية اللازمة لتنفيذ الهجوم الصاروخي المتوقع. وباستهداف متخذي القرار، والمنصات المخصصة للموجة الأولى من الضربات الانتقامية، منحت إسرائيل نفسها ما يقرب من أربع وعشرين ساعة من الهدوء النسبي، إذ لم تتمكن إيران خلالها إلا من إطلاق طائرات مسيّرة بطيئة يسهل اعتراضها من قبل المقاتلات والمروحيات الإسرائيلية أثناء عبورها المسافة الطويلة بين البلدين.

ورغم دقة الضربة، شكّلت سلسلة الاغتيالات التي سبقت العملية تحديا استخباراتيا هائلا. فلو أخفق أيّ من هذه العمليات، لأمكن للمستهدفين اللجوء إلى مواقع آمنة بعيدة عن متناول الموجة الأولى من الهجمات الجوية والبرية. لذا كان من الضروري تحديد مواقع كل الأهداف الحيوية مسبقا، وهي تشمل كبار الضباط العسكريين مثل العميد حاجي زاده، واللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة، واللواء حسين سلامي قائد الحرس الثوري، واللواء غلام علي رشيد قائد مقر عمليات "خاتم الأنبياء". كما شملت تسعة علماء بارزين ضمن "مجموعة التسلح"، كانوا يشكلون نواة البرنامج النووي الإيراني، بالإضافة إلى وثائق نووية سرية يُعتقد أنها تضمنت معلومات حساسة حول الجهود السرية لإيران في تطوير سلاح نووي.

AFP
لوحة إعلانية تصور صواريخ باليستية إيرانية قيد الخدمة، مع نص باللغة الفارسية يقول "إسرائيل أضعف من شبكة العنكبوت" في وسط طهران في 15 أبريل 2024

هذا التحديد الدقيق للائحة الأهداف هو ما فرض تسلسل الضربة وأولوياتها. فلو بدأت إسرائيل باستهداف المنشآت النووية، لكان من المرجح أن يتم إخلاء الكوادر الحساسة خلال ساعة واحدة. لذلك، اختارت البدء بضرب الأفراد، إلى جانب أهداف ثابتة ومتحركة، يسهم تدميرها في تمهيد الطريق لعمليات لاحقة. وتشير المعلومات إلى أن إسرائيل كانت على دراية بالأماكن التي قد يتجه إليها المستهدفون في حال تم خرق الحماية الأمنية، إذ إنها شنت في الأيام التالية هجوما على منشأة طارئة سرية انتقل إليها بعض أعضاء الطاقم الإيراني، وأسفر الهجوم عن مقتل الجنرال علي شمداني، الذي كان قد خلف اللواء غلام علي رشيد في رئاسة العمليات.

غير أن الانحراف عن بنك الأهداف الأصلي في مثل هذه الظروف له كلفته، خاصة مع اضطرار الطائرات لعبور مسافات تزيد على 1500 كيلومتر بين الأهداف والقواعد الجوية. وعلى الرغم من أن هذه الأولويات كانت ثمرة لسنوات طويلة من الجهد الاستخباراتي المضني، فإن العملية بأسرها كانت معرضة للانهيار في أي لحظة، سواء بفعل مفاجآت ميدانية أو تسريبات استخباراتية تكشف نوايا إسرائيل. ولكن لحسن حظ إسرائيل، لم يحدث شيء من ذلك.

رغم أن الهجوم الإسرائيلي نُفذ بشكل أساسي من قبل الجيش والأجهزة الأمنية، فقد استند أيضا إلى قرارات القيادة السياسية في تل أبيب

ذراع "الموساد" الطويلة

مهّدت المعلومات الاستخباراتية الدقيقة الطريق أمام عملية نفّذها الموساد من داخل إيران، حيث شنّت خلايا إسرائيلية سلسلة من الهجمات ضد منشآت وأفراد إيرانيين، مستخدمة طائرات مسيّرة صغيرة من طراز كوادكابتر، كانت أُدخلت إلى إيران وخُزّنت في شاحنات ومركبات مدنية، لتوجيه ضربات عن بُعد إلى أهداف عالية القيمة، شملت منصات إطلاق صواريخ وبقايا أنظمة الدفاع الجوي. وجرى تهريب الطائرات المسيّرة والمواد المتفجرة إلى داخل إيران على مدى أشهر– وربما لفترة أطول– ثم جرى نشرها بالقرب من الأهداف المقررة، في نقاط يصعب اكتشافها.

