إسرائيل وإيران… حرب البدايات أم النهايات؟

محاولة لنزع آخر نقاط قوة طهران

لينا جرادات
لينا جرادات

إسرائيل وإيران… حرب البدايات أم النهايات؟

تتوالى الأحداث في الشرق الأوسط بشكل دراماتيكي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حتى بلغت أكثر مراحلها خطورة مع الهجوم الإسرائيلي الواسع و"المفاجئ" على إيران فجر الجمعة الماضي.

في لحظة بدا أن كل محاذير تحوّل الحرب في غزة إلى حرب إقليمية شاملة قد سقطت دفعة واحدة مع أول صاروخ إسرائيلي يسقط في طهران ومع أول عملية اغتيال لمسؤول إيراني رفيع. بل إن تتابع الأحداث منذ السابع من أكتوبر 2023 كان يؤذن بالوصول إلى هذه اللحظة، لحظة الحرب المفتوحة بين إيران وإسرائيل، كأن كل ما حصل قبلها كان تمهيدا لها، وكأن هدف إسرائيل ومن ورائها أميركا كان منذ البداية بلوغ المرحلة الأخيرة من المواجهة لـ"تغيير الشرق الأوسط"، أي الحرب ضد إيران.

ليس بالضرورة أن يكون هذا السيناريو مرسوما منذ اللحظة الأولى لهجوم السابع من أكتوبر 2023، لكن "الإنجازات" التي حققتها إسرائيل ولاسيما في حربها ضد "حزب الله" ومن ثم خلق "لحظة مواتية" لسقوط النظام السوري، فضلا عن ترهيب الحشد الشعبي في العراق وكف يده عن مواصلة هجماته، والأمر نفسه بالنسبة للحوثيين وبصورة أعنف مع دخول البوارج والطائرات الأميركية على خط المواجهة، كل ذلك كسّر "مخالب" إيران الخارجية وجعل الإغراء بمهاجمة "الرأس" إغراء لا يرد بالنسبة لإسرائيل وأميركا في آن معا.

بيد أن ذلك كله لا يختصر ما يحصل الآن ولا يتيح توقع ما قد يحصل خلال الساعات والأيام والأسابيع المقبلة، فكل لحظة قد تحمل معها مفاجأة وكل لحظة قد تفتح شهيات الضرب وإيلام العدو أكثر فأكثر تبعا للنتائج المحققة وتقديرات التكلفة والجدوى من كل هدف يمكن تحقيقه. وهذا لا ينطبق على إسرائيل وحسب بل على إيران أيضا والتي تغرق في شبكة من الحسابات المعقدة جدا والتي لم تضطر إلى مثلها من قبل في ظل "التهديد الوجودي" الذي يواجهه نظامها راهنا.

فمصير المنطقة الآن رهن بمنطق الحرب المفتوحة الذي يدفع إسرائيل إلى الانتقال من حرب إلى أخرى بل والتنقل بين الحروب بحيث تفتح أكثر من جبهة في الوقت نفسه. وهو منطق قائم أصلا على فكرة أن "ما لا يحل بالقوة يمكن حله بمزيد من القوة"، ويلقى مبرراته "المنطقية" والعملية في تفوق الآلة العسكرية والتكنولوجية الإسرائيلية في المنطقة، بدعم غربي وبالأخص أميركي، وهو ما ظهر بوضوح وسريعا جدا في الهجوم الإسرائيلي على إيران، إذ سرعان ما تمكنت تل أبيب في اليوم الثاني من الهجوم من فرض سيطرة مطلقة على المجال الجوي الإيراني وهو ما أتاح للمقاتلات الإسرائيلية حرية حركة منقطعة النظير لضرب الأهداف المعينة داخل إيران، ناهيك بشبكات الموساد المزروعة في إيران والتي تنفذ هي الأخرى عمليات نوعية مفاجئة.

