في الساعات الأولى من فجر 13 يونيو/حزيران، شنّت إسرائيل إحدى أكثر عملياتها جرأة وإحكاما في تاريخها الحديث، فسدّدت ضربة غير مسبوقة في عمق الأراضي الإيرانية، جاءت تتويجا لسنوات، وربما لعقود، من جمع المعلومات الاستخباراتية والتسلل والخداع الاستراتيجي.
لم تكن العملية عملا حربيا ارتجاليا، بل حصيلة لعمل شبكات واسعة من العملاء، وطبقات متعددة من التمويه، وانضباط عملياتي صارم، يكرّس السمعة الراسخة لإسرائيل في مجال العمل الاستخباراتي.
ارتكزت العملية الاستخباراتية على ثلاثة عناصر حسابية حرجة: أولا، تحديد و"تصنيف" الأهداف ذات الأولوية القصوى لـ"تحييدها" خلال الساعة الأولى. ثانيا، توقع قدرة إيران على الرد وتعطيلها من خلال وابل صاروخي مكثف. وثالثا، خداع طهران وإبقائها في حالة إنكار حتى اللحظة الأخيرة، عبر جعل القيادة الإيرانية تعتقد أن التهديدات الإسرائيلية مجرد وعود فارغة لا تنوي تنفيذها على الأرض.
وقد نجحت إسرائيل في تحقيق هذه الغايات الثلاث بدقة شبه تامة. ووفقا للتقارير الواردة، فقد فاق حجم النجاح توقعات كبار المخططين الإسرائيليين. فبدلا من أن تطلق إيران وابلا من الصواريخ كان الإسرائيليون يقدرونه بنحو ألف صاروخ، لم يتجاوز الرد الفعلي 100 إلى 200 صاروخ، ما أتاح لإسرائيل نافذة مهمة من التفوق العملياتي خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى.
مجموعة التسلّح
على مدى سنوات، تمكّن عملاء الاستخبارات الإسرائيلية من تكوين صورة دقيقة ليس فقط عن البرنامج النووي الإيراني عموما، بل كذلك عن برنامج سري للغاية كان يعمل على إنتاج القنبلة النووية، لم يكن على علم به سوى عدد محدود من كبار المسؤولين في طهران.
ومرة أخرى، بدت في وسائل الإعلام انعكاسات لمحاولات إيران التأكد من قدرتها على صنع قنبلة نووية بسرعة. فمن دون علم غالبية القيادات العليا في إيران، عادت للعمل خلية كانت قد شاركت سابقا في أول جهد إيراني لتسليح قنبلة نووية. وفي عام 2023، نشرت تقارير في الإعلام الإسرائيلي تشير إلى محاولات إيران الحصول على مكونات محددة مثل المفجرات المستخدمة في تفجير القنبلة النووية. وفي يونيو من العام نفسه، كشف تقرير لموقع "أكسيوس" أن الولايات المتحدة رصدت مؤشرات تفيد بأن إيران يمكن أن تستخدم نماذج حاسوبية لتقليص المسافة الفاصلة بينها وبين امتلاك القنبلة.
وفي وقت سابق من العام نفسه، أثارت حادثة العثور على آثار يورانيوم مخصب بنسبة تزيد على 80 في المئة حالة من التأهب الشديد. ويُرجّح أن ذلك دفع إسرائيل إلى تحويل تركيزها إلى الجانب غير الخاضع للرقابة الدولية: أي برنامج التسليح النووي.
وعادت هذه المخاوف إلى الواجهة في أكتوبر الماضي، عندما شنّت إسرائيل ضربات انتقامية بعد موجة صاروخية إيرانية. وخلال تلك الضربة، استهدفت إسرائيل منشأة في مجمّع "بارشين" السري قرب طهران، كانت قد استخدمت سابقا لاختبار مفجرات نووية. وبينما اعتقد البعض أنها كانت مجرد رسالة تحذيرية، أفادت مصادر أخرى أن المنشأة كانت لا تزال نشطة، وتستخدمها مجموعة التسلّح لإجراء اختبارات جديدة.
وبعد ضربة 13 يونيو، راجت شائعات– لم تؤكدها تقارير رسمية– تفيد بأن محاولة إيران الحصول على مكونات تدخل في تصنيع غلاف القنبلة قد كانت من الأسباب الدافعة وراء قرار إسرائيل بتنفيذ العملية.
التحديد الدقيق للائحة الأهداف
ساعدت سنوات التغلغل في الجهاز الأمني الإيراني إسرائيل على فهم طبيعة ردّ الفعل الإيراني تجاه أي هجوم محتمل، ما مكنها من تفادي ردّ انتقامي كان من شأنه أن يودي بحياة مئات الإسرائيليين في اليوم الأول، أو حتى أن يشل قدرتها على مواصلة العمليات داخل العمق الإيراني. إذ احتفظت إيران بقوة صاروخية عالية الجاهزية، قادرة على إطلاق وابل كثيف من الصواريخ نحو إسرائيل. ولم يكن الهدف من هذه الضربات محصورا في إلحاق الأذى بالجبهة الداخلية، بل كان من شأنها أيضا تعطيل القواعد الجوية الإسرائيلية. ومن بين السيناريوهات الحرجة التي درستها تل أبيب، احتمال عدم تمكن الطائرات المشاركة في الموجة الأولى من الهجوم من العودة إلى قواعدها، بسبب التعرض لهجمات صاروخية مكثفة تنفذها إيران أو حلفاؤها.
لكن أحد المكونات الأساسية في هذه الاستراتيجية الإيرانية كان قد جرى تحييده قبل انطلاق الضربة، عندما أُخرج "حزب الله" من المعادلة، ومعه أكثر من 100 ألف صاروخ، بالإضافة إلى مخزونه المحدود من الصواريخ الدقيقة، والتي كانت معدة للاستخدام في حال هاجمت إسرائيل إيران. هذا التطور منح إسرائيل مساحة أوسع للمبادرة، من دون أن ينفي استمرار قدرة طهران على شن هجمات منفردة سواء ضد القواعد الجوية أو، كما هو حاصل اليوم، ضد الجبهة الداخلية. يضاف إلى ذلك عنصر المفاجأة الذي فاقم الأثر المتوقع للضربة: فلم يكن الجمهور الإسرائيلي على علم مسبق بالهجوم، وعلى الرغم من انطلاق صفارات الإنذار عند الساعة الثالثة والنصف فجرا يوم 13 يونيو للتحذير من وابل صاروخي محتمل، فإن كثيرين لم يدركوا أن الهجوم هذه المرة مختلف، بعد أن اعتادوا على الصواريخ الليلية التي يطلقها الحوثيون من اليمن.