في الـ30 من شهر سبتمبر/أيلول من عام 1989 اجتمعت الأطراف اللبنانية المتنازعة حينها في مدينة الطائف السعودية وتوافقوا على "وثيقة الوفاق الوطني"، وفي 22 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه أقر اللبنانيون الوثيقة التي نصت من ضمن ما نصت عليه على "الإعلان عن حل جمیع المیلیشیات اللبنانیة وغیـر اللبنانیـة وتسـلیم أسـلحتها إلـى الدولـة اللبنانیـة خـلال سـتة أشـهر تبـدأ بعـد التصـدیق علـى وثیقـة الوفـاق الـوطني".
في السابع من أغسطس/آب من عام 2025، أي بعد ما يقارب 36 عاما اجتمعت الحكومة اللبنانية ووافقت على إنهاء الوجود المسلّح على كامل الأراضي اللبنانية بما فيه "حزب الله" ونشر الجيش اللبناني في المناطق الحدودية، حيث أقرت الحكومة جزءا من ورقة الموفد الأميركي توماس باراك.
36 عاما هي الفترة التي احتاجها لبنان بعد أن انتهت الحرب الأهلية ليبدأ تطبيق أحد بنود "اتفاق الطائف" الذي صار دستورا للبلاد، فيما لا تزال هناك بنود مؤجلة حتى عن البحث.
ليست المرة الأولى التي يحاول لبنان فيها إيجاد "حل" لمعضلة سلاح "الحزب" والميليشيات الفلسطينية داخل المخيمات وخارجها، وليس الأميركي أول من طرح موضوع بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، إنه مسار طويل كلف لبنان الكثير.
في كل مرة كان يُطرح فيها موضوع السلاح كان "حزب الله" يُخرج من عباءته ذريعة للإبقاء على سلاحه، من ذريعة مزارع شبعا المفبركة إلى ذريعة رفض انتشار الجيش اللبناني على الحدود كي لا يتحول إلى حارس حدود لإسرائيل، إلى ذرائع عن ضعف الجيش وعدم قدرته على حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، وبين هذا وذاك كانت مقولة "السلاح لحماية السلاح" التي أطلقها أمين عام "الحزب" الراحل حسن نصرالله يوم أعلن حربه على الدولة اللبنانية في السابع من مايو/أيار 2008.
ما تبدل اليوم ليس ورقة أميركية ولا حكومة امتلكت جرأة اتخاذ قرار بتطبيق الدستور، ما تبدل اليوم أبعد من لبنان، لقد ولى زمن الميليشيات، صحيح أن "حزب الله" وعلى لسان قادته الحاليين من أمينه العام نعيم قاسم إلى رئيس كتلته النيابية ما زالوا يهددون بـ"الموت" دون تسليم السلاح، أي عملياً الحرب، وما زال "جمهور" "الحزب" يقطع الطرقات رافضا قرار سحب السلاح، ولكن هل يغير هذا كله في المعادلة اليوم؟ وهل ينطلي شعار المظلومية بعد كل ما فعله "حزب الله" وحليفته "حركة أمل" في لبنان الدولة والوطن، على الشيعة أنفسهم قبل أن ينطلي على غيرهم؟
إما أن يقرر "الحزب" أن يكون لبنانياً لأول مرة منذ تأسيسه وإما أن يُغرق لبنان في فتن وحروب، لكن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء
ما حصل في لبنان ليس سوى ارتداد لما يحصل في المنطقة وتحديدا منذ السابع من أكتوبر 2023، وحرب الإسناد التي تسببت بنهاية "أسطورة حزب الله"، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، حتى إن العراق فتح نقاش شرعنة ميليشيات "الحشد الشعبي" وجوبه بتهديد أميركي واضح إن تم ذلك.
يستطيع "حزب الله" أن يُدخل لبنان مجددا في حرب أهلية، ولكن ماذا ستكون النتيجة؟ هل سيُعاد تسليح "الحزب" وفتح طريق طهران-دمشق-بيروت للإمداد؟ هل ستنشط تجارة الكبتاغون مجددا لتمويل أنشطة "الحزب"؟ وهل سيقف الأميركي والإسرائيلي متفرجين؟ هي لحظة، إما أن يقرر "الحزب" أن يكون لبنانيا لأول مرة منذ تأسيسه وإما أن يُغرق لبنان في فتن وحروب، لكن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، هي ساعة على توقيت المنطقة والعالم وليست ساعة على توقيت بيروت فحسب.
يستطيع "الحزب" ومناصروه أن يكتبوا عشرات بل ومئات الصفحات عن الذرائع التي تحتم عليهم الاحتفاظ بسلاحهم، وليس آخرها محاولة ربط ضرورة الحفاظ على السلاح بما حصل في السويداء في سوريا، كما تستطيع أن تفعل كل الميليشيات في المنطقة. هو خيار بين منطق الدولة ومنطق الميليشيا، ولكن الوضع الذي أبقى لبنان في مرحلة انتظار لـ36 عاما لم يعد قائما، وإن أصر عليه البعض هنا ورفضه هناك، عليه أن يرى بوضوح أن أحجار الدومينو إن سقطت فستتساقط تباعا.