وعلى الرغم من أن إسرائيل عطّلت بعضا من أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطورا لدى إيران، مثل "منظومة S-300"  الروسية، فإن إيران ظلّت تحتفظ بشبكة من الأنظمة الأقدم أو المصنّعة محليا، ولكن هذه الأنظمة لم تمثل تحديا حقيقيا للطائرات الإسرائيلية، ولا سيما أنها كانت تفتقر إلى التكامل التشغيلي، على عكس "منظومة S-300". ومع ذلك، فإن تدميرها من الأرض أتاح للطائرات الإسرائيلية التركيز على أهداف ذات أولوية أعلى، وقلّل من احتمالية وقوع مفاجآت غير محسوبة، خاصة بالنظر إلى تضاريس إيران الجبلية المعقّدة.

ومن اللافت أن أوكرانيا كانت اعتمدت تكتيكا مشابها في عملية "شبكة العنكبوت" من خلال نشر طائرات مسيّرة صغيرة قرب قواعد جوية روسية لضرب قاذفات موسكو الاستراتيجية. وشكّلت هذه العملية غير المسبوقة، من حيث النوع والتكتيك، مؤشرا واضحا وقتها على الخطر الكامن في الطائرات المسيّرة الصغيرة المخفية داخل مركبات تجارية. غير أن إيران لم تنتبه لهذا الإنذار، على ما يبدو، أو لعلها لم تكن تملك الوقت الكافي للاستجابة له.

وبحسب تقارير غير مؤكدة ولقطات مصوّرة من طهران، قد تكون خلايا "الموساد" استخدمت أيضا صواريخ مضادة للدروع يتم تشغيلها عن بعد، لتنفيذ عمليات اغتيال دقيقة بحق مسؤولين إيرانيين. وقد طوّرت إسرائيل بعض نماذج منظومة "سبايك" لهذا الغرض تحديدا، بحيث تكون قادرة على إصابة شقق سكنية أو اختراق النوافذ في بيئات حضرية معقدة.

أدى تفعيل الخلايا الإسرائيلية داخل إيران إلى ترسيخ التفوق الجوي الإسرائيلي بسرعة. فمعظم الذخائر التي حملتها الطائرات في الموجة الأولى استُخدمت لضرب أهداف شديدة التحصين، فيما ساهمت تلك الضربات في إرباك القيادة الإيرانية وتعميق حالة الذعر الأولي. وقد كان هذا التشويش جزءا من خطة أوسع أعدّتها القيادة السياسية الإسرائيلية، استندت إلى استغلال الانحيازات والتصورات المسبقة لدى صنّاع القرار في طهران بشأن سلوك إسرائيل ونواياها، وهو ما جعل رد فعلهم أكثر ارتباكا وأقل فاعلية في اللحظات الحاسمة.

الاختباء في مرأى العين

رغم أن الهجوم الإسرائيلي نُفذ بشكل أساسي من قبل الجيش والأجهزة الأمنية، فقد استند أيضا إلى قرارات القيادة السياسية في تل أبيب. ولكن المشكلة أن مجلس الوزراء الإسرائيلي يعجّ بالمسربين، وقد غدا تسريب الأسرار الوطنية هواية شبه رسمية لمن يطّلع عليها. لذلك، دُعي مجلس الوزراء إلى اجتماع اعتيادي لمناقشة الوضع في غزة وإمكانيات التقدم في ملف تبادل الأسرى. وفي ختام الاجتماع، طُلب من بعض الأعضاء البقاء، ثم نُقلوا إلى موقع آمن، حيث أُبلغوا بالهدف الحقيقي: إسرائيل على وشك تنفيذ ضربة ضد إيران. وبحسب مصادر إسرائيلية، فقد أُقرّت العملية بالإجماع، وعبّر بعض الوزراء عن دعمهم بمصافحات وعناق، متمنين النجاح للقوات الأمنية في واحدة من أخطر العمليات في تاريخ البلاد.

وكان الحفاظ على سرية العملية وتفادي التسريبات أمرا بالغ الأهمية. كان من الممكن لإسرائيل أن تخفي نواياها بالكامل، غير أن ذلك كان سيصطدم بصعوبة التنفيذ نظرا لاتساع نطاق التحركات. لذا، اختارت القيادة السياسية تكتيكا مغايرا: أن تختبئ في مرأى العين.

كان الحفاظ على سرية العملية وتفادي التسريبات أمرا بالغ الأهمية. كان من الممكن لإسرائيل أن تخفي نواياها بالكامل غير أن ذلك كان سيصطدم بصعوبة التنفيذ نظرا لاتساع نطاق التحركات

لتنفيذ هذا النهج، استغلت إسرائيل تصوّرا مستقرا لدى النخبة الحاكمة في طهران، مفاده أن إسرائيل لن تقدم على أي هجوم خلال المفاوضات النووية حتى لا تُغضب الرئيس ترمب. هذا الاعتقاد متجذر في رؤية إيران للعالم، التي تعتبر إسرائيل "الشيطان الأصغر" التابع كليا لـ"الشيطان الأكبر" في واشنطن.

