مفهوم السعادة بين الفرد والمجتمع

مفهوم السعادة بين الفرد والمجتمع

هل تساءلت يوما ما الذي يجعل مجتمعا من المجتمعات سعيدا؟ هل المجتمع السعيد هو الذي يركز مواطنوه على سعادتهم الفردية، ومن ثم تنتقل سعادتهم إلى الآخرين من حولهم عبر ما يسمّى "العدوى العاطفية"؟ أو أن المجتمع السعيد يتكون من مواطنين حسّاسين تجاه الأشخاص من حولهم، مما يجعل الآخرين سعداء؟

فلسفات السعادة

الاهتمام بالسعادة باعتبارها مبتغى شخصيا له تاريخ طويل ممتد بدءا من كتابات فلاسفة اليونان وفي مقدمهم أرسطو، والفلسفة البوذية كما نراها في كتاب "دارمابادا" المتضمن حكمة بوذا وأقواله شعرا، والذي يفرد فصلا خاصا بالسعادة باعتبار الحياة الفاضلة هي التي تحقق السعادة الدائمة، وكذلك التقاليد الصينية الكونفوشيوسية والطاوية التي تسعى لخلق سعادة عظمى للأفراد أنفسهم ولمن حولهم. وفي العصور الوسطى ذكر القديس توما الأكويني أن السعادة هي "الغاية القصوى" للإنسان. كما اعتبر الفيلسوف الإنكليزي النفعي جيريمي بينثام في القرن الثامن عشر السعادة "أعظم خير". وتدلّ هذه الأمثلة القليلة على الأهمية الدائمة التي يوليها العلماء والفلاسفة للسعادة عبر العصور والثقافات.

هذا الاهتمام بالسعادة ظل مستمرا حتى وقتنا الحاضر على المستوى العالمي، إذ حدّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 يوليو/تموز 2012، يوم 20 مارس/آذار من كل عام، بوصفه اليوم العالمي للسعادة، وذلك اعترافا بأهمية السعادة والرفاه بوصفهما قيمتين عالميتين يتطلع إليهما الأفراد في كل أنحاء العالم. وبحسب "مؤشر السعادة العالمي"، تصدّرت فنلندا قائمة أكثر دول العالم سعادة في 2023 للسنة السادسة على التوالي. ويقيس هذا المؤشر مدى السعادة في الدول والمجتمعات استنادا إلى معايير أهمها: متوسط العمر الصحي المتوقع، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والدعم الاجتماعي، والفساد المنخفض، وكرم المجتمع واعتناء أفراده بعضهم ببعض، والحرية في اتخاذ قرارات الحياة الأساسية. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فقد حلت المملكة العربية السعودية في المركز الثاني بعد الإمارات العربية المتحدة على هذا المؤشر. ومن الملاحظ أن الدول التي تتصدر قائمة الأكثر سعادة عالميا هي تلك التي تصنف بأنها مجتمعات تركز على الأهداف الفردية والنجاح والتميز والسعادة الشخصية.

ما السعادة، إذن، باعتبارها مقياسا للأداء المجتمعي؟

قد تكون الإجابة في ما عبر عنه الفيلسوف البولندي جوليان كوراب كاربوفيتش في كتابه "التناغم الاجتماعي، أو مبادئ المجتمع السعيد" (2017) عن ضرورة التناغم كأساس للثراء الاجتماعي الذي يعترف بالتباين والتنوّع ويتحقق فيه التكامل المتبادل والفضائل ومكارم الأخلاق.

حظيتُ كعضوة في جمعية علم النفس العبر ثقافي بفرص للتواصل الثقافي مع مجتمعات تنمَّط بأنها من دول "العالم الثالث" مثل كوبا والفيليبين وزنجبار لتقديم أوراق بحثية في مؤتمرات علمية، منها مؤتمر نظِّم في كوستاريكا. ولاحظت نتيجة المعايشة الذاتية أن تلك الدول تشترك في التعبير المباشر عن سعادتها وتظهر البشاشة واللطف والابتسامات وقبول الآخر، وتشترك في ترديد عبارات الاحتواء والإيجابية منها العبارة الشهيرة "هاكونا ماتاتا" أي "لا تقلق" في زنجبار مثلا، و"بورا فيدا" أي "كل شيء على ما يرام" في كوستاريكا، كمحاولة لطمأنة ذلك الغريب بأن الحياة آمنة، وتعكس هذه العبارات أيضا الرضا الذاتي على الرغم من صعوبة العيش وقلة ذات الحيلة. وهذه المجتمعات تصنَّف مجتمعات جمعية.

من الملاحظ أن الدول التي تتصدر قائمة الأكثر سعادة عالميا هي تلك التي تصنف بأنها مجتمعات تركز على الأهداف الفردية والنجاح والتميز والسعادة الشخصية


مشروع بحثي

بحثا عن إجابة علمية عن سؤال "ما المجتمعات السعيدة؟"، شاركتُ في مشروع بحثي دولي يهدف إلى تقصي هذه القضية. إذ لاحظنا أن العديد من الدراسات التي غالبا تغلّب مجتمعات دون غيرها وتتمركز حول الثقافات الفردية مثل أميركا وأوروبا، وبالتالي تخرج بنتيجة عامة مفادها أن الفردية تتنبأ بالسعادة المجتمعية. وهذا يفسر بأن السعادة من نصيب تلك المجتمعات التي تركز على احتياجات الأفراد وأهدافهم الذاتية على حساب تلك المجتمعات الجمعية. مع ذلك، لم يكن من الواضح سبب ارتفاع معدلات السعادة لدى أعضاء المجتمعات الفردية. يمكن أن نستنتج أن التركيز على الذات والأهداف الخاصة، يعزز السعادة المجتمعية. لكن كيف نفسر ابتسامات أولئك البسطاء وإنسانيتهم الدافئة ومستوى الثقة الذي يظهرونه للغريب قبل القريب؟

