"البترودولار"... أفول شمس أم كسوف عابر؟

الصين جادة في استخدام "اليوان" للدفع في مقابل مشترياتها من النفط

ٍShutterstock
ٍShutterstock

"البترودولار"... أفول شمس أم كسوف عابر؟

تُثار الشكوك بين الفينة والأخرى ومنذ مدة طويلة حول "البترودولار"، وهو مصطلح لتعريف الدولار الأميركي كعملة معتمدة في تداولات النفط، ويُطرَح السؤال هل يستمر باعتباره العملة الأساس لعمليات بيع وشراء النفط ومنتجاته النفطية دولياً؟ كثرت هذه الشكوك في الآونة الأخيرة مع ثبوت نية الصين الجادة في استخدام عملتها "اليوان" للدفع في مقابل مشترياتها من النفط، وفُسّر هذا الموقف ضمن منافسة الصين التجارية للولايات المتحدة، ثم زادت تكهنات وسائل الإعلام الغربية بأن العملة الصينية ستعمل على بدء العد التنازلي لنهاية الدولار، خصوصا بعد إعلان المملكة العربية السعودية قرار الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون في 29 مارس/آذار الماضي.

التشاؤم الحاصل حول مستقبل الدولار الأميركي كعملة أولى في أسواق النفط، ربما يكون مبالغاً فيه لأنه يستند إلى عوامل غير واقعية، منها أن الأنظار تتجه إلى السعودية، كلما طُرحت فكرة نهاية عصر "البترودولار" - ومنذ تسعينات القرن الماضي - كونها الوحيدة القادرة على قيادة هذا التوجه، إلا أن انضمام المملكة إلى منظمة شنغهاي للتعاون كـ"شريك حوار"، هو من باب تعزيز الديبلوماسية السعودية القائمة على توازن علاقاتها مع القوى الدولية المؤثرة سياسياً واقتصادياً. لذلك، فإن الحديث عن اتخاذ المملكة هذا المنحى لا يعكس مكانتها الدولية ودورها الريادي في استقرار أسواق النفط وحماية الاقتصاد العالمي من أي هزّات عنيفة. بالتالي، يندرج هذا الربط ضمن المبالغات غير المنطقية وضمن تهكم الآلة الإعلامية الغربية في تناول مواضيع بهذا الحجم، في سياق محاولات يائسة للاصطياد في الماء العكر.

الأنظار تتجه إلى السعودية، كلما طُرحت فكرة نهاية عصر "البترودولار" كونها الوحيدة القادرة على قيادة هذا التوجه، إلا أن انضمام المملكة إلى منظمة شنغهاي للتعاون كـ"شريك حوار"، هو من باب تعزيز الديبلوماسية السعودية وتوازن علاقاتها مع القوى الدولية المؤثرة سياسياً.

عناصر قوة الدولار

كما أن قوة الدولار الأميركي في صيغة البترودولار تكمن في قيام غالبية منتجي النفط بتسعير انتاجهم به منذ السبعينات، مما رسخ مكانته كعملة مفضلة ومهيمنة بين احتياطات النقد الأجنبي حول العالم. فهو قادر على احتواء تداولات نفطية ضخمة تصل الى 100 مليون برميل يوميا، نتيجة توافر حجم ضخم من السيولة بالدولار، واستقرار أسعار صرفه عموما بين العملات العالمية الرئيسية. لا توجد عملة أخرى يمكنها تغطية الحجم الهائل لتداولات النفط اليومية التي تساعد على استقرار الاقتصاد العالمي، لا سيما أن كل العقود الآجلة للنفط ومشتقاته مقوّمة بالدولار الأميركي.

ٍShutterstock

ومن جهة أخرى، تكمن قوة الدولار الحقيقية في ضخامة تداولات الاقتصاد الأميركي الداخلي وهو الأضخم عالميا. فالدولار يقوم عليه الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، الذي لا يعتمد على إنتاج السلع أو القمح أو المعادن أو النفط أو الخدمات فحسب، ولكن أيضا على الأوراق المالية، حيث تعتبر أسواق المال الأميركية الأكبر والأهم عالميا، إذ يتسابق إليها الكثير من أموال الدول والأفراد لجاذبيتها. كذلك أسواق العقود الآجلة للطاقة.

إلا أن انتشار العديد من التساؤلات والشكوك، قد يعني أن "البترودولار" سيواجه تحديات تنافسية في المرحلة المقبلة مع عملات أخرى سواء في شكلها التقليدي أو الرقمي. لكن هذه العملات ستكون غالباً في خدمة اتفاقات ثنائية، بين روسيا والصين مثلا، للخروج من هيمنة الدولار في تجارة النفط، أو بين الصين والبرازيل للغاية نفسها، على الرغم من أنه ليس هناك ما يؤكد أن الصين استطاعت أن تؤمن جميع وارداتها النفطية بعملتها الخاصة أو جزءاً منها (الصين أكبر مستورد للنفط في العالم بنحو 11 مليون برميل يوميا).

تكمن قوة الدولار الحقيقية في ضخامة تداولات الاقتصاد الأميركي الداخلي وهو الأضخم عالميا، ولا توجد عملة أخرى يمكنها تغطية الحجم الهائل لتداولات النفط اليومية التي تساعد على استقرار الاقتصاد العالمي.