ليس واضحا ما إذا كان ترمب قد شارك في لعبة خداع مدروسة، أم إنه انضم إلى الخطة في اللحظات الأخيرة بعد اقتناعه. لكن على أي حال، كانت إحدى العقبات الجوهرية هي ضرورة تقديم إنذار مسبق للولايات المتحدة، إذ لا يمكن المجازفة بعمل أحادي قد يؤدي إلى استهداف إيران للقوات أو المصالح الأميركية في المنطقة. ولهذا السبب، أقدمت واشنطن على إجلاء بعض موظفيها غير الأساسيين قبل ساعات من الضربة، ما عزز الإشارات غير المباشرة بأن شيئا ما على وشك الحدوث، دون أن يفضح النوايا الحقيقية.

اتخذت إسرائيل خطوات متعمدة لتغذية سوء تقدير إيراني متعمّد. من بين هذه الخطوات، ترويج تسريبات عن نية نتنياهو حضور زفاف ابنه في اليوم التالي لانعقاد جولة المفاوضات، لإيصال انطباع بأن تركيزه ليس على إيران. كما تحدث عن تحقيق تقدم في ملف تبادل الأسرى، في محاولة لإيهام طهران بأن التركيز منصب على ملفات أخرى. ومع اقتراب موعد المحادثات، أعلنت إسرائيل إرسال وفد رفيع إلى واشنطن للقاء المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، وكان أحد أعضاء الوفد رئيس "الموساد" نفسه، ديفيد بارنياع، وكأن في الأمر رسالة تقول إن الضربة مستبعدة تماما طالما رئيس الاستخبارات خارج البلاد.

أ.ف.ب
مدير الموساد ديفيد برنياع (أقصى اليمين) ومدير الشاباك رونين بار (الثاني من اليمين) في غرفة عمليات الرهائن والمفقودين أثناء عودة الرهائن الأربعة من غزة في 25 يناير

في ذروة التضليل، سُرّبت معلومات إلى وسائل إعلام دولية تفيد بأن إسرائيل تستعد لتوجيه ضربة يوم الأحد، وهو اليوم نفسه الذي كان من المفترض أن تُعقد فيه الجولة السادسة من المحادثات النووية. كانت الخطة أن تبدو تلك التسريبات كمجرد مناورة تفاوضية لا أكثر.

عكست هذه العملية فهما عميقا لدى إسرائيل لطبيعة تفكير النظام الإيراني، حيث كانت تعلم أن طهران تتابع بدقة تحركات نتنياهو، ومداولات الحكومة، والتسريبات الإعلامية، وتبني عليها تقييماتها. لكن هذه المرة، تحولت كل المؤشرات التي كانت إيران تراقبها إلى عناصر تضليلية مخططة بعناية.

وبالفعل، نجحت إسرائيل في تحويل نقاط ضعفها، ومنها كثرة التسريبات، إلى أدوات خداع، مستفيدة من ثقة إيران الزائدة في قدرتها على تحليل النوايا الإسرائيلية. فكان الهجوم مضاعفا، ليس فقط عبر الصواريخ، بل من خلال "حقائق" مغلوطة زُرعت مسبقا في وعي الخصم.

هذه المرة، تحولت كل المؤشرات التي كانت إيران تراقبها إلى عناصر تضليلية مخططة بعناية

تُعدّ عملية "الأسد الصاعد" شهادة على عمق أجهزة الاستخبارات والجيش الإسرائيلي وقدرتهما ودقة أدائهما. فقد توّجت سنوات من التسلل والمراقبة والخداع الاستراتيجي بضربة فعّالة عطّلت عناصر أساسية من البنية النووية الإيرانية ومنظومة الردع التابعة لها.

ومع ذلك، تبقى المعضلة المزمنة أمام إسرائيل كما هي: كيف تُحوّل هذا التفوق التكتيكي إلى مكاسب استراتيجية طويلة الأمد. لقد أثبتت إسرائيل مرارا قدرتها على التفوق على خصومها في الخفاء، غير أن هذه الانتصارات لا تترجم بالضرورة إلى أمن مستدام أو استقرار سياسي.

أ.ف.ب
مباني قاعدة الصواريخ الشمالية في تبريز في 3 يونيو 2025 (أعلى) و16 يونيو 2025 (أسفل) بعد تعرضها لضربات جوية إسرائيلية

لذلك، يبقى السؤال الملح مهيمنا: هل ستشكّل عملية "الأسد الصاعد" نقطة تحول حقيقية، أم إنها ستضاف إلى سجل النجاحات العابرة في منطقة متقلبة؟ لا يتوقف الجواب فقط على ما نجحت إسرائيل في تدميره، بل على ما تستطيع بناءه الآن سياسيا ودبلوماسيا وإقليميا.

font change

مقالات ذات صلة