لا يمكن الركون إلى تصريحات ترمب المتوالية والتي تحتمل الكثير من التأويلات، بعد الإفصاح الإسرائيلي أن الرئيس الأميركي أدار مع نتنياهو خطة لتضليل إيران

كل ذلك يجعل بنك الأهداف مفتوحا أمام إسرائيل لتحقيق مزيد من الضربات ضد البرنامجين النووي والصاروخي الإيراني والذي قال نتنياهو الاثنين إن هدف إسرائيل تدميرهما، وهو هدف غير قابل للتحقق بطبيعة الحال، أو أنه غير ممكن بقدرات إسرائيل لوحدها ومن دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، خصوصا بما يخص المنشآت النووية. وإن كانت إسرائيل قد حققت أضرارا في منشأة نطنز النووية (بحسب وكالة الطاقة الذرية) وكذلك في منشأة أصفهان على ما تفيد تقارير متقاطعة، ولكن ماذا عن منشأة فوردو وتحصيناتها العميقة تحت الأرض بحيث تشكل العمود الفقري للبرنامج النووي الإيراني؟

أصوات أميركية تقول إن لدى إسرائيل القدرة على ضربها، أي إن تدميرها لا يحتاج إلى تدخل أميركي بالصواريخ الخارقة للتحصينات العميقة، لكن مع ذلك فإنه لا جواب واضحا على هذا السؤال. وفي المقابل فإن تقديرات المخابرات الأميركية تشير إلى أن الضربات الإسرائيلية حتى الآن أخرت البرنامج النووي الإيراني أشهرا فقط، وهذا يدفع في اتجاهين، إما ضوء أخضر أميركي لمواصلة إسرائيل هجومها ضد إيران لتقويض المزيد من البرنامج النووي الإيراني، وإما الاكتفاء بهذا القدر من تأخيره بما يوسع هامش المناورة للمفاوض الأميركي مستقبلا.

ثمة من يطرح أيضا إمكان أن يكون الهجوم الإسرائيلي دافعا لإيران للخروج من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية والانتقال سريعا لإنتاج قنبلة نووية، وهذا في حال تم يكون دفعا بالصراع إلى آفاق جنونية، ولكن حتى الآن ليس هناك ما يجزم باحتمال سلوك طهران هذا المسار .

وأيا يكن من أمر فإن التطورات المتلاحقة في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 رسخت منهجية تحليلية قائمة على عدم إمكان توقع ما قد يحصل وكأن هناك سيناريو واحدا للأحداث محكما ومؤكد الحدوث، فالأحداث لا تسير بمسار واحد بل وفق مسارات متداخلة، فإلى جانب الحرب العسكرية يبقى خيار التفاوض موضوعا على الطاولة وإن بشروط متحركة بحسب موازين القوى، وهذا ما يحصل الآن في عز الهجوم الإسرائيلي ضدّ إيران والذي يلقى غطاء أميركيا متزايدا، وهو ما عبّر عنه ترمب في تصريحاته الأخيرة، بحيث بدت دعوته سكان طهران إلى إخلائها وكأنها إيذان بقرب تدخل أميركا المباشر في الحرب.

رويترز
نيران وسحب من الدخان تتصاعد من منشأة شاران النفطية التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية، طهران، 15 يونيو 2025

بيد أن ذلك ليس مؤكدا حتى الآن وإن كان غير مستبعد تماما تبعا للتطورات ولموقف من العودة إلى المسار التفاوضي بشروط أقل. وغالب الظن أن ترمب يمارس الآن "ضغوطا قصوى" على طهران للتنازل والقبول باستئناف المفاوضات على قاعدة أنه "لا يمكن لإيران أن تمتلك سلاحًا نوويًا"، خصوصا في ظل التقارير عن إبلاغ مسؤولين إيرانيين وسطاء بأنهم منفتحون على استئناف المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، لكنهم يريدون أولاً أن توقف إسرائيل هجماتها.

صحيح أنه لا يمكن الركون إلى تصريحات ترمب المتوالية والتي تحتمل الكثير من التأويلات، بعد الإفصاح الإسرائيلي أن الرئيس الأميركي أدار مع نتنياهو خطة لتضليل إيران، لكن في الوقت نفسه فإن قراءة إجمالية للتطورات ومواقف الأطراف المعنية عن قرب بها، تزيد من أرجحية أن لا يكون السيناريو العسكري هو السيناريو الوحيد المطروح على الطاولة الإسرائيلية والأميركية وإن كان لا يمكن الجزم بهذا الاتجاه أو ذاك.

