نفق المغرب-اسبانيا حلم يربط قارتين وحضارتين

يمتد تحت البحر الأبيض المتوسط بتكلفة 10 مليارات دولار

إيوان وايت
إيوان وايت

نفق المغرب-اسبانيا حلم يربط قارتين وحضارتين

تستعد الحدود البحرية بين اسبانيا والمغرب لاستقبال نحو ثلاثة ملايين مغربي مقيمين في دول الاتحاد الأوروبي، ومثلهم من السياح الأجانب، الذين سيعبرون الى الضفة الجنوبية من البحر الابيض المتوسط هذا الصيف. انطلقت عمليات التنسيق المسماة "مرحبا" للإعداد اللوجستي المناسب لمئات الرحلات البحرية وعشرات الآلاف من السيارات والحافلات التي ستعبر في الاتجاهين، بدءا من منتصف يونيو/حزيران.

تجني المدن الحدودية مليارات الدولارات من نقل نحو عشرة ملايين مهاجر وسائح يعبرون البحر على مسافة 14 كيلومترا بين أوروبا وأفريقيا، يُطلق عليها "رحلة الصيف والشتاء" كونها تتكرر مرتين في السنة ذهابا وإيابا.

تتزامن عملية "مرحبا" السياحية هذه السنة مع تحسن واضح في العلاقات بين مدريد والرباط، التي توصف حاليا بالاستراتيجية، وهي تطورت لتشمل الترشيح المشترك بين اسبانيا والبرتغال والمغرب للتنافس على احتضان كأس العام لكرة القدم 2030 باسم قارتي أوروبا وأفريقيا، وهذا تحول كبير في مستوى التنسيق السياسي والأمني والتعاون الاقتصادي بين البلدين لم يكن ممكنا قبل عامين. وساعدت الرياضة واحتضان مباريات اسبانية في مدن مغربية في جذب جمهور أوروبي للتعرف الى حضارة جنوب البحر المتوسط.

يبدو أن البلدين أدركا أن ورقة البحر المتوسط خيار استراتيجي في عالم ستحكمه الجغرافيا قبل الاقتصاد.

النفق الحلم: "طريق حرير جديدة"

عاد موضوع إنجاز نفق تحت البحر الأبيض المتوسط يربط اسبانيا بالمغرب، وأوروبا بأفريقيا عبر مضيق جبل طارق، الى الواجهة من جديد، بعد نحو أربعة عقود شهد خلالها محطات من المد والجزر، وفقا لطبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية بين الرباط ومدريد. ولعبت التحولات الإقليمية والدولية دورا في إعادة إحياء المشروع للافادة من التحول الجيو استراتيجي العالمي الجديد، ووضع غرب البحر المتوسط ومدخل المحيط الاطلسي وطريق التجارة بين الشرق والغرب على طاولة الاهتمام العالمي، كطريق حرير جديدة بين الشمال والجنوب. ووعد الاتحاد الأوروبي بالمساهمة في تمويل المشروع، بعدما ظل متحفظا لعقود بسبب ما كان يسميه الصعوبات التقنية وأخطار الهجرة غير الشرعية.

في ظل التهافت الدولي على خيرات أفريقيا، أصبح مشروع الربط القاري ورقة كبرى بيد اسبانيا قد تنافس بها فرنسا وروسيا والصين في الوقت المناسب. 

الحقيقة أن الموقع البحري المتميز لمكان بناء النفق، جعل أوروبا أكثر اهتماما من أي وقت مضى بهذا المشروع الضخم،  كنوع من التواصل السريع الجديد مع القارة السمراء، ومنافسة زحف التنين الصيني والدب الروسي القادمين من آسيا. فالنفق البحري في النهاية هو مشروع قديم لربط قارتين، يجمع بينهما كثير من التواصل الاقتصادي والثقافي، لكن أيضا كثير من التنافر وسوء الفهم، والخلاف التاريخي والجغرافي ومخلفات الاستعمار، الذي يستفيد منه المانحون الجدد. وفي ظل التهافت الدولي على خيرات  أفريقيا، أصبح مشروع الربط القاري ورقة  كبرى بيد اسبانيا قد تنافس بها فرنسا وروسيا والصين في الوقت المناسب. 

