تركيا: انتخابات في ظلال كارثة طبيعية مدمرة

على الرغم من أن كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا الشهر الماضي، ما تزال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في قلب الحدث

AP
AP

تركيا: انتخابات في ظلال كارثة طبيعية مدمرة

كان كل شيء في تركيا ما قبل 6 فبراير/ شباط منصبّا على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام 2023 التي ستجري إما في مايو /أيار أو يونيو/حزيران.

وعلى الرغم من أن الزلزال حوّل بؤرة التركيز قليلا، إلا أن الانتخابات لا تزال في قلب الحدث.

فمنذ وقت قريب، وفي إحدى خطبه التقليدية التي يؤكد فيها تحسن الأمور في البلاد، قال إردوغان "الحمدلله، ففي ضوء التجارب المريرة للماضي، أصبحنا جاهزين تماما، حتى أننا لم نعد نسمع صراخ المواطنين في حالة وقوع كارثة طبيعية".

لكن الأمور لا تبدو كذلك الآن، إذ يتعرض إردوغان وحكومته لانتقادات تتعلق بعدم الجاهزية.

ويرى المنتقدون أن الوزراء والمحافظين ترددوا في التصرف في انتظار تعليمات من إردوغان. كما تعرض الجيش للانتقاد بسبب عدم تدخله بكامل قوته بشكل مباشر على الرغم من أنه أثبت قدرته سابقا في إدارة الكوارث الطبيعية.

وقد تراجع دور منظمات الإغاثة كالهلال الأحمر التركي وهيئة إدارة الكوارث والطوارئ والمؤسسات الرسمية والجامعات بسبب الإدارة السيئة لسياسيين يفتقرون إلى المؤهلات اللازمة.

واعترف الرئيس إردوغان باحتمال وجود بعض أوجه التقصير في الأيام الأولى للزلزال. لكنه سارع إلى الإشارة إلى "تفعيل جميع الفرق والوسائل" فور ورود أنباء الزلزال. وزعم هو ووزير الدفاع أن الجيش انتشر في مناطق الكارثة منذ اليوم الأول.

إلا أن أحزاب المعارضة والعديد من الأشخاص الموجودين على الأرض يشككون في هذه الرواية. ورفض إردوغان هذه الانتقادات ووصفها بأنها محاولات رخيصة للاستغلال السياسي، متهما المنتقدين بأنهم يحاولون إحداث فوضى اجتماعية.

وقال: "إننا ندوّن الملاحظات وسنفعل ما نراه ضروريا في الوقت المناسب". وتطاول إردوغان في تصريحاته على كمال كلجدار أوغلو، زعيم حزب المعارضة الرئيسي، بعبارات قاسية ومهينة.

ولكن عندما زار الرئيس أردوغان مدينة أديامان في 27 فبراير/شباط، وهي إحدى أكثر المدن تضررا، قال "لسوء الحظ، لم تكن الأيام القليلة الأولى من جهود الإنقاذ فعالة كما كنا نتمنى"، وطلب المغفرة من الناس، مستخدما مصطلحا دينيا "helallik". ويشير الكثير من الناس إلى أن تصريح أردوغان لا يقل عن اعتراف بما جرى لكن طلب الصفح لا يكفي لإزالته.

لسوء الحظ، لم تكن الأيام القليلة الأولى من جهود الإنقاذ فعالة كما كنا نتمنى

الرئيس التركي رجب طيب اردوغان

إن أسلوب أردوغان السياسي الروتيني الذي كان دائما حادا وقاسيا، ومتناقضا مع نفسه في بعض الأحيان، أصبح الآن أكثر حدة وقسوة، فالانتخابات المقبلة في ظل الزلزال ستجعل البيئة السياسية المتوترة بالفعل أشد توتراً.

هل يمكن منع خسارة بهذا الحجم؟

ضرب الزلزال إحدى عشرة مقاطعة (كهرمان مرعش - أضنة - أديامان - ديار بكر - غازي عنتاب - هاتاي - كيليس – ملاطيا- العثمانية - شانلي أورفا -إيلازيغ) في جنوب وجنوب شرقي الأناضول، التي كانت موطنا لنحو 15 مليون شخص.
وأكدت الروايات الرسمية وفاة 43.000 شخص. ولا تزال هناك جثث تحت الأنقاض ومن المتوقع أن يرتفع عدد القتلى.
كما انهارت آلاف البنايات، وتضررت آلاف أخرى ولا بد من هدمها. وأصبح عشرات الآلاف من الأشخاص بلا مأوى، فيما غادر أكثر من مليون شخص إلى مناطق أخرى بحثا عن الأمان.
وساهمت مجموعتان من العوامل الطبيعية والبشرية في جعل الزلزال مدمرا للغاية.

 AFP
أعضاء فريق البحث والإنقاذ التابع لبلدية زيتين بورنو (ZAK) يرفعون الأنقاض عن المباني المنهارة في نورداجي، بالقرب من غازي عنتاب، في 13 فبراير 2023.