حصة اليوان لا تذكر

حتى وإن كانت الصين جادة في منافستها للولايات المتحدة من خلال استخدام عملتها لشراء احتياجاتها من النفط (وبيع منتجاتها أيضا)، إلا أن بورصة شنغهاي الدولية للطاقة في الصين قد بدأت للتو بتداول أول شحنة لها من الغاز الطبيعي المسال المقوّمة باليوان، وهو تحرك متأخر ومحدود جدا. وكانت الصين تتطلع منذ سنوات إلى إبرام مثل هذه الصفقات التجارية الدولية بعملتها الوطنية بغية زيادة أهميتها في الأسواق العالمية. إلا أن اليوان الصيني لا يمثل سوى نحو 3 في المئة من التجارة العالمية مقارنة بحصة الدولار البالغة نحو 87 في المئة، على الرغم من كل الجهود المضنية التي تبذلها الصين ومن تحقيق الاقتصاد الصيني نجاحا هائلا بناتج محلي إجمالي يبلغ 17,7 تريليون دولار، هو الأكبر بعد الولايات المتحدة، كما أنه من غير المعروف مدى قدرة الصين على استيراد كميات كبيرة من النفط من مختلف أنحاء العالم وتوسيع واردات الغاز الطبيعي المسال بعملتها. أما بالنسبة إلى روسيا التي أدخلت اليوان الصيني في تبادلاتها التجارية، خصوصا في بيع نفطها، فقد جاء ذلك في أعقاب العقوبات الغربية على صادراتها ووارداتها وتجارة الطاقة، لتصبح العملة الصينية البديل الوحيد أمام روسيا في سعيها للحد من الاعتماد على الدولار واليورو.

من ضمن التحديات التي تواجه "البترودولار" أيضا، القلق العالمي الكبير من عملية التيسير الكمي المُبالغ فيها جدا، التي قامت بها الحكومة الأميركية أثناء جائحة كوفيد-19، من دون أي اعتبار لتبعات قرارها على اقتصادات العالم. مما أثار شكوكا لدى الجميع بأن الدولار ليس أكثر من مسألة طباعة للعملة بلا أي غطاء من الذهب بعدما ألغى الرئيس ريتشارد نيكسون هذا الغطاء في سبعينات القرن الماضي. ومع كل هذه التريليونات من الدولارات التي غذت الداخل الأميركي وتسرب منها إلى أسواق العالم، وارتفاع الدين العام الأميركي الذي تجاوز الحد المسموح به تشريعيا ليتعدى في غضون سنوات قليلة حاجز الثلاثين تريليون دولار، والمعرفة الضمنية بأن الولايات المتحدة لن تدفع ديونها إلا بعملتها، إن التزمت فعلا أمام دائنيها كما يشكك البعض، تصبح هذه الشكوك وهذا القلق مبررين. كما أن التقدم العلمي والمعرفي والتقني خصوصا على مستوى الاقتصاد والمالية في العالم، ربما يدفع في اتجاه إعادة النظر في فكرة العملة الاحتياطية.
 
إضافة إلى ما سبق، لا تزال هناك إشارات متضاربة حول احتقان الداخل الأميركي بسبب التضخم وطرق علاجه القاسية من خلال أدوات السياسة النقدية الشرسة، على الرغم من أنها نجحت في استقطاب المزيد من رؤوس الأموال إلى الاستثمارات الأميركية والسندات السيادية. أما الصراع السياسي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري ومواقفهما المتضادة في العديد من المواضيع والقضايا سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فيعطي مساحة لتفهم موقف المتخوفين من "البترودولار" أو المتخوفين عليه. ربما تبعث مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية في 2024 إشارات أخرى، لكن حالة عدم اليقين القائمة تساهم راهنا، وبشكل عام، في تأجيج الشعور بالاحباط تجاه الدولار كعملة احتياطية.

موقف ماكرون اللافت 

لافتةٌ هي تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الأخيرة في قوله إن على أوروبا تقليص اعتمادها على الدولار الأميركي، وإنه آن الأوان للقارة العجوز أن تنهي هيمنة الدولار على تجارتها العالمية وتتجنب الوقوع في المواجهة الصينية الأميركية. الأعباء البيروقراطية حجّمت تطور أوروبا الاقتصادي والتقني، لذا، هي لن تستطيع ان تصحح مسارها بسهولة، بل على العكس، ستعمل على امتصاص الصدمات بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. لذلك، فإن تصريح ماكرون، حتى وإن لم تظهر خلفياته، قد يكون سياسياً وليس اقتصادياً في المقام الأول، إلا إذا كان يمتلك معلومات عن الدولار الأميركي لا نزال نجهلها حتى الآن.

لا شك أن الاقتصاد والنظام المالي العالميين دخلا مرحلة جديدة نتيجة التغيرات الحاصلة على الساحة الجيوسياسية العالمية، ومعها ملامح العلاقات الدولية على نحو عميق وربما جذري، يفسح المجال أمام تعدد عملات التداول التجاري وقبولها. ولكن هذا لا يعني أن الدولار الأميركي (في صيغة البترودولار) سيبهت بريقه في ارتباطه الوثيق بالنفط، لكن قد يواجه حالة كسوف عابرة في أسوأ السيناريوهات، حتى يتبين للجميع مدى قوة العملات الأخرى التي تحاول منافسة الدولار، وكذلك موثوقيتها ومرونتها في التعاطي مع الكم الهائل من التداولات النفطية.

 

font change