السودان... السياسة بأدوات الحرب

السودان أمام حرب شاملة يقودها جنرالان

AFP
AFP
جنود من الجيش السوداني بعد استيلائهم على قاعدة "قوات الدعم السريع" في بورتسودان يوم الاحد

السودان... السياسة بأدوات الحرب

الخرطوم - وقعت الحرب... البداية كانت من مطار مروي، ثم العاصمة الخرطوم، ثم امتدت إلى أطراف السودان المختلفة. قبل إعلان الحرب، تأكد أن وجود الجيوش في السياسة باهظ الكلفة ويصعب السيطرة عليه والتنبؤ بتحركات جنرالاته من نطاق السياسة إلى نطاق الحرب والعنف. وهذا ما حدث فعلا في السودان.

جوهر الخلاف الذي ساهم في إطلاق الرصاصة الأولى يتمحور حول النفوذ في المستقبل ومحاولة كل طرف تأكيد وجوده كقوة مؤثرة في المشهد، لكي يضمن من خلال هذا التأثير تحقيق طموحه في السلطة والثروة. وبدأ الصراع ناعما باختلاف المفاهيم والرؤى، وعند تعنت كل طرف والتمترس في رؤيته انتقل المشهد إلى سباق في التحشيد والاستعداد العسكري. في ظل ذلك اجتهد عناصر النظام البائد في دق طبول الحرب وحرصوا على عدم تفويت الفرصة مستخدمين نفوذهم داخل الجيش. وعملوا على التصعيد الذي انتهى بإطلاق الرصاصة الأولى.

قبل وقوع الحرب بثلاثة أيام، اعترض قائد فرقة في الجيش السوداني قوةً من "الدعم السريع" في جوار مطار وقاعدة مروي الجوية، واستفسر عن سبب تحركها ووصولها إلى المنطقة، وطلب منها العودة سريعا. احتقنت الأمور وزادت وتيرة التوتر الى الحد الذي أصدر بموجبه الجيش بيانا كانت بدايته أن الجيش "يدق ناقوس الخطر"، وكان بمثابة إعلان حرب. وقال فيه إن قوات الدعم السريع باتت تتحرك دون إخطار قيادة الجيش، مسببة الهلع للمواطنين. غير أن بيان الجيش تسبب في هلع أكبر، وفهم منه الناس أن الحرب واقعة لا مناص.

Reuters
الدخان يتصاعد من مباني مطار الخرطوم الدولي في اليوم الثالث من القتال

منذ تكوين قوات الدعم السريع في 2013 لم تتواجه أو تشتبك مع قوات الجيش السوداني، وكانت العلاقة تسير بحسب ما هو مخطط لها، والسبب في ذلك أن كل طرف كان يحقق ما يريد؛ قوات الدعم السريع تؤدي مهامها في دارفور وتحمي النظام وتحصل على امتيازات مالية وتجارية ومخصصات، والبشير ونظامه يتمتعون بهذه الحماية. بعد الثورة فتح باب جديد بالنسبة لـ"الدعم السريع" على الأقل، وهو باب المشاركة السياسية. ومع الوقت وما جرى خلال الثورة، وما يملك قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من مركز مالي واقتصادي، تعاظم طموحه السياسي. وهذا الطموح كان نقطة المفارقة وانتهاء شهر العسل بين "الدعم السريع" والجيش.

الطموح السياسي الذي أدى للمفارقة والخلاف، لم يكن ليتلبس قائد "الدعم السريع" في عهد النظام البائد، لأن الرئيس المخلوع عمر البشير كان يتربع على عرش السلطة بلا منافس، ومجرد التفكير في منافسته تعني الإبعاد الفوري من جواره، ولو كان الطامح من حزب المؤتمر الوطني الحاكم. كما ان حزب المؤتمر الوطني هو من كان يحدد التقدم الى المناصب السياسية، ويملك قائمة لا يمكن أن يجد دقلو اسمه فيها ولو طال الزمن.

