الحرب على إيران في ظل التباعد الأميركي - الأوروبي

أ.ب
أ.ب
قادة "مجموعة السبع" في صورة جماعية في ملعب كاناناسكيس الريفي للغولف في كاناناسكيس، كندا في 16 يونيو

الحرب على إيران في ظل التباعد الأميركي - الأوروبي

اندلعت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية في لحظة صعبة من العلاقات عبر الأطلسي إذ تمر العلاقات الأميركية-الأوروبية بمرحلة من الاضطراب، نتيجة التحول الذي قامت به إدارة دونالد ترمب لجهة فرض الرسوم الجمركية أو حيال المسألة الأوكرانية، بالإضافة لدعم اليمين المتطرف الأوروبي.

وقد انعكس ذلك على الارتباك الواضح في القمة الأخيرة لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في كندا، حيث بدا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يعرف شيئا عما ينوي ترمب فعله، ليس على مستوى الوضع بين إسرائيل وإيران بل أيضا على الصعيد البروتوكولي لناحية بقاء الرئيس الأميركي في القمة أو انسحابه منها.

يكمن الأدهى في تسارع خطوات التباعد الاستراتيجي بين الجانبين مما يضع مصير حلف شمال الأطلسي بصيغته الحالية على المحك، ويعمق الشرخ الذي اعتقد كثير من الأوروبيين أنه سيكون لحظة عابرة في التاريخ إبان ولاية ترمب الأولى. لكن بدايات الولاية الثانية حملت مفاجآت جديدة وأخبارا غير سارة لحلفاء أميركا التاريخيين في القارة القديمة. في الوقت الذي تبدو فيه الحاجة ملحة إلى تحالف غربي لمواجهة ما يمكن أن تحمله الحرب الإسرائيلية–الإيرانية، بعد الانقسام العميق حول الصراع الأوكراني الروسي.

من البديهي أن يؤدي الطلاق المرتسم بين "الغرب الأميركي" و"الغرب الأوروبي" على مجمل التوازنات الدولية خاصة لناحية الصراع بين العملاقين الأميركي والصيني، أو بشأن تموضع روسيا ومستقبل علاقاتها مع أوروبا.

تبدو الصورة مشوشة على أكثر من صعيد لأن الانقسام داخل الصف الأوروبي وصعود اليمين المتطرف يعمقان تهميش الدور الدولي للاتحاد الأوروبي. في المقابل، يصح التساؤل عن قدرة الثنائي الألماني-الفرنسي على بلورة قطب أوروبي جيوسياسي، ويسري ذلك ليشمل سيناريو نهاية مركزية الغرب في العلاقات الدولية ونشوء ترتيبات جديدة ضمن مخاض "الفوضى الاستراتيجية " على درب إعادة تشكيل النظام العالمي.

الفراق بين ضفتي الأطلسي

تتوجب الإشارة إلى أن اتجاه واشنطن للابتعاد عن أوروبا، يبدو طويل الأمد، وقد كان قائما قبل حقبة دونالد ترمب. وكانت البداية مع باراك أوباما الذي تبنى استراتيجية "الاستدارة نحو منطقة آسيا- الباسيفيك، وفك الارتباط مع الشرق الأوسط وأوروبا". وبرز مسار التباعد مع جو بايدن بشكل "ملطف"، وانتقل مع ولاية دونالد ترمب الثانية ليكون "أكثر اندفاعا ووقاحة" حسب تعبير الأميركية كيلي جريكو (من مركز ستيمسون- واشنطن).

ونلحظ شعورا مشتركا عند صناع القرار الأميركيين بأن للولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم أولويات واهتمامات أجدى من الاستمرار في تحمل الأعباء عن أوروبا العاجزة بنيويا عن الاضطلاع بدورها. ولا تخفي الأوساط الأميركية امتعاضها من عدم قيام الاتحاد الأوروبي بالإنفاق الكافي والضروري على شؤون الدفاع، وعدم مرونته في معاملاته التجارية والاقتصادية مع أميركا "الأخ الأكبر".