قمنا بتحليل البيانات من أكثر من 100000  فرد تم جمعها من أكثر من 90 دولة بما فيها المجتمع السعودي. وجدنا أن السعادة المجتمعية أعلى في تلك المجتمعات الفردية فقط حين تتحقق فيها أربعة مواقف وقيم إنسانية محددة هي: التسامح tolerance، والثقة trust، والمشاركة المدنية civic engagement، وغياب المادية non-materialism. كان الارتباط بين هذه المواقف والسعادة قويا جدا وتم الحصول عليه حتى عندما ضبطت واستبعدت عوامل أخرى مثل مستوى ثروة المجتمع.

قاسم مشترك

ولكن ما القاسم المشترك بين التسامح والثقة والمشاركة المدنية وغير المادية؟ لماذا تكون المجتمعات التي تتبنى هذه المواقف الأربعة أكثر سعادة من غيرها؟ يبدو أن الجواب البسيط هو أن كل موقف من هذه المواقف الأربعة يفيد الآخرين. من الواضح أن التسامح يفيد الناس من حولنا. بالمثل، فإن الثقة في الغرباء تفيد الآخرين. قد تجلب لنا مشاركتنا المدنية فوائد شخصية، لكنها أيضا تفيد الآخرين وتحسن المجتمع ككل. كما أن كون الفرد غير مادي فهذا يجعله أقل تركيزا على تكديس الأموال والممتلكات وأكثر تركيزا على القضايا المهمة الأخرى. لعلنا نرى بوضوح نقص السعادة في المجتمعات العالية الفردية التي تضعف فيها القيم الإنسانية ويتم خلالها تشييء الإنسان وتسليعه.

يمكن رؤية هذه المواقف الأربعة في "المجتمع المفتوح" للفيلسوف كارل بوبر، الذي دافع عن قيم التسامح والثقة والمشاركة المدنية وغير المادية من أجل الحفاظ على مجتمع مفتوح وديموقراطي. ويبدو أن افتراضات بوبر لا تجعل المجتمعات أكثر انفتاحا فحسب، بل أكثر سعادة أيضا.

من المثير للاهتمام أنه على الرغم من أن مواقف "المجتمع المفتوح" الأربعة تفيد المجتمع ككل، إلا أنها لا تعكس بالضرورة شعور الفرد العادي بالرضا والسعادة الشخصية. لذلك وجب التركيز على معنى السعادة بالنسبة إلى الأفراد.

قد تجلب لنا مشاركتنا المدنية فوائد شخصية، لكنها أيضا تفيد الآخرين وتحسن المجتمع ككل. كما أن كون الفرد غير مادي فهذا يجعله أقل تركيزا على تكديس الأموال والممتلكات وأكثر تركيزا على القضايا المهمة الأخرى


مواقف

لخلق مجتمع سعيد، نحتاج إلى تأييد المواقف التي تفيد الأشخاص من حولنا، حتى لو لم تكن مفيدة لنا بشكل شخصي. لا تعود السعادة إلينا من خلال "الكارما" مثلما تدّعي الخرافة البوذية، عندما نتصرف بشكل جيد، إنما أسعد المجتمعات هي تلك التي يتبنى فيها الناس مواقف تفيد الآخرين. مما يعني أن جودة المجتمع تعتمد على كيفية تعاملنا بعضنا مع بعض، وهذه سمة مميزة للمجتمعات الجمعية أكثر من غيرها من المجتمعات ذات النزعة الفردية.

من زاوية أخرى، لا بد من التنويه بأنه على الرغم من أن هذا الارتباط الاجتماعي بالسعادة يبدو مثيرا للإعجاب، إلا أن الأبحاث الحديثة تحذر من أخطار الترويج لضرورة الإفراط في المشاعر الإيجابية. فعلى سبيل المثل، يتضح بروز السعادة بوضوح من خلال العديد من مدربي السعادة والحملات وكتب المساعدة الذاتية التي تزودنا النصائح والحيل لتنمية العقلية الأكثر إيجابية، ولكن أيضا بشكل ضمني أكثر من خلال ما يبدو حياة مثالية للمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار الوجوه المبتسمة وتلميحات السعادة في كل مكان في الإعلانات والمجلات، وهو ما يشعر الناس بالضغط لتقديم أنفسهم بطريقة إيجابية للغاية، أي الاهتمام بالصورة أكثر من الجوهر.

فمن أجل مجتمع سعيد يجب أن تعتمد المعرفة على التراث الثقافي لكل شعب من الشعوب وعلى التراث الإنساني، وكذلك يجب أن تواكب المجتمعات مستجدات العصر باستمرار وان يتم إغناؤها. فالسعادة فعل لتحقيق الذات وهي تشمل الفرد والمجتمع. وكل إنسان يستحق أن يكون سعيدا ومحققا لما يصبو إليه، فقد جئنا إلى هذا العالم كي نتطور ونكون سعداء.

font change
مقالات ذات صلة