لكن مدريد ليست وحدها المعنية بالنفق، فقد سبق لبريطانيا في فترة الخلاف الاسباني-المغربي بين عامي 2020 و2021، أن اقترحت على الرباط إنشاء نفق تحت البحر  يربط بين صخرة جبل طارق التابعة للتاج البريطاني، ومدينة طنجة المغربية في الضفة الجنوبية.

 في هذه البقعة الضيقة بين القارتين، هناك ثلاث سيادات، مغربية واسبانية وبريطانية، تستدعي تأمين توافق سياسي بينها لبناء أي نفق، خاصة أن اسبانيا تطالب باستعادة السيادة على جبل طارق، بينما يطالب المغرب من جهته باستعادة مدينتي سبتة ومليلية اللتين تحتلهما اسبانيا في أقصى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط داخل التراب المغربي. وتعتبر هذه المدن الثلاث: صخرة جبل طارق وسبته ومليلية، من مخلفات سقوط دولة الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر.

التعاون الثلاثي

ساعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتقاربها مع المغرب، وأيضا التحولات الإقليمية والدولية، في حصول انفراج في العلاقات الاسبانية المغربية، طالما أن الجميع سيستفيد من أجواء الثقة المتبادلة، ومن المشاريع الاقتصادية التي قد تمتد آثارها داخل القارة الأوروبية، وتساهم في تسريع التنمية داخل القارة الأفريقية. وفي عام 2019 وقعت كل من المملكة المتحدة والمملكة المغربية اتفاقية شراكة استراتيجية تشمل تحرير التجارة والمبادلات وتعميق العلاقات الاقتصادية، وتسهيل الاستثمارات من الجانبين، وتطوير التعاون الأمني، والتنمية البشرية، وإشاعة الثقافة الانكليزية في المغرب. وكان البلدان وقعا اتفاقية تعاون استراتيجي عام 2018 بعد الـ"بريكسيت". وقال مسؤولون إن الرباط تحرص على تطوير علاقاتها مع بريطانيا واسبانيا معا والافادة من الموقع الجغرافي على مدخل التجارة العالمية بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط الذي تجتمع فيه الدول الثلاث، في وقت تشهد فيه العلاقات مع  فرنسا "برودة" سياسية وثقافية بسبب تقارب باريس مع الجزائر التي تتنافس مع المغرب على الريادة الإقليمية والقارية. وتلعب صورة فرنسا "السيئة" داخل المجتمعات الأفريقية دورا في تحسين صورة اسبانيا وبريطانيا وألمانيا في القارة السمراء.

الرباط تحرص على تطوير علاقاتها مع بريطانيا واسبانيا معا والافادة من الموقع الجغرافي على مدخل التجارة العالمية بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط الذي تجتمع فيه الدول الثلاث.

إحياء الحلم القديم

في مطلع فبراير/شباط الماضي، ولمناسبة اجتماع اللجنة العليا المغربية-الاسبانية في الرباط، الذي شارك فيه نحو 24 وزيرا من البلدين، أعلن رئيسا الحكومتين، بيدرو سانشيز وعزيز أخنوش تأكيدهما التوصل إلى إتفاق لإحياء مشروع تشييد نفق تحت البحر يربط بين البلدين، وأن هذا المشروع سوف يفتح آفاقا واسعة لمشاريع أخرى، تكون رافعة لبناء مستقبل مشترك، وثورة حقيقية على جميع  المستويات. ورصدت  الموازنة الاسبانية للسنة الجارية تمويلات لتحديث الدراسات الهندسية والتقنية لترسيم خط مرور النفق وعمقه البحري، الذي تشرف عليه الشركة الاسبانية لدراسة الربط الثابت لمضيق جبل طارق، "سيسيغسا" (Secegsa)، ونظيرتها الشركة المغربية لدراسة مضيق جبل طارق، "سناد" (Sned). ودخلت ألمانيا على خط مشروع النفق البحري بعد تكليف الشركة الألمانية لبناء الأنفاق "هيغنكنيشت" (Herrenknecht)، المصنعة لآليات الحفر البحري، إعداد دليل جديد حول الحاجات التقنية لانجاز مثل هذه الأنفاق البحرية في عمق يتجاوز 300 متر، وقد يصل إلى 470 مترا تحت سطح البحر، في تلاقي مياه البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وسرعة رياح تتجاوز 120 كلم في الساعة في موسم الشتاء. تتلاقى في هذه المنطقة البرية صفيحتان تكتونيتان بين أفريقيا ويورواسيا (the Eurasian tectonic plates)، مما يجعلها عرضة لاهتزازات أرضية. ويقع مشروع النفق داخل خط بحري يمتد بين جزر "الأزور" في وسط المحيط الاطلسي ومضيق  صخرة جبل طارق في المدخل الشرقي للبحر المتوسط. وساعدت الدراسات التي أعدها المعهد السويسري "إي. تي. أتش. زوريخ" عن طريقة إنجاز النفق، وشملت الجوانب الهندسية والجيولوجية والطوبوغرافية، في تقدم التصور حول تفاصيل المشروع وجزئياته، باعتباره أول نفق في التاريخ يربط بين قارتين.