مع الوقت وما جرى خلال الثورة، وما يملك قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من مركز مالي واقتصادي، تعاظم طموحه السياسي. وهذا الطموح كان نقطة المفارقة وانتهاء شهر العسل بين "الدعم السريع" والجيش

الحرب التي اندلعت في الولاية الشمالية بمنطقة مروي وانتقلت إلى الخرطوم في اللحظة ذاتها، من أقبح أنواع الحروب وهي "حرب المدن". إذ يختبئ فيها الجنود المتحاربون خلف جدران المنازل المأهولة بالسكان الآمنين. وما يزيد في قبحها ويجعلها اقبح من غيرها أن معسكرات قوات الدعم السريع منتشرة في معظم مدن السودان قريبا من معسكرات الجيش، وكلاهما- معسكر الجيش أو "الدعم السريع"- تجده في منطقة سكنية محاطا بالمنازل والأسواق والمدارس والجامعات. وفعليا، وقعت المعركة الأولى في الخرطوم بجوار جامعة أفريقيا العالمية، وعلى بعد أمتار من سوق الخضراوات المركزي في الخرطوم.

AP
مارة قرب المخازن المغلقة في الخرطوم يوم الاثنين 17 ابريل


المعارك التي وقعت منذ السبت في مناطق عدة أكدت أن ميزان القوى بين الجانبين غير محسوم ولا تزال المعارك سجالا بين الجانبين، وهو ما يجعل انتصار طرف على آخر أمرا لا يمكن توقعه بسهولة، ويشير أيضا إلى أن هذه الحرب ستطول وخصوصا عندما انتقلت إلى خارج الخرطوم نحو الولايات المختلفة.


ينظر معظم الناس إلى توسع نطاق الحرب في الخرطوم وينتظرون من الجيش حسمها، غير أن حسمها هنا يعني إطلاق وحش متمرد في إقليم دارفور الذي هو إقليم حرب أصلا ويمثل البيئة الحاضنة لقوات الدعم السريع. والمفارقة المهمة أن حركات دارفور المسلحة تساند الفريق البرهان أو الجيش منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ولا تزال تسانده في معركته ضد قوات الدعم السريع، كأن هذه الحركات تعلم أنها المتضرر الأول من عودة قائد الدعم السريع محمد دقلو إلى دافور تحت أي ظرف، فهي لا يمكنها مواجهته في الميدان بتفوقه في العدد والعتاد، وفي حال استجار بدارفور فإن هذا يعني نهاية أي سلطة لهم في الإقليم وعليهم أن يبدأوا رحلة كفاح جديدة هدفها الحصول على رضا قائد قوات الدعم السريع "المتمردة" في دارفور.


وقد انتقلت الحرب من الخرطوم إلى دافور سريعا وتمكنت قوات الدعم السريع من تحقيق انتصارات والاستيلاء على معسكرات للجيش في نيالا والفاشر أكبر المدن في الإقليم، والتي قال الجيش في ذات الوقت إنه استردها. وعلى كل حال من الواضح أن مخطط الدعم السريع بالاستعداد لتصنيفه الجديد "المتمرد" حاضر لدى قياداته، ويملكون له مقومات، بداية من الأرض والانتماء القبلي والحاضنة الإثنية والاجتماعية، وانتهاء بالآلة الحربية التي يتفوق فيها على جميع الحركات المسلحة في دارفور.


ما نحن أمامه الآن هو حرب يصعب تحقيق نصر سريع وحاسم فيها، حرب استنزاف للموارد، وخاصة للجيش والدولة السودانية. ووفق ما يرد في الوسائط الإعلامية، وبعد أن يقول الجيش أو الدعم السريع إنه استولى على منطقة أو معسكر أو مطار يعود ويعلن عن اشتباكات تدور في محيطه، ومنذ أن اندلع القتال لا تزال مستمرة في مطار وقاعدة مدينة مروي، وكذلك حول القيادة المركزية العامة للجيش، وفي معسكرات الدعم السريع في أم درمان وشرق النيل وفي ولايات دارفور. وفي هذه الحالة لا يمكن أن تنتهي سريعا وتحتاج فعليا للتدخل الدولي المؤثر.