إضافة إلى التناقضات الآنية، توجد خلفيات تاريخية، سياسية، اقتصادية وثقافية مهدت لهذا التباعد التدريجي للولايات المتحدة عن أوروبا.

وتاريخيا، تتلاشى الروابط بين الجانبين من حقبة إلى أخرى: من استيطان الأوروبيين في القارة الجديدة، إلى تدخل أميركا الحاسم في أوروبا خلال حربين عالميتين في القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية كانت خطة مارشال دعامة ‏إعادة إعمار أوروبا، التي أصبحت الحليف الأساسي للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة.

أوروبا لا تزال القوة التجارية الرائدة في العالم، والشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة. ويميل الميزان التجاري بين المنطقتين لصالح أوروبا

بيد أن الأمور أخذت تتغير فعليا مع سقوط الاتحاد السوفياتي. ومنذ ذلك الوقت، أخذت الولايات المتحدة تستدير إلى الجانب الآخر. نحو آسيا لأسباب تتعلق بأهمية التجارة مع قارة صاعدة، ولأن الصين أخذت تحل تدريجيا مكان روسيا كمنافس رئيس للولايات المتحدة. وتكرس هذا التحول مع إدارة أوباما في 2011 مع نقل مركز ثقل الدبلوماسية الأميركية نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وهكذا لم تعد أوروبا أولوية بالنسبة لواشنطن.  

لا تنظر الولايات المتحدة إلى أوروبا ككل. ويبدو الاتحاد الأوروبي بالنسبة لها بمثابة ائتلاف مصطنع من الدول المتراصة جنبا إلى جنب مع عدم وجود للولايات المتحدة الأوروبية. لذلك، من منظور واشنطن، لا وجود لأوروبا ككيان سياسي. هذه هي العبارة التي لطالما نُسبت إلى هنري كيسنجر: "أوروبا، أي رقم هاتف؟" وأخيرا، نضيف أن التركيبة السكانية للولايات المتحدة تُبعدها تدريجيا عن جذورها الأوروبية. حيث تستمر نسبة السكان من أصول لاتينية وآسيوية وأفريقية في النمو.

بيد أن البعد الاقتصادي يبدو محوريا لأن واشنطن تنظر بشكل متزايد إلى أوروبا كلاعب ثانوي ومنافس في آن واحد، مع شعورها بالخسارة في التجارة. وهذا، على أي حال، هو موقف دونالد ترمب الواضح، الذي تُعدّ قضايا الأعمال أولوية له بشكل منهجي، ولأن الثقل الاقتصادي أصبح في آسيا.

لهذا السبب، أعطت الولايات المتحدة الأولوية للتفاوض على اتفاقية شراكة عبر المحيط الهادئ مع 11 دولة مطلة على هذا المحيط. ولهذا السبب أيضا، تُركّز الحرب التجارية الأميركية بشكل مباشر على الصين.

أ.ف.ب
أنقاض مبنى دُمر خلال هجوم إسرائيلي على طهران في 19 يونيو

إلا أن أوروبا لا تزال القوة التجارية الرائدة في العالم، والشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة. ويميل الميزان التجاري بين المنطقتين لصالح أوروبا (حجم العجز 48 مليار يورو حسب الاتحاد الأوروبي وليس 300 مليار دولار حسب أقوال ترمب) المسؤولة عن 20 في المئة من العجز التجاري الأميركي. لذلك، يرى دونالد ترمب هذا ظلما، ويقوم بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأوروبية. كما أنه يعارض سياسة الدعم الأوروبية لبعض الشركات مثل "إيرباص"، رغم أن الولايات المتحدة تفعل الشيء نفسه مع "بوينغ". 

 لاستكمال فهم أسباب ومظاهر التباعد، يأتي العامل النفسي والعامل الأيديولوجي إذ إن قاموس ترمب هو النقيض التام لقاموس أوروبا ومنظومة قيمها المؤسسة. لا يؤمن الرئيس الأميركي مطلقا بالتعددية، فهو يُصرّ فقط على العلاقات الثنائية بين الدول. ولذلك، لا يستطيع التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، الذي يُمثل 27 دولة. ويُفضّل السعي إلى مفاوضات مباشرة مع كل دولة على حدة. 