تجدر الإشارة هنا إلى أن ترمب كان قد حذر إيران بأن تعرضها للمصالح والقوات والأفراد الأميركيين في المنطقة قد يدفع واشنطن للتدخل المباشر في الحرب. هذا إذن الخط الأحمر الأميركي في سياق المواجهة الإسرائيلية الأميركية المفتوحة والتي لا تزال تطرح أسئلة حول سقوفها، على اعتبار أن مجرياتها العسكرية والمواقف المرافقة لها تشي بأنها تدور بين حدين: ممارسة أقصى ضغط عسكري ضد إيران لدفعها إلى طاولة المفاوضات بتنازلات أكبر، أو مواصلة الحرب ضدها لتدمير برنامجيها النووي والصاروخي وربما سيؤدي ذلك في النهاية إلى تداعي النظام في إيران… وساعتئذ ستكون المنطقة أمام حرب قاسية وطويلة ستشعل المنطقة بأسرها أو بأقل تقدير سترتب تداعيات كارثية عليها.

ما يزيد الأمور تعقيدا بالنسبة لإيران أنها غير قادرة على خوض معركة دبلوماسية ناجحة ضد إسرائيل التي تلقى أيضا غطاء من الترويكا الأوروبية، ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة

بيد أن الأمور لا تقاس بالضربات الإسرائيلية المؤلمة لإيران، بل بقدرة طهران على مواصلة إيلام إسرائيل، وبين هذا وذاك قدرة كلا الطرفين على استيعاب الضربات  المتبادلة واحتواء تداعياتها. حتى الآن تبدو إيران قادرة على الرد وفي "مواقع حساسة" وقد أثبتت قدرة حتى الآن على استيعاب الضربة الإسرائيلية المفتاحية، ولكنّ الأمر سيتوقف على مدى قدرتها ليس على استيعاب الضربات الإسرائيلية وحسب بل على الرد المتناسب نسبيا بما يجعل إسرائيل هي الأخرى تحت الضغط ويدفعها إلى البحث عن "استراتيجية خروج" من الحرب بمساعدة الأميركيين.

التراجع النسبي في الهجمات الصاروخيّة الإيرانية ضد إسرائيل يعطي إشارة متذبذبة إلى قدرة إيران على مواصلة الرد بالوتيرة نفسها، بالرغم من تلويحها بذلك، ولا يعرف بعد ما إذا كان هذا التراجع النسبي الإيراني تكتيكا سياسيا يهدف إلى تلمس رد الفعل الأميركي على العرض الإيراني للعودة إلى المفاوضات، أم إنه متأت فعلا من الإضعاف الإسرائيلي لقدرة إيران على الرد، وهذا ما ستجيب عليه الساعات والأيام القادمة في حال استمرت الحرب وتوسعت. وهنا يبرز ما أعلنه عضو في البرلمان الإيراني عن مقتل 21 من مشغلي منصات الصواريخ التابعة للحرس الثوري الإيراني في محافظة لرستان الغربية في عمليات اغتيال ممنهجة نفذها متسللون، ليعزز فرضية أن إسرائيل تعمل على تثبيط قدرة إيران على الرد الصاروخي وهو سلاحها الوحيد في هذه المواجهة حتى الآن.

ما يزيد الأمور تعقيدا بالنسبة لإيران أنها غير قادرة على خوض معركة دبلوماسية ناجحة ضد إسرائيل التي تلقى أيضا غطاء من الترويكا الأوروبية، ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، وهو ما عبر عنه عشية الحرب قرار مجلس المحافظين في الوكالة الذرية بإدانة إيران لخرق التزاماتها في إطار معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، بحسب بيان الوكالة الأخير. ولا ريب في أن هذا القرار شكل غطاء دبلوماسيا وازنا لمصلحة إسرائيل على الساحة الدولية، في وقت لا تحظى فيه إيران بدعم دبلوماسي من كتلة متماسكة وموحدة، فضلا عن أن كل الدول الرافضة للهجوم الإسرائيلي على طهران لم تعط ولو مؤشرا واحدا لمؤازرتها عسكريا، فروسيا دخلت في وساطة، بينما يبدو أن إسرائيل تتجنب إثارة موقف الصين بامتناعها حتى الآن عن استهداف المنشآت التي يصدر من خلالها النفط لبكين. كما أن باكستان النووية والتي كان موقفها في دعم إيران مثيرا للانتباه والمتابعة صرحت الاثنين بأنها ستدعم طهران في المحافل الدولية، وهو ما يحسم موقفها على الأرجح لجهة عدم تدخلها عسكريا في الصراع. ولا شك أن كل هذه الدول في المنطقة تخشى أي تصدع كبير أو انهيارا للنظام في إيران بما يرتب تداعيات خطرة جدا على محيطها ما يذكر بإسقاط حكم طالبان في أفغانستان أو حكم صدام حسين في العراق وأخيرا حكم معمر القذافي في ليبيا.