فمن ناحية الطبيعة، ضرب زلزالان كبيران بقوة 7.8 و 6.7 وبفاصل زمني مدته تسع ساعات، منطقة واسعة للغاية (تقارب حجم بلغاريا)، بالإضافة إلى الظروف الجوية القاسية التي كانت سائدة في ذلك اليوم.

أما من حيث المسؤولية البشرية، فقد انهارت آلاف المباني التي كان من المفترض أن تكون أقوى بكثير، كونها بنيت في منطقة مشهورة بالزلازل، وذلك بسبب الإهمال والبناء غير الصحيح.

تحول العديد من الأبنية إلى ركام، وسقطت أبنية أخرى إلى الخلف كأنها غير متصلة بالأرض بأي أعمدة حديد أو اسمنت . إلا أن بعض المباني نجت من الزلزال بأضرار طفيفة أو من دون أضرار على الإطلاق    . 

لسنا بحاجة لأن نكون عباقرة أو اختصاصيين لنعرف أن الأبنية التي سقطت كانت أبنية لم تشيد بالشكل الصحيح، أما الأبنية التي صمدت في وجه الزلزال فقد جرى بناؤها بالشكل الصحيح.

لا توجد طرق لمنع وقوع الزلازل أو معرفة ساعة وقوعها، لكن التأهب واتخاذ التدابير الصحيحة كانا سيساهمان في تقليل الخسائر بشكل كبير، وخير مثل على هذا هو اليابان، البلد الزلزالي الكبير.

يلقى باللوم أيضا على ما يسمى بـ"مصالحة المخالفات البنائية" أو "عفو مخالفات البناء"، وهي هدية انتخابية شعبية تقدّمها بشكل متكرر الأحزاب السياسية الحاكمة، باعتبارها جزءا مهما من المشكلة

على من تقع المسؤولية؟

قاد إردوغان حركة سياسية ركزت على البناء. فخلال فترة ولايته، بُنيت المساكن والمباني الشاهقة، والجسور والطرق والمطارات. وكان من المفترض أن يكون النظام قد وصل إلى مستوى الكمال في هذا المجال.

وزعم الرئيس إردوغان أن 98 في المئة من المباني التي انهارت كانت بُنيت قبل عام 1999، أي قبل فترة طويلة من تولي حزب العدالة والتنمية السلطة. لكن العديد من الخبراء اعترضوا على مزاعمه، وأشاروا إلى أن أكثر من نصف المباني المنهارة بنيت خلال فترة حكمه.

صحيح أنه تم تنظيم قوانين البناء في تركيا، لكن المشكلة تكمن في التقصير لجهة تطبيق اللوائح وسوء الرقابة.

وأعدت جامعة اسطنبول التقنية تقريرا متقدما عن الزلزال. وتشير النتائج الأولية لهذا التقرير إلى أن انخفاض قدرة تحمل التربة التي توضع فيها الأساسات، وأنواع مواد البناء، وعدم كفاية أبعاد المقطع العرضي للأعمدة والعوارض وكمية التعزيز، أسباب أساسية قد تؤدي إلى انهيار الأبنية.

ويلقى باللوم أيضا على ما يسمى بـ"مصالحة المخالفات البنائية" أو "عفو مخالفات البناء"، وهي هدية انتخابية شعبية تقدّمها بشكل متكرر الأحزاب السياسية الحاكمة، باعتبارها جزءا مهما من المشكلة.

وتقوم الفكرة على دفع رسوم من أجل الحصول على رخصة بناء أو موافقة على إجراء إضافات تتجاوز ما سُمح به في الرخصة الأصلية. لا يهدف هذا الأمر إلى تحسين الواقع أو إصلاحه وإنما إلى إضفاء الشرعية على التجاوزات الموجودة مسبقا. ويعتبر هذا مصدر دخل للحكومة، يمكن قانونا استخدامه للتحوّل الحضري.

وجرت مثل تلك الممارسات لآخر مرة عام 2017، حيث بلغت الإيرادات 25.6 مليار ليرة تركية (نحو 1.3 مليار دولار أميركي)، ولا أحد يعلم ما إذا كانت قد استُخدمت في المكان الصحيح أم لا.

وكان العمل جاريا في البرلمان على إعداد مسوّدة جديدة في خصوص "مصالحة المخالفات البنائية"، وكان من المتوقع أن تحصل على موافقة البرلمان قبيل انتخابات عام 2023. لكن من المؤكد أن تلك المسوّدة ستُدفَن تحت الأنقاض نتيجة ما حصل.
وكان اعتقل أكثر من مئة شخص لمحاسبتهم على مسؤوليتهم عن نتائج الزلزال، وجميعهم من المقاولين وأصحاب المباني.