AFP
تجمع لمواطنين شرق الخرطوم في ظل استمرار القتال


الجلسة التي عقدتها جامعة الدول العربية لم تحقق شيئا يذكر. وكانت شديدة البرودة لحدث ساخن جدا، وربما ساهم خطاب مندوب السودان خلال الجلسة بقدر كبير في نتائجها، وبالذات عندما طلب قرارا بعدم التدخل في القضية من أي طرف. لذلك تظل المبادرات المؤثرة هي التي تقوم بها دول تملك نفوذا مباشرا على طرفي الحرب.

 

لا يعلم أحد على وجه الدقة لماذا اختار الطرفان الحرب بدلا من التفاوض. وهو سؤال يدور في أذهان السودانيين وسيظل كذلك لوقت طويل

تدخلات المنظمات الإقليمية والأممية، على أهميتها، فإن تجربة السودانيين معها غير مبشرة، إضافة إلى أن ذاكرة العسكريين مشحونة بازدراء هذه المنظمات وتجاهل مناشداتها وقراراتها على حد سواء، وسبقهم في ذلك الرئيس السابق عمر البشير الذي كان يتحداها علنا. 


لا يعلم أحد على وجه الدقة لماذا اختار الطرفان الحرب بدلا من التفاوض. وهو سؤال يدور في أذهان السودانيين وسيظل كذلك لوقت طويل. وعلى الطرفين الاجتهاد في طرح رواية مقنعة للرأي العام الذي كان يراهما في قاعات التفاوض ويسمع تصريحاتهما بالالتزام بالحوار ومخرجاته وأنهما مع التهدئة بأن الحرب كانت خيارا وحيدا، والشارع السوداني لا يرى أن هذه الحرب سوف تحقق له مصلحة وبالذات المرتبطة بالثورة.


في أذهان السودانيين أن الاستدراج للحرب كان خلفه عناصر النظام البائد، لجهة أنها هي من يقاوم بضراوة عودة المسار المدني الديمقراطي، وتلك طريقة باتت متكررة كلما اقتربت الأطراف من الخروج من مأزق الانقلاب، حيث تبرز مواقف أو تقع حوادث تمنع ذلك. وفي هذه المرة كانت الأمور تسير بخطوات ثابتة نحو اتفاق سياسي جديد يتضمن تفكيك ما يعرف بـ"تمكين النظام البائد". لهذه القرينة- التي تضمن أيضا العودة للسلطة- يضعهم الشارع السياسي في خانة المؤججين للحرب والمستفيدين منها.


الحرب الآن في شوارع الخرطوم والمدن الرئيسية.وقد استهدفت مباشرة البنية التحتية في المطارات والمناطق الاستراتجية، ونجم عنها أكثر من 60 قتيلا ومئات الجرحى. وللأسف فإن الأمر مرشح للزيادة، وتكمن المخاوف في دخول النبرات والنعرات العنصرية أو المناطقية، ومعلوم أنها صراعات نائمة يمكن أن تتفجر في أي لحظة، وظروف الحرب هي بيئتها المثلى.


السودان اليوم أمام حرب شاملة يقودها جنرالان يسعى كل منهما إلى إثبات أنه الأقوى وأنه يستحق تسيّد المعادلة السياسية، وفي ذات الوقت تأكد أن مستقبل السودان استراتيجيا يقتضي إبعاد الجيوش عن السياسة لعدم التزامها قواعد السياسة والمسارعة إلى استخدام أدوات وأسلحة الحرب.

 المؤسسة العسكرية استخدمت ورقة شديدة الخطورة غير متحكم في عواقبها، وسيدفع السودانيون فاتورة ذلك لوقت طويل من تماسكهم الداخلي الاجتماعي وسلمهم واقتصادهم  
 

font change

مقالات ذات صلة