"الفاشينستا" والانفصال عن الواقع

التنافس على جني الأرباح وخلق عالم لا يمت للواقع بصلة

"الفاشينستا" والانفصال عن الواقع

لست من هواة جلد مواقع التواصل الاجتماعي، بل على العكس أرى إيجابياتها أكثر بكثير من سلبياتها، وحتى عندما يحكى عن كيف بات الجميع يملك نفس المساحة في التعبير عن الرأي الخبير ومن بالكاد يقرأ ويكتب، المتعلم والجاهل، لا أرى في ذلك عيبا طالما أن التعبير هو بالكلمة أو بالكلمة والصورة، ولا يلحق الضرر والأذى بمن يخالف صاحبه.

تختلف أو تتفق مع إسلوب أحدهم، تلغي المتابعة أو تحجب التعليق، ولكن لا يمكن لأي كان أن يمنع أيا كان من إبداء أي رأي مهما يكن هذا الرأي.

وقد يحتاج الأمر إلى سنين لنتدرب نحن في الدول التي لطالما افتقدت حرية الرأي والرأي الآخر على الاختلاف بشكل راق، أو أقله، لا يجرح أو يقلل من صاحب الرأي الآخر.

لقد حولتنا هذه المواقع ليس إلى مطلعين على أخبار سياسية لدول بعيدة فحسب، بل أصبحنا أكثر قدرة على التعرف على مجتمعات وعادات وتقاليد، وتوسعت دائرة معارفنا ولو كانت افتراضية.

قد يحتاج الأمر إلى سنين لنتدرب نحن في الدول التي لطالما افتقدت حرية الرأي والرأي الآخر على الاختلاف بشكل راق، أو أقله، لا يجرح أو يقلل من صاحب الرأي الآخر.

ولكن ثمة ظاهرة سلبية جدا لم تنحسر مع مرور الوقت، حتى بعدما خف الانبهار بهذا العالم الافتراضي، وهي ظاهرة "الفاشينستا" أو "المؤثر"، وهو ببساطة الشخص الذي يتابعه عدد كبير من الناس على صفحات التواصل الاجتماعي قد يصل إلى عدة ملايين، تستعين به الشركات لتسويق منتجاتها أو خدماتها مقابل بدل مادي أو هدايا مقدمة له، إذ يثق المتابعون بتقييمه للسلعة أو للخدمة التي يسوقها في مجال معين، ولكن هذه المرة من دون أي قانون يحمي المستهلك في أغلب الدول حتى الآن.

ليس العيب بالترويج بحد ذاته، ولكن كان لهذه الظاهرة أثر كبير على جيل بأكمله، فالدور الذي يقوم به ال"مؤثر" أو "المؤثرة" لا يقتصر على تسويق منتج أو خدمة بل صار الأمر أشبه بتسويق إسلوب ومستوى حياة هي أبعد ما تكون عن الواقع، وليس بامكان المتابعين والمتابعات تقليده دون أن يلحق الأمر بهم أذى قد يصل أحيانا إلى مخاطر تهدد حياتهم.

يتناسى متابعو هؤلاء المؤثرين وخصوصا من المراهقين والمراهقات، أن الصورة التي يرونها على مواقع التواصل ليست بالضرورة هي الصورة الحقيقة، فمع تطور التكنولوجيا يوميا وإمكانية تحسين جودة الصورة والفيديو وحتى الصوت، ينسى هؤلاء المتابعين والمتابعات أن ما يرونه شيء غير واقعي ويبدأون بمقارنة صورهم مع الصور التي يرونها، يبدأ الامر بالصورة لينتهي بأسلوب الحياة.

لظاهرة "الفاشينستا" أثر كبير على جيل بأكمله، فالدور الذي يقوم به ال"مؤثر" أو "المؤثرة" لا يقتصر على تسويق منتج أو خدمة بل صار الأمر أشبه بتسويق إسلوب ومستوى حياة هي أبعد ما تكون عن الواقع.

المؤثر يتقاضى مقابل لتسويق منتج ومنتجع سياحي ومعلم سياحي وغير ذلك، بينما يجلس المتابع ساعات أمام الشاشة يتابع تفاصيل حياة هذا المؤثر وكأن هذه هي الحياة التي عليه هو أن يعيشها.

عالم النفس الأميركي الدكتور تيم بونو، على سبيل المثال يقول "إن الوقت الذي تقضيه في مشاهدة الصور "المثالية" على منصات التواصل قد يثير غيرتك وحسدك، ويؤثر على صحتك العقلية دون أن تشعر".

يقارن المتابع إن لم يكن على درجة عالية جدا من الوعي صورته وإسلوب حياته بإسلوب حياة هؤلاء، ينسى أنه يشاهد إعلانا مدفوعا، فاغلب الأحيان لا شيء ينبهه أن ما يراه إعلانا من نوع جديد غير تلك التي اعتدنا مشاهدتها على التلفزيونات، يصاب بالاحباط والاكتئاب.

يلجأ البعض إلى عمليات التجميل لا لحاجته لها بل ليشبه تلك الصورة المعدلة التي رآها على شاشة هاتفه وهو يتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، يصاب المراهقين باضرابات في الأكل، يفقدون شهيتهم ويصابون بأمراض نفسية وجسدية.

المؤثر يتقاضى مقابل لتسويق منتج ومنتجع سياحي ومعلم سياحي وغير ذلك، بينما يجلس المتابع ساعات أمام الشاشة يتابع تفاصيل حياة هذا المؤثر وكأن هذه هي الحياة التي عليه هو أن يعيشها.

ليس المراهقون وحدهم عرضة لهذه التأثيرات السلبية، فحتى النساء والرجال الذين يعانون من ضغط الحياة يهربون من واقعهم إلى تلك الحسابات ويبدأ بعد ذلك الشعور بعدم الرضى على ما يملكون، على أعمالهم وأشكالهم وإسلوب حياتهم.

وتزداد المخاطر عندما يصبح الأطفال جزءا من هذه اللعبة التسويقية، أطفالا مؤثرين وأطفالا متأثرين، ومن لم يشبه الأول قد يكون عرضة للتنمر، وسمعنا عن أطفال وصل بهم الأمر إلى الاقدام على الانتحار بسبب التنمر الذي تعرضوا له بسبب صفحات التواصل الاجتماعي.

لا يمكن أن ننكر أن بعض هؤلاء "المؤثرين" يقدمون محتوى جيد ويساهمون بالكثير من حملات التوعية بشتى المجالات، إضافة إلى المبادرات الإنسانية والمجتمعية التي يقومون بها، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إلا أن نذكر الآثار التدميرية التي رافقت وترافق هذه الظاهرة، وإن كان استمرارها هو جزء من حرية الرأي إلا أن التوعية ووضع الضوابط التي تحمي المتلقي وتنبهه إلى أن ما يراه ليس حقيقيا هو واجب وضرورة، فيما يتعلق بفانيشستات التسويق السلعي، لكن المشكلة قد تصبح أعمق في حال تعاملنا مع فانيشستات من نوع آخر.

فلكل مجال للأسف "فانيشستاته"، في الطب والفن والسياسة والصحافة، بات لدينا أشخاص مصنوعين من وهم الصورة البراقة، هؤلاء ينظر لهم شريحة واسعة بتعلق شديد لا لقدرات خاصة بهم، بل لأن جهات ما قامت بتسويقهم بهذا الشكل، هؤلاء لا يشار لهم عادة، مع أنهم باتوا يقدمون مضمونا استهلاكيا في المجالات التي يعملون بها لا يختلف عن أي سلعة أخرى يروج لها فانيشستات التسويق الإعلاني.

font change