وبما أن برمجة رؤيته ذات طابع قومي وطني (أميركا أولا) لا تتوافق مع الطبيعة فوق الوطنية للمشروع الأوروبي، لذلك لم يكن من المستغرب أن نرى بعض مستشاريه الأيديولوجيين الحاليين أو السابقين، مثل ستيف بانون، أو نائب الرئيس جيمس ديفيد فانس مُرتبطين بشكل رئيس بالأحزاب القومية اليمينية المتطرفة في أوروبا.

ولكن بعيدا عن ترمب، يتبنى الكثير من الأميركيين هذا الانعزال القومي والحمائي، ولا يُبدون أي اهتمام بأوروبا، التي يعتبرونها وحدة مُربكة.

حدد أمين عام حلف شمال الأطلسي مارك روته، خريطة طريق تبين ضرورة الاستمرارية عبر تقديم مبررات "التحدي الروسي" لأن فترة عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي انتهت وتأكدت "توسعية" بوتين

تحدي استمرارية حلف شمال الأطلسي أو تحوله 

ويتجلى الشعور الأميركي بالغبن بشكل أوضح في قضية واحدة محددة: تمويل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المنظمة التي تُنسق الدفاع الغربي، وفي المقام الأول ضد روسيا. والحقيقة هي أن الولايات المتحدة هي المساهم الأكبر بلا منازع. والأهم من ذلك، أنها الوحيدة التي تُساهم في حلف شمال الأطلسي بمستوى عالٍ مقارنة بثروتها: 3.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. بينما تُساهم جميع الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف تقريبا بأقل من 2 في المئة، وخاصة ألمانيا: 1.2 في المئة. ولذا لا يتردد دونالد ترمب في القول للأوروبيين: "لقد كلفتمونا الكثير، ونحن ندفع ثمن الدفاع عنكم، وهذا يكفي".

ويشار إلى أن اتفاقية حلف "الناتو" هي الاتفاقية الرئيسة الوحيدة المُلزمة قانونا بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وتنص على المساعدة المتبادلة بين الدول الأعضاء. لكن دونالد ترمب يُهدد بانتظام بالانسحاب من "الناتو". ويظل هذا مستبعدا من الناحية الاستراتيجية، ولكنه ليس مستغربا لثلاثة أسباب: دعوته للانسحاب من النزاعات الخارجية وفك الارتباط العسكري. ورفض دفع الكلفة الباهظة للمواجهة مع روسيا بوتين، التي لا يعتبرها عدوا. وأخيرا تجاهل ترمب للاتفاقيات الدولية.

انطلاقا من خشية الأوروبيين من تنصل واشنطن من التزاماتها في "الناتو" أو من بلورة تقارب بين واشنطن وموسكو، تزداد الدعوات للوصول إلى "الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي". إلا أن واشنطن تفضل أن يتحمل الجانب الأوروبي مسؤولياته ويرفع حجم ميزانياته الدفاعية ويتجاوب مع المقاربة الأميركية من دون أي دعم من واشنطن لفكرة تطوير استقلالية أوروبا الاستراتيجية. لهذا يبدو مستقبل حلف "الناتو" متأرجحا وليس أولوية أميركية على المدى المتوسط. ولذا يمكن تحويله إلى حلف أوروبي الطابع وهذا يستوجب إثبات الأوروبيين قدرتهم على بناء قطب جيوسياسي ودفاعي فاعل. 

