ماكرون أمام المنعطف الفرنسي

لا يبدو الخروج من الأزمة الاجتماعية والأزمة الديموقراطية يسيراً، لأن الجدال وصل الى شرعية الحكم

EPA
EPA
أعضاء النقابات العمالية الفرنسية وموظفو معمل حرق النفايات المضربون يغلقون مدخل المعمل احتجاجًا على قانون إصلاح المعاشات التقاعدية.

ماكرون أمام المنعطف الفرنسي

تشهد فرنسا حالياً أزمة حول إصلاح أنظمة التقاعد على وقع احتجاجات متصاعدة واستمرار "حوار الطرشان" بين الحكومة والنقابات. وتعمقت الازمة بسبب طريقة تمرير القانون في البرلمان بواسطة اجراء دستوري استثنائي. ويمكن القول اننا لسنا أمام مجرد أزمة سياسية بسيطة وعابرة، نظراً إلى المأزق السياسي وزخم الاعتراض وتداعيات الشغب والقمع.

هكذا تعتبر الازمة الحالية، التي يواجهها الرئيس ايمانويل ماكرون قبل اختتام السنة الاولى من ولايته الثانية، متعددة الابعاد: اجتماعية ومؤسساتية وسياسية وديموقراطية. إنها أزمة غير مسبوقة بسبب فشل النقاش الديموقراطي بعد شهرين من البحث تحت قبة الجمعية الوطنية، وفي موازاة عدم وجود حوار مع النقابات أو بعضها. الادهى أن أجواء من الفوضى وتحذيرات من أخطار ممارسة سلطوية تبتعد عن روحية النظام البرلماني، قد سادت بعد اقرار القانون بشكل "فوقي" بحسب المعارضات، وتعاظم الاحتجاجات.

أدى اعتماد مشروع القانون من خلال استخدام الحكومة للمادة 49.3، إلى ابراز الندوب في الجسم السياسي الفرنسي: انعدام الثقة الشعبية حيال الحكم، وانقطاع التواصل بين الناخبين والمسؤولين المنتخبين، وهاجس ضرب الديموقراطية التمثيلية.

(أسوشييتد برس)

وعكة ديموقراطية

لا تعتبر هذه الوعكة في الديموقراطية الفرنسية بنت ساعتها ومحصورة بحقبة إيمانويل ماكرون، على الرغم من أن الاعتراض يتركز على رئيس الجمهورية، بل تعود الى ثمانينات القرن الماضي على الاقل، وذلك من خلال حلقات مهمة أبرزت عدم الثقة، مثل اللجوء الى التقشف في عام 1983، بعد عامين بالكاد من التغيير ووصول اليسار الى الاليزيه ممثلا بفرنسوا ميتران؛ وكذلك فشل اصلاحات طرحها آلان جوبيه عام 1995، في نكسة لعهد الرئيس الاسبق جاك شيراك ووعده بتقليص "الشرخ الاجتماعي"؛ أو المصادقة البرلمانية على معاهدة لشبونة الاوروبية، بعد عامين من الرفض في الاستفتاء الدستوري الأوروبي في العام 2005.

يحمل الرئيس الفرنسي الحالي إرثاً صعباً يتمثل في عدم القدرة على تمرير الاصلاحات، وتتعقد مهمته بعدم وجود أكثرية مطلقة لفريقه، ضمن برلمان مشتت بجناحين متشددين يقفان ضد ما يسميانه "النظام" Système

إذاً، يحمل الرئيس الحالي ارثاً صعباً يتمثل في عدم القدرة على تمرير الاصلاحات، وتتعقد مهمته بعدم وجود اكثرية مطلقة لفريقه، ضمن برلمان مشتت بجناحين متشددين يقفان ضد ما يسميانه "النظام"  Système: "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" بقيادة  اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون و"التجمع الوطني" اليميني المتشدد بقيادة مارين لوبان. ويأتي تعذر الحوار مع النقابات بالاضافة إلى أطروحات مثل اقتراح الاستفتاء الشعبي على المشاريع الحساسة، ليزداد امكان اجهاض الولاية الثانية للرئيس ماكرون (2022-2027). 

سياق التحركات

في سياق التاريخ السياسي وتطور المؤسسات، لعبت التحركات الشعبية والاجتماعية دوراً كبيراً في بلورة أطر الديموقراطية السياسية والاجتماعية وتحديثها، من الجبهة الشعبية في 1936 إلى ثورة الطلاب في مايو/أيار 1968، حيث كان ثمة دوماً للنقابات تأثيرها خصوصا عندما تتضافر مع الطلاب والشباب.

(.أ.ف.ب)

وأدى تسارع الاحداث واستمرار الاحتجاجات الى تأجيل زيارة الملك تشارلز الثالث لفرنسا (26 -29 مارس/آذار) مما شكل نكسة للرئيس الفرنسي، لأن خليفة الملكة اليزابيت اختار فرنسا وجهته الاولى الى الخارج.

