مُجلدا أوزال... واستعصاء التاريخ

مُجلدا أوزال... واستعصاء التاريخ

في سرده سيرة والده، يذكر أحمد أوزال، نجل الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، أنه دخل على والده في المكتب الرئاسي، بعد أسبوع واحد من توليه السلطة، فشاهد مجلدين كبيرين موضوعين على طاولته، بينما كانت تظهر على الوالد/الرئيس كل علامات الاستياء والقلق، وحينما سأله عن السبب، أجاب أوزال "جاء ضابطان كبيران من قيادة الأركان صباحاً بهذين المُجلدين، وذكرا أنهما يضمان المحرمات والقواعد السياسية والسلوكية، الداخلية والخارجية، للدولة التركية، وشددا على أن أي حاكم يجب أن يلتزمها تفصيلاً وفرضاً، وأن تكون كل أفعاله وتوجهاته ضمن تلك المحددات على الدوام".

الرئيس أوزال، الذي كان الحاكم والسياسي الأول في تركيا طوال عقدٍ كامل (1983-1993)، وقاد التحول الأهم في تاريخ تركيا المعاصر: من مرحلة الحرب الأهلية/الإيديولوجيا، التي صبغت عقد السبعينات بكامله، وخُتمت بانقلاب الجنرال كنعان أفرين العسكري عام 1980، الذي حوّل تركيا إلى سجن كبير.

في حين أن الرئيس أوزال كان نقل تركيا من ذلك المناخ مع بداية حُكمه، لتصبح دولة صناعية وسياحية رائدة، ذات اقتصاد عصري ومؤسسات تعليم حديثة، راكمت لسنوات تنمية اجتماعية واقتصادية سريعة، لم تقل في أي عامٍ عن 4 في المئة، وأنهت عقود الانقلابات والحروب الأهلية والصراعات الإيديولوجية.

لكن أوزال نفسه، وعلى الرغم من كل ما فعل، وحين حاول مراقصة بعض مضامين المجلدين، عبر اجتراح حلول ما للمسألة الكردية في البلاد، ذهب ضحية فعلته تلك. إذ تشير أغلب الدلائل، بما في ذلك شهادات الساسة والمستشارين المقربين منه، وظنون عائلته نفسها، إلى أن أوزال اغتيل بمؤامرة من محفل الدولة العميقة في البلاد، كعِقاب له على توجهاته تلك، وذلك عبر دسّ سم خاص له في الطعام.

على الرغم من مرور ثلاثة عقود على تلك التجربة، ومع تراجع كل اشكال التنمية وزيادة العنف والاستقطاب السياسي والإيديولوجي في الفضاء العام للبلاد، لا يبدو أن تركيا قد غادرت ذلك المنطق وتلك النوعية من العلاقة القهرية والانضباطية بين الدولة العميقة والطبقة السياسية، الحاكمة والمعارضة على حد سواء.

هؤلاء الذين يفترض أن يشكلوا "السلطة العامة"، وتالياً الذين يفترض أن يتمكنوا من إدارة البلاد وتحديد سياساتها ومصائرها، وطبعاً مستقبل مواطنيها وتطلعاتهم. فدوماً، ثمة ما يتجاوز ويفوق ويضبط السياسة نفسها، بتركيب من الأبوية والمركزية والقهرية الضابطة.

على الرغم من مرور ثلاثة عقود على تلك التجربة، ومع تراجع كل اشكال التنمية وزيادة العنف والاستقطاب السياسي والإيديولوجي في الفضاء العام للبلاد، لا يبدو أن تركيا قد غادرت ذلك المنطق وتلك النوعية من العلاقة القهرية والانضباطية بين الدولة العميقة والطبقة السياسية، الحاكمة والمعارضة على حد سواء

لكن، وفي نظرة أكثر عمومية، لا تبدو تلك العلاقة "القهرية" حكرا على تركيا فحسب، وإن كانت أكثر وضوحاً فيها، ومباشرة وعلانية في التعبير عن نفسها.
فإذا كانت النواة السياسية الصلبة والعصية في تركيا تتألف من مزيج من طبقة الجنرالات العسكريين المؤسسين للكيان التركي، ومَن ورثهم من قادة الجيش، إلى جانب قادة الأحزاب القومية المركزية ومديري أجهزة الاستخبارات والنافذين الأكبر حجماً من طبقة رجال الأعمال، الذين يشكلون معاً محفلاً مغلقاً، يتضامون عبره مع بعضهم ويحمون بحسبه مصالحهم وسلطاتهم وحضورهم المتمايز في البلاد، فإنها في بلدان أخرى قد تظهر في أشكال مختلفة وأكثر تركيباً.
ففي واحد من البلدان قد تكون تلك النواة مؤلفة من بعض أعضاء التركيبة التركية، وفي بلد آخر قد يضاف إليهم قادة وزعامات من الجماعات الأهلية، الطائفية والقومية، كما في العراق راهنا، أو حتى طبقة من رجال الدين، مثلما في إيران. ففي المحصلة، وفي العديد من البلدان والتجارب، ثمة ما يتجاوز السياسة نفسها، ما هو ثابت وجوهراني وغير قابل لإعادة التشكيل.


من بين أمور كثيرة أخرى، ذلك يعني "انتفاء التاريخ". بمعنى أن المجريات والتبدلات التي تحدث على مستوى العالم، لا تجد لنفسها طريقاً لكي تتسرب إلى دواخل هذه البلدان، ولكي تكون قادرة على التأثير في مسيرة الحياة وشكل العلاقة بين مختلف المجالات، السلطة والقوى السياسية، الاقتصاد والتنمية وما يقابلها من طبقات اجتماعية، مقدرات الدولة وشكل توازنها وعلاقاتها مع دول الجوار، كيفية فهم وتعامل هذه الدولة مع المجريات العالمية، وإحداث تبدلات داخلية تكون مطابقة لهذه التبدلات... وهكذا.


فبحسب هذه الوصفة، تغدو الدولة مجرد جهاز تنفيذي، تملك برنامجاً ونظاماً داخلياً، لا تعي شيئاً من التغيرات التي تجري حولها ولا تتأثر به، بل غالباً تمانعه وترفضه مسبقاً، وتملك بنية استعدادية لضبط الحياة العامة بحسب ما تعتبر أنه يشكل الثوابت المطلقة. الأمر نفسه بالنسبة إلى التبدلات التي تطرأ دوماً على مجتمعاتها نفسها، وفي علاقتها مع السلطة والدولة.


بناء على الآلية نفسها، فإن تلك البنية غالباً ما تكون الأرضية الأولية والأصلح لاندلاع الحروب الداخلية، الأهلية منها بالذات. إذ نادراً ما يُمكن العثور على نواة سياسية وأمنية صلبة في دولة ما دون هوية ونزعة جماعاتية وأهلية. من ذلك المنطق بالضبط، فإن الوعي العام بالنسبة إلى غالبية القواعد الاجتماعية يخلط بين الهوية الأهلية المفترضة لتلك النواة، وبين طبائعها وآلية عملها كشبكة من المصالح والإرادات والحماية المتبادلة. وتالياً تتحول المعادلة من شكلها وأساسها السياسي الأولي، لتصير مزاحمة وصراعاً أهلياً، تندلع فيه الهويات وأعمال العنف، وتصير كل عقلانية في رد المسائل إلى بنيتها العادية، السياسية، مجرد هباء كلامي، وسورية الراهنة أكبر دليل على ذلك.


 

font change