الانعكاس على التوازنات الدولية

عشية انعقاد قمة "الناتو" في 24 يونيو/حزيران الحالي، حدد أمين عام حلف شمال الأطلسي مارك روته، نوعا من خريطة الطريق التي تبين ضرورة الاستمرارية عبر تقديم مبررات "التحدي الروسي" لأن فترة عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي انتهت وتأكدت "توسعية" بوتين الذي ربما يستهدف بعد انتهائه من أوكرانيا، الجبهة الشرقية لأوروبا، ولأن روسيا تنتج من الأسلحة خلال ثلاثة أشهر ما تنتجه كل دول "الناتو" خلال عام. ويغمز روته من قناة ترمب مستندا إلى أن المسؤولين العسكريين الأميركيين يدركون أن أمنهم مرتبط بأمن الأطلسي وأوروبا، إذ إن "الغواصات النووية الروسية قرب النرويج، ليست لمهاجمة النرويج، بل ضد الولايات المتحدة، وأوروبا تعمل على احتوائها" وهذا ما قاله المستشار الألماني للرئيس ترمب خلال زيارته الأخيرة إلى البيت الابيض. إلا أنه يوجد فارق كبير بين اعتبار الولايات المتحدة للصين تهديدا رئيسا، واعتبار الجانب الأوروبي أن روسيا تبقى التهديد طويل الأمد لأوروبا مع أخذ الصين بالحسبان.

التباعد الأميركي-الأوروبي سينعكس على إعادة تشكيل التحالفات وتغيير طبيعة التوازن الدولي الهش، خاصة أن الابتعاد التدريجي عن أوروبا أكد وجود تغيير هيكلي في الولايات المتحدة

مقابل الغموض حيال مستقبل واستراتيجية "الناتو"، ومقابل تبلور الثلاثي العالمي الأول: الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، لا تبدو سالكة درب بناء القطب الجيوسياسي-الدفاعي الأوروبي. إذ إن الدعوات الفرنسية منذ فترة طويلة لبناء الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية أصطدمت بالخلل البنيوي في الاتحاد الأوروبي وباعتماد الكثير من الدول على الغطاء الأميركي مع رهان مبالغ به على ديمومته، وكانت الإعاقة الدائمة تتمثل بتردد ألمانيا وعدم حماسها.

بيد أن حرب أوكرانيا غيرت المعطيات وألزمت الاتحاد الأوروبي بتطوير انخراطه في الشأن العسكري، وعجلت باليقظة الألمانية التي تكرست مع المستشار الجديد فريدريك ميرتس الذي صرح في 14 مايو/أيار الماضي، بأن بلاده تسعى لبناء "أقوى جيش تقليدي" في أوروبا، مشيرا إلى أن "تعزيز الجيش الألماني يحظى بالأولوية القصوى لحكومته" ومؤكدا أن الهدف هو "ألمانيا وأوروبا قويتان". لكن سرعان ما اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن تصريحات المستشار ميرتس الذي تعهد جعل ألمانيا "أكبر قوة عسكرية" في أوروبا "مقلقة جدا"، ولفت لافروف إلى أن "كثيرين فكروا فورا بمراحل في القرن الماضي أصبحت فيها ألمانيا مرتين أكبر قوة عسكرية والمآسي التي تسبب فيها ذلك"، في إشارة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.

رويترز
فرق طوارئ تعمل في موقع سقوط صاروخ إيراني على إسرائيل في حولون، إسرائيل، 19 يونيو

هكذا مع عودة دورة الحروب إلى القارة العتيقة، يبدو أننا نتجه لبناء قطب عسكري أوروبي تتضح معالمه. وفي هذا الصدد انعقد حديثا في روما، يوم الثاني عشر من هذا الشهر الاجتماع الوزاري لمجموعة "فايمار بلس" (تحالف مثلث فايمار تحالف إقليمي بين فرنسا وألمانيا وبولندا تم إنشاؤه في عام 1991 في مدينة فايمار الألمانية بعد إعادة توحيد ألمانيا) التي تضم منذ فبراير/شباط الماضي كلا من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبولندا وإسبانيا والمملكة المتحدة، بهدف تعزيز الدعم لأوكرانيا والسعي نحو استقلالية استراتيجية أوروبية أكبر عن الولايات المتحدة في المجال الدفاعي.

يتضح تماما أن التباعد الأميركي-الأوروبي سينعكس على إعادة تشكيل التحالفات وتغيير طبيعة التوازن الدولي الهش، خاصة أن الابتعاد التدريجي عن أوروبا أكد وجود تغيير هيكلي في الولايات المتحدة، جذوره أعمق بكثير من توجهات دونالد ترمب العرضية.

font change

مقالات ذات صلة