الحلم المشترك لملكين

 تعود  فكرة ربط القارتين بحريا الى لقاء جمع الملكين العاهل الراحل الحسن الثاني وخوان كارلوس خلال قمة جمعتهما في فاس عام 1979، ناقشا خلالها إمكان بناء ربط قاري بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط يصل أوروبا بأفريقيا. وظل الحلم قائما لسنوات طويلة على الرغم من فترات الجفاء السياسي التي كانت تعتري العلاقات بين البلدين لأسباب مختلفة. وفي العام المنصرم، وخلال فترة الأزمة بين البلدين، تدخل الملكان محمد السادس وفيليبي السادس لتحسين العلاقات بين حكومتي مدريد والرباط، وإحياء المشاريع الإستراتيجية بين المملكتين، على اعتبار أن كل طرف سيحصل على منافع اقتصادية وسياحية وتجارية ومالية من إنجاز هذه المشاريع على الرغم من كلفتها الباهظة. ويتوقع المعنيون أن تنطلق أعمال بناء النفق قبل العام 2030 باستكمال كل عناصر النجاح، وسيكون فتحا علميا لأجيال مقبلة من الأنفاق تحت البحار والجبال والبحيرات.

نفق لا جسر

حتى عام 1990، كانت الفكرة السائدة هي دراسة إمكان إنشاء جسر معلّق فوق البحر الأبيض المتوسط، بين طنجة وطريفة على مسافة أقل من 20 كيلومترا فوق البحر، على ارتفاع يسمح بمرور السفن والبواخر العابرة للقارات، على غرار جسور مماثلة أشهرها، الجسر الذهبي في خليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا. لكن بناء جسر معلق بارتفاع 900 متر فوق البحر في منطقة رياح عاتية أمر معقد تقنيا. ومع توالي الدراسات الجيولوجية والفيزيائية وتشييد أنفاق عدة تحت البحر مثل نفق قناة المانش بين فرنسا وبريطانيا بطول 50 كيلومترا منها 37 كيلومترا تحت البحر، وايضا نفق "سيكان" الذي يربط بين جزيرتي هونشو وهوكايدو في اليابان بمسافة 53 كيلومترا، منها 23 كيلومترا تحت البحر، تم استبدال فكرة الجسر بالنفق بسبب أخطار كبيرة متأتية من هبوب رياح عاتية في فترات عدة من السنة، في  مداخل مضيق جبل طارق الذي يصل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتعبره سنويا أكثر من 100 ألف سفينة عابرة للقارات تمثل ربع التجارة العالمية.

ينتظر أن يعبر النفق نحو 13 مليون شخص سنويا في المرحلة الأولى، ونحو 13 مليون طن من السلع المحمولة عبر قطارات الشحن، وتقدر كلفة المشروع بحسب دراسة عام 2018 بنحو 10 مليارات دولار قابلة للارتفاع. 

