"تيك توك" صراع سياسي واقتصادي وثقافي بقالب تكنولوجي

الولايات المتحدة تشهر كل أسلحتها لإخماد نيران التنين الصيني!

نيقولا فيراريس
نيقولا فيراريس

"تيك توك" صراع سياسي واقتصادي وثقافي بقالب تكنولوجي

في أقل من عقد من الزمن، تمكن تطبيق "تيك توك" من أن يتحول إلى قوة ثقافية هيمنت على العالم أجمع، واستقطبت نحو ملياري مستخدم، 150 مليونا منهم في الولايات المتحدة فقط، أي ما يوازي نحو نصف شعبها. وهم شكلوا منصات دفاع ناجحة عن التطبيق، قبل جلسة الاستماع الشهيرة إلى رئيس "تيك توك" التنفيذي، شو زي تشو، أمام مجلس النواب الأميركي الشهر الماضي، وخلالها وما بعدها. يمضي المستخدمون في العالم نحو 95 دقيقة يوميا كمعدل وسطي في تصفح التطبيق، أي ضعف المدة التي يقضونها على "انستغرام" و"سنابشات"، وهي مدة طويلة تصل الى حد الإدمان.

هذا النمو، لم يعجب بالطبع، المسؤولين الأميركيين. إذ لا يمكن لـ"العقل السياسي" هضم مسألة استحواذ التطبيق اجتماعيا وثقافيا على عقول الأميركيين، وتخزين بياناتهم والاطلاع عليها واستغلالها لدرس عادات الأفراد وسلوكياتهم، في ظل معركة مفتوحة مع الصين الساعية الى "نظام عالمي جديد" على كل الجبهات الاقتصادية والسياسية والعسكرية فحسب، فجل تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، الأميركية وغيرها، لها تأثير مماثل وأحيانا أشد وقعا ووقاحة، لكن اضطراب الأميركيين نابع من الجذور الصينية للتطبيق. فهم قلقون من "تجسس" الصين على معلومات حساسة تكتسبها من خلال أدواتها التكنولوجية المتقدمة من جهة، وغير راغبين في مشاهدة نجاح صيني مماثل على أراضيها من جهة أخرى، من دون اعتراضه بشتى الوسائل، خصوصا بعدما قدّر محللو "بلومبيرغ إنتيليجنس" قيمة أعمال "تيك توك" في الولايات المتحدة ما بين 40 و50 مليار دولار، وهي في ازدياد، في وقت يحتدم الصراع بين الدولتين العظميين بدءا بالرقاقات الميكروية وأشباه الموصلات، مرورا بالممرات البحرية الدولية وليس انتهاء بتطورات الذكاء الاصطناعي المرعبة.

في صراع جبابرة التكنولوجيا، يستحوذ "تيك توك" على نحو 2,3 في المئة من سوق الإعلانات الرقمية في العالم، وهو التطبيق الوحيد الذي شهد نموا بين منافسيه في الأشهر الماضية وسط الركود الاقتصادي العالمي، محققا نحو 10 مليارات دولار من عوائد الإعلانات في 2022 بحسب أرقام "فايننشال تايمز".

يمضي مستخدمو "تيك توك" في العالم نحو 95 دقيقة يوميا كمعدل وسطي في تصفح التطبيق، أي ضعف المدة التي يقضونها على "انستغرام" و"سنابشات"، وهي مدة طويلة تصل الى حد الإدمان.

وأجبر نجاح التطبيق منافسيه على إعادة تقييم منتجاتهم. فعمدت "ميتا"، التي تمتلك "فايسبوك" و"انستغرام"، لتحويلهما إلى "محركات اكتشاف"، وأطلقت "ريلز" (Reels)، وهي عبارة عن تثبيت نسخة من مقاطع الفيديو المنشورة على "تيك توك". كما أُطلقت خدمات مماثلة عبر "بنترست" (ووتش تي. في. Watch TV) و"سنابشات" (سبوتلايت Spotlight) و"يوتيوب" (شورتس Shorts) و"نتفليكس" (فاست لافز Fast Laughs). كما استوحت "سبوتيفاي" من نموذج "تيك توك" لتعرض مقاطع فيديو على صفحة التطبيق الرئيسة.   

"المزاج السياسي" الأميركي يؤجج الصراع 

يكفي أن ندرك الوقت القياسي الذي استهلكته الشركة الأم لـ"تيك توك"، أي "بايت دانس"، ومقرها الصين، واستثماراتها في الولايات المتحدة في محاولة لتبديد هذه المخاوف والتزام الشروط والمعايير الأميركية في إدارتها للتطبيق، لنفهم أن "المزاج السياسي" في واشنطن (على عكس الشعبي) لا يتحرك لصالح "تيك توك"، وأن عدم الثقة بالصين ودوافعها وسعي الولايات المتحدة لإبطاء تقدمها التقني السريع، هما المحرك الأساسي لجميع قراراتها.