واستطرادا، يمكن هنا استحضار فارق بين الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والحملة الإسرائيلية ضد إيران بغطاء أميركي وربما لاحقا بتدخل أميركي مباشر، وهو أن الغطاء الغربي لذاك الغزو لم يكن كاملا، ولاسيما مع امتناع فرنسا جاك شيراك عن تأييده والمشاركة فيه، بينما الغرب الآن موحد في دعم إسرائيل في حربها إيران، وهو ما عبر عنه بيان مجموعة السبع من كندا الثلاثاء، وذلك بخلاف موقفه الاجمالي من حربها على قطاع غزة خصوصا في الآونة الأخيرة.

كل الاحتمالات تكاد تكون واردة في سياق الحرب الحالية بين إيران وإسرائيل والتي تأتي كتتمة لصراع النفوذ على الشرق الأوسط والذي تحاول فيه إسرائيل فرض هيمنتها المطلقة على المنطقة

نقطة أخرى مهمة في موقف الغرب وبالأخص الأميركي من الحرب القائمة وهو مدى قابليته للتسامح مع قصف إيران المركّز لتل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى بما يجعل إمكان استهدافها قائما في أي لحظة في حال عدم ردع إيران مرة واحدة ونهائية، عسكريا أو من خلال اتفاق محكم، لكن من الصعب التصور أن إسرائيل التي تتحرك منذ السابع من أكتوبر 2023 بدفع من عقيدة "إزالة التهديدات" ما يمكنها من أن تطمئن لأي اتفاق مع إيران في ظل القدرات الإيرانية الراهنة، وفي الوقت نفسه فإن إزالة هذه القدرات نهائيا لا يمكن أن تحصل دون ضرب هذه القدرات وهو ما يعني في نهاية المطاف تغيير نظام إيران، فهل هذا قابل للتحقق؟ وبأي تكلفة؟ وهل الغرب، وأوروبا تحديدا، مستعد لمواجهة كهذه بالنظر إلى تداعياتها الاقتصادية عليه خصوصا لناحية الارتفاع الجنوني في أسعار النفط والذي ستستفيد منه روسيا لتمويل آلتها الحربية.

هذه نقطة قد تلعب لمصلحة إيران، ولو ظرفيا، علما أن طهران تدير حسابات دقيقة خلال هذه المواجهة بحيث لا تنجر إلى ردود فعل أو هجمات توفر ذرائع أو دوافع لتوسع رقعة الحرب ودخول أميركا بشكل مباشر فيها. فطهران التي هددت عشية الهجوم الإسرائيلي باستهداف المصالح والقواعد الأميركية في المنطقة امتنعت عن ذلك حتى الآن، ولو أن قصفها لتل أبيب أصاب السفارة الإسرائيلية بأضرار، لكن من غير المعلوم ما إذا كان ذلك مقصودا، أم يتضمن أي رسالة إيرانية.

أ.ب.
صواريخ منظومة القبة الحديدية خلال اعتراضها صواريخ بالستية إيرانية في مدينة تل أبيب، إسرائيل، 14 يونيو 2025

في المحصلة، كل الاحتمالات تكاد تكون واردة في سياق الحرب الحالية بين إيران وإسرائيل والتي تأتي كتتمة لصراع النفوذ على الشرق الأوسط والذي تحاول فيه إسرائيل فرض هيمنتها المطلقة على المنطقة، وهو ما يثير حفائظ دول كثيرة في المنطقة، ولكنها متفرقة ولا يجمعها حلف واحد فضلا عن التأثير الحاسم للولايات المتحدة، "حليف الجميع"، في مجريات الأحداث ورسم المسارات المستقبلية للمنطقة. لكن حجر الرحى يدور الآن حول برنامجي إيران والنووي والصاروخي، في محاولة لنزع آخر نقاط قوة إيران التي كانت طيلة العقدين الماضيين لاعبا شرسا في الصراع على النفوذ في الإقليم. هل ستكون حرب البدايات أم النهايات؟ الأكيد أننا سنكون أمام أيام من التصعيد كما بشرنا ترمب، أما بعدها فلكل حادث حديث… ولا بد من شد الأحزمة جيدا!

font change

مقالات ذات صلة