يتمثل الأدهى في اطار الاحتجاجات، في الصورة السلبية لفرنسا حول العالم، مع تطرق وسائل الاعلام الاجنبية إلى الفوضى السائدة في الشوارع وإلى "بوادر ثورة في طور التكوين"، بيد أن موجة العنف التي شوهت التحركات السلمية دفعت بوزير الداخلية جيرالد دارمانين، إلى التحذير من الذكريات السيئة للفاشية في السنوات الثلاثين، غامزا من قناة أقصى اليسار المتشدد وجماعة Black Bloc (تقدر بنحو الفي شخص وتتألف بشكل أساسي من نشطاء من الحركات اليسارية المتطرفة التحررية أو المستقلة). لكن المراقبين يذهبون بعيداً ويذكّرون بمجريات الثورة الفرنسية القديمة او بتجاوزات "السترات الصفر" حديثاً.

زمن المقصلة

مع استذكار الماضي الفرنسي المضطرب وزمن المقصلة في ساحة الكونكورد، مكان اعدام الملك لويس السادس عشر، تجد فرنسا نفسها على حافة منزلق حاد. نستدل على ذلك مع تكرار استهداف الرئيس ايمانويل ماكرون عبر حرق مجسمات او صور له، والمناداة بوجوب "اعدامه". سبب التركيز على الرئيس، نظرة الرأي العام إلى شخصه واسلوبه ومقارنته مع نابوليون بونابرت واتهامه بالسلطوية والحكم الاحادي. والارجح ان تقليص زمن الولاية الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس سنوات (لتتزامن مع مدة ولاية البرلمان) جعل سيد الاليزيه هدفا مباشرا لانه اصبح الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية. لذا لا بد لماكرون من ايجاد مخرج كي يتمكن عملياً من اكمال ولايته الثانية. 

في مواجهة شبح الفوضى وبوادر التمرد، وأمام صعود أقصى اليسار وأقصى اليمين، وتراجع القوى السياسية التقليدية، لا مناص من الحوار بالنسبة إلى ايمانويل ماكرون كي يتجاوز هذا المنعطف الحرج.

بعد إقرار القانون "من فوق" في الجمعية الوطنية ورد الفعل الفوري الهائل، لم تنجح مداخلة رئيس الجمهورية المتلفزة في 22 مارس/آذار، في تخفيف الاحتقان، إذ اتهمه معارضوه بأنه ساهم في تأجيج الوضع، لانه رفض سحب القانون المثير للجدال وتصرف كأن البلاد بخير وسط انعكاسات التضخم ومعاناة شريحة واسعة من الفرنسيين.

شبح الفوضى

بعد التحركات الواسعة في 23 مارس/آذار، بدا الرئيس ماكرون في وضع حرج وبدت الحكومة منعزلة وضعيفة، والبرلمان مشتتا، والبلد مضطربا، وسط اصرار من الطرفين على مواقفهما المتناقضة باستثناء القائد النقابي المعتدل لوران بورجيه الذي دعا الى استراحة لمدة ستة أشهر وحوار قبل اكمال الاصلاح العتيد. 

لا يبدو الخروج من الأزمة الاجتماعية والازمة الديموقراطية يسيراً، لأن الجدال وصل الى شرعية الحكم، بين الاستناد الى الانتخابات على الرغم من نسب الامتناع الكبيرة او الاحتكام الى الشارع وخطورة الخروج عن انتظام المؤسسات.

(رويترز)

عشية التحرك العاشر يوم الثلاثاء 28 مارس/آذار، أخذت أوساط الاليزيه تتكلم عن  مرونة من السلطات وخصوصا بعد تعهد رئيسة الحكومة اليزابيت بورن بعدم اللجوء من جديد الى المادة 49-3 لاقرار القوانين، والارجح ان يقبل ماكرون اقتراح رئيس الاتحاد الديموقراطي للشغل حول تجميد موقت لمشروع اصلاح انظمة التقاعد من اجل تهدئة الشارع وضرب الفوضى في مهدها. ومن الاسباب الخفية للمرونة المتوقعة، ضرورة تفادي احتمال قيام المجلس الدستوري (الذي يترأسه رئيس الوزراء الاسبق الاشتراكي لوران فابيوس) بطعن مشروع قانون اصلاح انظمة التقاعد لاسباب تتعلق بالشكل قبل المضمون. 

في موازاة ذلك، وضع ماكرون امام رئيسة حكومته مهمة توسيع الاكثرية ويبدو ذلك متعذرا بسبب انقسام حزب اليمين التقليدي، أي الجمهوريين. والارجح ان يضطر الرئيس الفرنسي لاجراء تعديل وزاري واسع او الاستغناء عن رئيسة الحكومة اليزابيت بورن، والاستعانة بشخصية من حزب الجمهوريين اليميني او من حزب الخضر البيئي، في سعي إلى توسيع قاعدة حكمه وتجنب السقوط في فخ ازمة النظام.
في مواجهة شبح الفوضى وبوادر التمرد، وامام صعود اقصى اليسار واقصى اليمين، وتراجع القوى السياسية التقليدية، لا مناص من الحوار بالنسبة إلى ايمانويل ماكرون كي يتجاوز هذا المنعطف الحرج، ولا بديل من افتتاح فصل جديد اجتماعياً وسياسياً حتى لا تضعف الديموقراطية والبلاد.

font change