بين ذكرى "التأسيس" وذاكرة التضامن

بين ذكرى "التأسيس" وذاكرة التضامن

تزامنت احتفالات "يوم التأسيس"، باعتبارها مناسبة وطنية للاعتزاز بأولئك الذين صنعوا مجد المملكة العربية السعودية ملبّين نداء الافتخار، بما حققته طوال ثلاثة قرون منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود، مع الأحداث المأسوية المتمثلة في الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، فلم تدّخر المملكة جهداً في الوقوف المشرف مع الشعبين في هذه الظروف العصيبة، ملبية نداء الأخوة والجوار والتواد والتعاطف الإنساني.

أما الحدث الثاني فطبيعته تابعة للأول، وهو "منتدى الرياض الدولي الثالث للعمل الإنساني" الذي أقامه مركز الملك سلمان للإغاثة بمشاركة نخبة من القادة والمانحين والعاملين والباحثين في مجال العمل الإنساني من أجل تعزيز الحوار حول الإطار التشريعي والمعرفي والممارسات الميدانية للعمل الإنساني والتحديات المرتبطة به، ولإيجاد حلول عملية مبتكرة وفقا لمبادئ ومعايير العمل الإنساني والمساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

لقد أثار هذان الحدثان قيم الهوية الوطنية الراسخة في مضامين التوق إلى استشرافها ومساهمتها في العالمية بما يعزز دورها وانتماءها إلى الأمة العربية الإسلامية والثقافة الإنسانية. كان لحضور السعودية دور محوري في كل القضايا العادلة، وترجمت هذين الحدثين كونهما نتاجاً لفعل الهوية والبعد القيمي للتضامن الإنساني.

هذه الوحدة المشتركة غالبا ما تعبر عنها الشعوب باهتمام بالغ، إذ نلتمس من خلالها معالم الفرح والسرور والاعتزاز في خضم استحضار ذكرى وطنية عزيزة على قلوبنا، ونكتسب من خلالها تقديرنا لذواتنا. أما ما يدور في العالم من مآس وكوارث طبيعية، فهو أيضاً يثير في النفس تعاطفا مصحوبا بمشاعر الوحدة والشعور بالمصير المشترك.

تاريخ التأسيس هو تاريخ الذاكرة، وإذ تستحضر المملكة عظمتها في سجل التاريخ الإنساني، تجد نفسها ملتزمة واجباتها نحو شعبها ونحو القضايا العربية والاسلامية والدولية


وكان الفعل أصدق تعبير عما قدمته المملكة إلى الشعبين في أحلك الأوقات منذ اللحظات الأولى للزلزال، ولم يقتصر فقط على الدعم المادي فحسب بل تعدّاه الى دعم بشري بإرسال متطوعين لأداء واجبهم الإنساني. ونحن إذ نستشعر ذلك، نلتمس ذلك البعد الإنساني بفيض من الاعتزاز النابع من مشاعر التعاطف الوجداني وكواجب مرتبط بالإحساس بالآخر تمليه فضيلة القيم الانسانية، التي تطبع مواقف المملكة العربية السعودية داخليا وخارجيا ومع جيرانها باعتبارهم واحدا في الإنسانية، لتؤكد بتلك المساعدات المستمرة وباستحضار ذاكرتها الأولى (ذكرى التأسيس) ضرورة الوعي الهوياتي بمعناه الشامل المشترك.

هنا تساؤل: ما الصلة بين واجب الذاكرة وفكرة القيم الإنسانية الراسخة في توجهات المملكة نحو الأقربين والآخرين؟

يحيلنا استحضار ذكرى التأسيس، من جهة، على مفهوم ريكور حول الدّيْن، باعتبار أن "الذكرى دَين"، حيث نعترف لأولئك الذين تركوا آثارهم فينا وفي حياتنا سواء الفردية أو الجماعية. فبحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "إن فكرة الدين لا تنفصل عن فكرة الميراث. إننا ندين لأولئك الذين سبقونا بقسم مما نحن عليه. فواجب الذاكرة لا يقتصر على الاحتفاظ بالأثر المادي الكتابي أو غير المكتوب للوقائع الغابرة بل ينمّي الشعور بأننا ملزمون نحو هؤلاء الآخرين الذين سنقول عنهم لاحقا إنهم لم يعودوا موجودين لكنهم سبق فكانوا".

فتاريخ التأسيس هو تاريخ الذاكرة، وإذ تستحضر المملكة عظمتها في سجل التاريخ الإنساني، تجد نفسها ملتزمة واجباتها نحو شعبها ونحو القضايا العربية والاسلامية والدولية. هذه هي الغاية من إحياء التاريخ ورموزه "قيمة الاعتراف بالدَّين" لأولئك الذين شقوا لنا الطريق نحو الرفاه المادي و الروحي.

فالتراث بكل ما يحمله من قيم أخلاقية وفكرية متوارثة يعتبر الحجر الأساس في بناء أي مجتمع باعتباره البوتقة التي تتشكل فيها، وركيزة من ركائز هوية الأمة الثقافية. من جهة أخرى، فإن الأزمات والكوارث والشدة، كما يقال، تبرز الأخلاق وصدق الأخوة والوعي بالهوية المشتركة.

font change
مقالات ذات صلة