ولكن، هل هم الأشخاص الوحيدون الذين يجب أن يخضعوا للمحاسبة؟ ماذا عن شركات التفتيش ومسؤولي البلدية والمسؤولين الحكوميين الذين لم يؤدوا عملهم بشكل صحيح وأساؤوا استخدام مناصبهم؟ وماذا عن صاحب معرض السيارات الموجود في الطابق السفلي الذي أزال الأعمدة لتوفير مساحة أكبر لصالة العرض الخاصة به؟


صرح إردوغان وحليفه دولت بهجلي بأن الحلّ يكمن، في ضوء الدروس المستفادة، في تشييد مبان مقاوِمة للزلازل ومتوافقة تماما مع اللوائح ذات الصلة، بالإضافة إلى تطبيق آلية تفتيش فعالة.
 

98 في المئة من المباني التي انهارت كانت بُنيت قبل عام 1999، أي قبل فترة طويلة من تولي حزب العدالة والتنمية السلطة

الرئيس التركي

ولكن، كان ينبغي تعلم هذه الدروس منذ فترة طويلة، وكان من الممكن إنقاذ العديد من الأرواح، في بلد يقع في منطقة زلزالية سبق لها أن شهدت العديد من الهزات الارضية.

أما من جانب المعارضة، فقد اعترف زعيم حزب الشعب الجمهوري، قلجدار أوغلو، بأن بعض المسؤولين من حزبه يتحملون المسؤولية أيضا، وأمر بإجراء تحقيق.

وتتوزع سيطرة الأحزاب على البلديات الإحدى عشرة، إذ يسيطر حزب العدالة والتنمية على سبع منها بينما يسيطر حزب الشعب الجمهوري على اثنتين، ويتقاسم حزبا الحركة القومية والشعب الديموقراطي البلديتين المتبقيتين.
لا مفرّ من التأكيد هنا ألا أحدا في دوائر السياسة أو من مسؤولي الحكومة والبلديات، يقدّم استقالته، وهذا أمر محزن للغاية ويصف بشكل واضح الثقافة والأخلاق السياسية.

حالة الاقتصاد وإعادة البناء

تعرض الاقتصاد التركي لضربة أخرى، هو الذي كان يعاني في الأصل من اضطرابات، فالمنطقة التي ضربها الزلزال كانت توفر نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا.

وتسببت الزلازل في أضرار مادية مباشرة تقدر بنحو 34.2 مليار دولار في تركيا، وفقا لتقرير البنك الدولي لتقييم الكوارث الذي صدر في 27 فبراير/شباط، بينما "ستكون تكاليف التعافي وإعادة الإعمار أكبر بكثير، ربما ضعف حجمها، وأن خسائر الناتج المحلي الإجمالي المرتبطة بالاضطرابات الاقتصادية ستزيد أيضا تكلفة الزلازل".

Reuters
امرأة تجلس على أنقاض منزلها في أعقاب الزلزال المميت في كهرمان مرعش، تركيا، 14 فبراير 2023

بالتأكيد، سيتأثر الاقتصاد كثيرا بسبب الزلزال، لكننا على صعيد المساهمة في اقتصاد البلاد، نتوقع خسائر اقتصادية عامة أقل وانتعاشا أسرع بالمقارنة مع منطقة مرمرة، التي ضربها زلزال كبير عام 1999.

ومن المتوقع أن تواجه المنطقة ضغوطا إضافية من ناحية التضخم وموجة إضافية من الزيادة في الطلب على السكن، بالإضافة الى ارتفاع أسعار المساكن والإيجارات. من ناحية أخرى، ستؤدي جهود إعادة البناء إلى خلق نشاط اقتصادي جديد في المنطقة.

وتعهد الرئيس إردوغان بإحياء جميع المدن التي دمرها الزلزال. وقال إنه في غضون عام، سيجري بناء 200.000 وحدة ولن يزيد أي منها على ثلاثة أو أربعة طوابق كحد أقصى.

وقال أيضا إن إدارة تطوير الإسكان في تركيا TOKI هي التي ستقود جهود البناء، وبمشاركتها سيكون نشاط البناء أسرع بكثير بكل تأكيد.

 

قد تكون هذه الانتخابات هي الأهم في تاريخ الجمهورية التركية، مذ تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم منذ عام 2002، ويتولى إردوغان السلطة منذ ذلك التاريخ كرئيس للوزراء ثم كرئيس حتى يومنا هذا

لكن الخبراء يشككون في إمكان أن يتحقّق ما تعهد به إردوغان بشكل صحيح في الإطار الزمني الذي أشار إليه، إذ إن عملية في هذا الحجم تحتاج إلى أعمال تأسيس ضخمة.
وسيكون هدم ورفع الأنقاض في حد ذاته عملية ضخمة، إذ يرى الخبراء أن حجم الحطام المتوقع قد يملأ ما يقارب 660 ملعبا لكرة القدم. أما في ما يتعلق بمرحلة البناء، فيجب وضع خطط صحية مدروسة بشكل جيد بالإضافة الى إجراء حسابات فنية على جميع الأصعدة.

 

font change

مقالات ذات صلة