وتشير أحدث الدراسات التي أنجزتها الشركة الاسبانية لدراسات الاتصال الثابت عبر مضيق جبل طارق إلى أن مشروع تشييد النفق البحري سينطلق من نقطة "بونتا بالوما" في مدينة طريفة في الضفة الشمالية، وصولا إلى خليج طنجة في منطقة مالاباطا في الضفة الجنوبية بطول 38,5 كيلومترا، منها 28 كيلومترا تحت البحر، على عمق أقصى قد يصل إلى 475 مترا. ولا تبعد أقرب مسافة بين اسبانيا والمغرب أكثر من 14 كيلومترا، مما يسمح برؤية الضفتين. وسيمتد النفق البحري تحت الأرض داخل اليابسة نحو 11 كيلومترا في الاتجاهين، وصولا إلى محطات القطارات الفائقة السرعة التي تربط طنجة بالعاصمة الرباط في ساعة و10 دقائق، والدار البيضاء في ساعتين وربع ساعة، وتصل مراكش على مسافة 500 كيلومتر. وبحسب الدراسة، يمتد النفق داخل الأراضي الاسبانية ويرتبط بالقطارات السريعة المتجهة إلى العاصمة مدريد ومنها إلى برشلونة وباريس. ويشمل النفق تحت البحر ثلاثة مسارات، منها مساران للسكك الحديد في الاتجاهين، مع محطة موازية للخدمات التقنية والطوارئ على الرصيف تحت البحر. وينتظر أن يعبر النفق نحو 13 مليون شخص سنويا في المرحلة الأولى، ونحو 13 مليون طن من السلع المحمولة عبر قطارات الشحن. وتقدر كلفة المشروع  بحسب دراسة عام 2018 نحو 10 مليارات دولار قابلة للارتفاع، وفقا لنوعية التجهيزات وصلابة الأرض. 

وقال  المهندس الاسباني، كلاوديو أولالا، الذي عمل مستشارا حكوميا للمشروع، وهو أستاذ في جامعة مدريد، "إن ربط النفق البحري بشبكة القطارات السريعة في اسبانيا والمغرب، سيكون حافزا قويا لتطوير التجارة والسياحة بين القارتين الأوروبية والأفريقية، وعنصرا مساعدا على تقوية الشراكة الاقتصادية بين  الطرفين". وتقدّر التجارة البينية بين المغرب واسبانيا بنحو 19 مليار يورو في عام 2022 منها 11 مليار يورو صادرات اسبانية ونحو 8 مليارات يورو صادرات مغربية، وهي تمثل نصف تجارة مدريد مع مجموع القارة الأفريقية.

النفق  البحري رهان اسبانيا على أفريقيا

بناء نفق تحت البحر هو جزء من مشروع ضخم تسعى اسبانيا من خلاله إلى مزاحمة أطراف دوليين في منافع اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (ZLECAF) التي وقعتها وصادقت عليها حتى الآن 44 دولة لتطوير التجارة البينية المقدرة قيمتها بـ 3,5 تريليونات دولار.

يحتاج بلوغ هذه الأرقام إلى تطوير شبكة النقل البري خاصة القطارات السريعة وشبكة المواصلات الأرضية  من البحر الأبيض المتوسط إلى  ساحل العاج ثم إلى نيجيريا والغابون والكونغو في أدغال أفريقيا. وتقدم الصين تسهيلات في مجال البنى التحتية للدول الأفريقية الفقيرة في مقابل ضمانات. وتاليا، لا تنظر الدول الأوروبية بعين الرضا إلى فقدان أسواق ومواد أولية ضرورية للمنافسة الصناعية المستقبلية، التي توجد حصريا في أفريقيا.

 وكانت مراكش قد استضافت في مطلع مارس/آذار الماضي المؤتمر العالمي الحادي عشر للقطار السريع، بمشاركة عشرات الشركات العالمية المتخصصة في تصنيع القطارات الفائقة السرعة، صينية وفرنسية وألمانية ويابانية وأميركية وكورية واسبانية وايطالية، تمهيدا لإعلان مناقصة عالمية لمد شبكة جديدة من القطارات الفائقة السرعة بين الدار البيضاء ومراكش وأغادير، بتكلفة تتجاوز 50 مليار درهم (نحو خمسة مليارات دولار)، لتوسيع شبكة هذا النوع من القطارات (الفائق السرعة، 320 كلم ساعة) إلى 800 كلم، ستكون مرتبطة بالنفق البحري، وتمتد جنوبا نحو الصحراء في وقت لاحق، ومنها الى موريتانيا والسنغال وغرب أفريقيا قبل 2040.

عندما يتحقق الحلم 

بعد سنوات غير بعيدة سيكون في إمكان أي مسافر أن يركب قطارا تحت البحر الابيض المتوسط بين أوروبا وأفريقيا في الاتجاهين، في رحلة لا تتجاوز نصف ساعة بعمق 300 متر تحت البحر، غير عابئ بالأمواج العاتية التي تلاطم آلاف السفن المحملة  السلع العابرة مضيق جبل طارق شرقا وغربا. 

font change