اللهجات وقوة العربية

اللهجات وقوة العربية

ما كنتُ لأُشغِلَ نفسي ربما بالتعرّف إلى عوالم اللغة العربية الجميلة لو لم يسبقني أبي إلى دراستها. أثار فضولي الخط العربي الأنيق، الذي شاهدته في أحد قواميس أبي، ودفعني، عندما كنتُ طالبا، إلى زيارة المنطقة العربية.

كانت المرة الأولى التي سمعتُ فيها العربيّة الدارجة عندما زرتُ أسواق مدينة حلب الأخّاذة، على الرغم من أنني بالكاد فهمتُ كلمة مما سمعت. كان للهجة السورية الناعمة وقتذاك وقع الأنغام العذبة على مسامعي، وملأتني بالتصميم لاستكشاف العالم العربي، ودراسة لغته بتعمّق.

حينئذٍ، لم أكن على دراية بالتعدد المذهل للهجات العربية، بل كنت أظنّ، وحالي كحال الكثيرين، أن اللغة العربية الفصحى هي العربيّة الحقّة الصافية، وأن لهجاتها ليست سوى نسخ مشوهة عنها.

غاب عني وقتذاك، أنه خلال زمن الرسول العربي محمد، لم تكن اللغة التي ندعوها اليوم العربيّة الفصحى هي السائدة والمتكلَّمة لدى العرب كافة الذين قطنوا شبه الجزيرة العربية، وأن اللغات أو اللهجات التي كان ينطقها جنود الجيوش العربية الإسلامية التي فتحت الهلال الخصيب وشمال أفريقيا وجزيرة مالطا وأجزاء من إسبانيا وعرّبتها، لم تكن العربية الفصحى التي نعرفها اليوم. السبب في ذلك أن أولئك الجنود جلبوا معهم لهجاتهم المحلية من مختلف أصقاع جزيرة العرب حيثما حلّوا. بتعبير آخر، لم يكن ثمّة مناطق واسعة تسود فيها لغة محكية موحّدة، لا في جزيرة العرب ولا في أي مكان آخر.

ويجب ألا يغيب عن بالنا، أن المجموعات السكانية التي عُرّبت خارج شبه الجزيرة العربية، حافظت على بعض خواص لغاتها الأصلية قبل وصول العربية، سواء السريانية في منطقة الهلال الخصيب، أو القبطية في مصر، أو الأمازيغية على امتداد الشمال الأفريقي. ولا تزال الركائز المنبثقة من تلك الأصول حاضرة في المصطلحات وبعض تركيبات اللهجات المحكيّة التي يستعملها أهل تلك المناطق إلى يومنا هذا.

وقد رفض أولئك المعتقدون بنظرية أن اللهجات العربية هي نسخٌ مشوهة عن اللغة الفصحى، دراسة تلك اللهجات، أو إعطاءها أي اهتمام. ورأى بعضهم أن دراستها تفوح منها رائحة مؤامرة استشراقية تهدف من ضمن ما تهدف إليه، إلى تقسيم العرب، والتفرقة بينهم.

ليس بالضرورة أن يقود الإقرار بالتنوع الحضاري واللغوي، إلى تفرقة العرب بل على العكس من ذلك، قد تكون "الوحدة التعددية" قوة دافعة تجاه الوحدة بشكل أكثر رسوخا، لأنها تتضمن الإقرار المتبادل بالهوية الخاصة بكل بلد أو شعب عربي


كان هذا من بين أسباب ضعف دراسة اللهجات العربية على مستوى العالم العربي. لكن الأمور بدأت تتغير اليوم بشكل عام، إذ بات من الطبيعي أن يتم التواصل اجتماعيا عبر استعمال قدر كبير من اللهجات المحلية، وحتى في المناسبات الرسمية. وبات من المعروف بشكل عام أن استعمال العربية المزدانة بتلوينات اللهجات المحلية يضفي عليها ألقا وجاذبية يفوقان استعمال اللغة الفصحى الرسمية، التي لم يعد العرب يتكلمون بها بشكلٍ عفوي في بيوتهم. فضلا عن ذلك، نشر العديد من الأكاديميين، والغربيين منهم بالذات، دراسات جديرة بالتقدير في هذا المجال، حيث نذكر هنا أطلسين للهجات العربية ألّف أحدهما الباحث الألماني بيتر بينشتيد، أما الآخر فهو نتاج جهود بروفسور اللغة العربية في جامعة أمستردام، مانفريد فويديش.

لنعد مرة أخرى إلى التاريخ، فما حدث فعليا هو أن الأمة العربية الأصلية احتوت شعوبا وأمما أخرى لم تكن عربية قطّ، لكنها عُرّبت بمرور الوقت. بالنتيجة، أمسى العرب اليوم تجسيدا حيا لتنوّع حضاريّ غنيّ.

ليس بالضرورة أن يقود الإقرار بالتنوع الحضاري واللغوي، إلى تفرقة العرب على النحو الذي يتصوّره البعض. بل على العكس من ذلك، قد تكون "الوحدة التعددية" قوة دافعة تجاه الوحدة بشكل أكثر رسوخا، لأنها تتضمن الإقرار المتبادل بالهوية الخاصة بكل بلد أو شعب عربي.

font change
مقالات ذات صلة