 فقد أمضت "بايت دانس" أكثر من ثلاث سنوات في التفاوض مع لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، (CFIUS)، التي تعمد الى مراجعة الملفات التي تنطوي على أطراف أجانب بحثا عن تهديدات للأمن القومي. ولم يجر الانتهاء من إعداد مسوّدة لاتفاق بين الطرفين حتى الآن. كما أنفقت الشركة عشرات ملايين الدولارات في بناء وجودها وتوسيعه في واشنطن، واستثمرت أكثر من مليار دولار على "مشروع تكساس" (Project Texas)، لتخزين البيانات عبر شركات أميركية لعزلها عن الصين قدر الإمكان، وتعزيز الرقابة المستقلة والشفافية، هربا من قانون باشرت الحكومة الصينية تطبيقه منذ عام 2017، ويفرض على الشركات الصينية منح الحكومة أي بيانات شخصية ذات صلة بالأمن القومي للبلاد. ووفقا لصحيفة "فاينناشال تايمز"، لدى "تيك توك" خطة مماثلة في أوروبا، أطلق عليها اسم "مشروع كلوفر" (Project Clover)، لتخزين البيانات في ثلاثة مراكز، اثنين في إيرلندا وواحد في النروج.

 على الرغم من ذلك، يواجه تطبيق "تيك توك"، وهو رب عمل لسبعة آلاف موظف في الولايات المتحدة وحدها، خطر الحظر إذا لم تلتزم "بايت دانس" بيع  حصتها لجهة أميركية، من خلال توصية ممكنة للرئيس الأميركي بفرض سحب استثمارات الشركة التي استحوذت بموجبها على تطبيق "ميوزيكالي" (Musical.ly) السابق لـ"تيك توك"، وهو أمر ترفضه الصين تماما.

إحدى أذرع الحزب الشيوعي الصيني؟

ظهرت أولى العقبات حينما اضطرت "بايت دانس" في أواخر العام المنصرم للاعتراف باطلاع بعض موظفيها على بيانات "تيك توك" الخاصة بصحافيين أميركيين من "بازفيد" (Buzzfeed) و"فايننشال تايمز" أثناء محاولتهم تعقب مصدر تقرير تم تسريبه عن الشركة. إلا أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها التجسس على صحافيين. فقد كشفت "فوربس" اتهامات سابقة وجهت إلى كل من "أوبر" و"فايسبوك" بارتكاب أفعال مماثلة على مر السنين، وكذلك بحث "مايكروسوفت" في حساب بريدي لمدوّن فرنسي عام 2012 للتحقيق في تسريب أسرار تجارية له. إلا أن كل هذه الشركات لم تواجه عقوبة الحظر المحتمل في الولايات المتحدة في أي يوم من الأيام، فأيُّ منها لم يكن مملوكا من شركة صينية!

لم يشفع لـ"تيك توك" التنوع الكبير في مجموع مساهمي "بايت دانس"، ومعظمهم مستثمرون عالميون يمتلكون نسبة 60 في المئة من أسهم الشركة، بما في ذلك شركات الاستثمار الأميركية العملاقة، "بلاك روك" و"جنرال أتلانتك" و"سيكويا". ويمتلك موظفو الشركة 20 في المئة من أسهمها، فيما الـ 20 في المئة المتبقية يملكها مؤسس الشركة زانغ ييمنغ، الذي يتحكم في الشركة من طريق امتلاك فئة منفصلة من الأسهم مع حقوق تصويت إضافية، بحسب "فايننشال تايمز".   
علما أن الصين لم تتوان من جهتها عن حظر عدد من التطبيقيات والمواقع الأميركية منذ عام 2009، منها "فايسبوك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" و"تويتر" و"غوغل"، وآلاف غيرها من المواقع "الغربية". إلا أن خطوة مماثلة من الولايات المتحدة لا تبدو سهلة، وستكون سابقة مقلقة لهذا البلد الديموقراطي الذي يرعى الحقوق الدستورية وحرية التعبير، ومن شأن أي حظر للتطبيق غير قائم على معطيات منطقية وحقيقية موثوق بها، أن يفضي الى اهتزاز تلك الصورة. كما يمكن أن يؤدي الحظر إلى رد فعل عنيف من المستثمرين الأميركيين الكبار المالكين لحصة في "تيك توك". 

ستكون سابقة مقلقة للولايات المتحدة البلد الديموقراطي الذي يرعى الحقوق الدستورية وحرية التعبير، إذ من شأن أي حظر للتطبيق غير قائم على معطيات منطقية وحقيقية موثوق بها، أن يفضي الى اهتزاز تلك الصورة. 

تنطلق معارضة الصين لبيع التطبيق إلى شركة أميركية من دفاعها عن مصالح شركاتها بشكل عام وعن جدوى وجودها وازدهارها في بلدان خارج الصين ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا ونيوزيلندا وفرنسا وهولندا والدانمارك وبلجيكا وكندا وغيرها التي أوصت بحظر التطبيق عن الأجهزة الحكومية، في ظل "القمع" والأسلوب العدائي الذي تتعرض له. وحثت هذه البلدان على "احترام اقتصاد السوق" وتوفير بيئة غير قائمة على التمييز بين كل الشركات. 
هذا ما يتفق مع رأي للأستاذ في تنظيم الإنترنت العالمي في جامعة جورج تاون، أنوبام تشاندر، الذي قال: "الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة هو أن الصين قد تستجيب لهذا الحظر"، مردفا أن "أي حظر لـ'تيك توك' يمكن أن يكون مدمرا للتجارة الدولية بمفهومها الحديث". 

وقالت وزارة التجارة الصينية صراحة إن أي بيع يتضمن تصدير التكنولوجيا يجب أن يكون "وفقا للقوانين الصينية"، حيث تعتبر الحكومة الصينية أن بعض التقنيات المتقدمة، بما في ذلك خوارزميات توصية المحتوى، ضرورية لمصلحتها الوطنية. إلا أن الموقف الصيني أعطى ذريعة إضافية للمشرّعين الأميركيين تدعم ادعاءهم بعدم استقلالية "تيك توك" وأنه إحدى أذرع الحكومة الصينية أو الحزب الشيوعي الصيني. 

أمن البيانات من الأمن القومي

باختصار، إنها حرب وجودية، وأم المعارك حاليا، بين قوى عظمى لا يهنأ لها عيش بصعود نفوذ الأخرى. فأمن البيانات بالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس هدفه الأمن القومي بالمعنى السياسي والعسكري فقط، وهي التي تبدي قلقا متعاظما من القدرات الاستخباراتية الهائلة للصين، بل هو خوف من إيديولوجيات وثقافات جديدة تخترق عقول مستخدمي التطبيق من الأميركيين ونمط تفكيرهم في ما يتعلق بالحرية السياسية وحقوق الإنسان، أي بما يتعارض مع القيم التي تروج لها الولايات المتحدة، عدا التلاعب بالصورة التي تعمل أميركا على إبرازها لسياستها الخارجية المهيمنة، صادقة أكانت أم منافقة. كما تصب في جهود الولايات المتحدة لاحتواء توسع الصين التكنولوجي ولا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، في خطوة استباقية للجم سعي بكين للتفوق على الغرب ليس فقط من خلال زيادة اعتمادها على العمالة اليدوية الرخيصة ولكن أيضا على التكنولوجيا والاستثمار.

تفاقم العداء بين القوتين الأميركية والصينية منذ أغسطس/آب الماضي بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان، أكبر مصنع للرقاقات المكروية في العالم، وذلك بعد القيود الشاملة التي فرضتها إدارة بايدن على توفير أشباه الموصلات المتطورة ومعدات صناعة الرقائق للشركات الصينية، مخافة استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتطوير أنظمتها العسكرية، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.

معركة "تيك توك" ليست أول الغيث، لكنها ستشكل نقطة تحول كبرى في العلاقات الأميركية الصينية، والتوازن الاقتصادي بين الطرفين قوامها انعدام الثقة والرعب المتبادل.

تبعها "بالون التجسس" الصيني الذي طاف فوق سماء الولايات المتحدة في فبراير/شباط الماضي قبل أن تسقطه الطائرات الأميركية، وأخيرا، زيارة الرئيس الصيني لموسكو لإضفاء الشرعية على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدما اتهمته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، في تحدٍّ للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي كان قائما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي مرحلة سابقة، كان العداء بلغ ذروته بين الغرب والصين عند الحظر الأميركي والكندي لـ"هواوي" و"زد. تي. إي" (ZTE) بعد ربط الشركتين بعلاقات عميقة مزعومة مع الحكومة الصينية، إلا أن أوروبا حافظت على إدمانها معدات الشبكة الصينية آنذاك. لكن الأمر تغير مع اصطفاف الصين الى جانب روسيا في غزوها لأوكرانيا وميل ألمانيا وهولندا إلى حظر "هواوي" و"زد. تي. إي" من شبكات الجيل الخامس الخاصة بهما.
كما أن واشنطن تشدد القيود على الشركات الصينية التي ترغب في إدراج أسهمها في البورصات الأميركية، وتطالبها بالكشف الكامل عن المعلومات المالية وعمليات التدقيق. إثر ذلك قامت خمس شركات كبرى هي "تشاينا لايف إنشورنس" و"بيترو تشاينا" و"تشاينا بتروليوم" و"ألومينوم كومباني أوف تشاينا" و"سينوباك شنغهاي بيتروكاميكال"، بإلغاء إدراجها في بورصة نيويورك بأمر من بكين، لعدم استعدادها للامتثال لقواعد الولايات المتحدة في شأن شفافية التدقيق.

الواضح أن "تيك توك" صراع سياسي وعسكري بقالب تكنولوجي، كما هو صراع ثقافي وحريات، صراع وجود بين جبارين يسعى كل منهما إلى بسط سيطرته على النظام العالمي. 

معركة "تيك توك" ليست أول الغيث، لكنها ستشكل نقطة تحول كبرى في العلاقات الأميركية الصينية، والتوازن الاقتصادي بين الطرفين قوامها انعدام الثقة والرعب المتبادل.
 

font change