غرف الصدى

غرف الصدى

حين تعاظمت الجراح الظاهرة وغير الظاهرة خلال جائحة كوفيد19 وبعدها، بفعل التحولات الاقتصادية والمناخية والصحية والسياسية التي تركت علامات واضحة نالت من الصحة الجسدية والنفسية والمجتمعية والعلاقات بين الدول، برز الإعلام "الجديد" بوصفه ملاذا للحصول على المعلومات والبحث عن حلول أو مشاركتها، وذلك عبر الفضاء المعلوماتي الرقمي الذي يشعر الإنسان أحيانا بالعجز أمام تدفقه الهائل الذي تقوده الخوارزميات، وكأنه قشة في مهبّه لا سلطة له عليه.

تتغذّى وسائل التواصل الاجتماعي على الأحداث الجسيمة مثل التغيرات الاجتماعية والسياسية أو الأزمات العالمية الاقتصادية أو السياسية مثل حرب أوكرانيا أو أحداث السودان الأخيرة، لتجمعها في طبق واحد مع الأحداث "الخالية من الدسم" مثل المنتجات الاستهلاكية أو حتى المحتوى الترفيهي، وتصنع هذه الوسائل محتواها وتتناقله حتى ليتوه المرء في لجة هذا "الأرخبيل المعلوماتي الضخم"، وتتحول الساحات الافتراضية لميدان من الأخذ والرد والصراع والنزاع الذي لا ينتهي، حيث كل طرف يحاول إثبات رأيه ووجهة نظره، أو يتلقى ذلك المحتوى بسلبية وخضوع فتحدث الهيمنة والتجييش والتحزب وفي كثير من الأحيان العنصرية الإلكترونية. فمن يقدم الوجبة للآخر؟ أهي الخوارزميات التي تقودنا، أم أننا نحن الذين نشمّر أيدينا ونتلقف اللقمة دون بسملة؟

غرفة الصدى هي بيئة إلكترونية تخلق التجانس والتشابه في الآراء، ولذلك تُشبه بالقبيلة الجديدة التي تعمل على خلق تجمعات تضخم معتقداتها الموجودة مسبقا عن طريق التفاعل وتكرار التعرض داخل نظام مغلق ومعزول


الطبيعة المائعة للرأي العام لها ضغط لا يرى بوضوح مثل الريح، ومع هذا له ثقل عظيم وأثر كبير تدرك آثاره في قوة هيمنته وقدرته على قلب الوضع الراهن المستأنس والاعتيادي، والذي غالبا ما يكون عاطفيا أو مبنيا على انطباع غير واع أو منظم. والخطاب الإلكتروني من أهم قوى تغيير الرأي العام وقولبته لما يمتلكه من قدرة على الاستقطاب جماهيري والدفع إلى تبني الآراء والمواقف تحت ضغط الكلمة البراقة أو الاستمالة العاطفية، وذلك بسبب سهولة السياق الذي يتشكل من خلاله وميوعته. من أمثلة هذا ما يعرف بغرف الصدى Eco Chambering وهي بيئة إلكترونية تخلق التجانس والتشابه في الآراء، ولذلك تُشبه بالقبيلة الجديدة Neorealism  التي تعمل على خلق تجمعات تضخم معتقداتها الموجودة مسبقا عن طريق التفاعل وتكرار التعرض داخل نظام مغلق ومعزول، ومن هنا كانت تسميتها بـ "غرف الصدى" لأن الرأي يجد صداه عند الأطراف المشاركة وتعمم وجهات النظر والآراء بسرعة البرق وبشكل مقنع مما يؤدي إلى تحيز التأكيد Confirmation bias . هذا الاستقطاب يكمن في شكله الاجتماعي والسياسي والمتطرف إذ أنه يعزز الأيديولوجيات ويفرضها ويعصب أعين المشاركين عن رؤية الآراء الأخرى.

من الإيجابي أن الإنترنت وسّع من تنوع المعلومات التي يمكن الوصول إليها وخلق مناخا أرحب لتعددية النقاش العام، إلا أنه على الجانب السلبي منه، قد يؤدي الوصول الأكبر إلى المعلومات إلى التعرض الانتقائي للقنوات الداعمة أيديولوجيا. فيشعر الأفراد في غرفة الصدى تلك (مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر وغيرها) بثقة أكبر في أن آراءهم مقبولة بشكل أكبر من قبل الآخرين. في حين لا توفر غرف الصدى تلك إلا معلومات محددة للأفراد. ورغم حقيقة أن هناك من يقف خلف هذا التجييش الالكتروني، إلا أن هناك كثرا يقعون ضحية التضليل دون دراية منهم ويصبحون جزءا من غرف الصدى بسبب عوامل خارجة عن سيطرتهم، مثل تجميعهم في غرفة إلكترونية واحدة دون علمهم.

فنحن نسير في عصر ما بعد الحقيقة والأخبار المزيفة بفعل الشبكات المغلقة التي تعزل الفكر الاجتماعي أو تقسمه وتعزز ما تريد تعزيزه بمعزل عن حقيقة ما يحدث في الواقع. وهذا ما تفسره لنا نظرية المعرفة الاجتماعية من خلال مفهومي غرف الصدى والفقاعات المعرفية.

فالفقاعة المعرفية Epistemic Bubble - وهو مصطلح صاغه ناشط الإنترنت إلي برايزر- هي حالة من العزلة الفكرية التي تحدثها الخوارزميات بشكل انتقائي وغير عفوي في الغالب، يُزعم أن المستخدم يرغب في رؤيتها بناء على معلومات حول المستخدم معتمدة على سلوك المستخدم نفسه وجمع بيانات حوله، مثل المواقع التي يزورها وسجل البحث الخاص به. ونتيجة لذلك، ينفصل المستخدمون عن المعلومات التي لا تتفق مع وجهات نظرهم مما يؤدي إلى عزلهم بشكل فعال في فقاعاتهم الثقافية أو الأيديولوجية.

فبينما تشير غرفة الصدى إلى الظاهرة العامة التي يتعرض الأفراد من خلالها للمعلومات من الأفراد ذوي التفكير المشترك، فإن الفقاعات المعرفية تحدثها الخوارزميات التي تختار المحتوى بناء على السلوك السابق عبر الإنترنت.

المؤسف أن أغلب من يقع في هذا الفخ هم من المفكرين والمثقفين والكتاب والذين يوسمون بـ "النخبة" خارج السياق الإلكتروني بينما هم ودون دراية منهم مجرد تابعين فيه


وكما هو الحال في المثل القائل "الطيور على أشكالها تقع"،  فالأفراد يميلون إلى الارتباط والتفاعل مع آخرين يشبهونهم، ففي دراسة حديثة أجراها إيتان باكشي وآخرون على 10.1 مليون مستخدم لفيسبوك صنفوا ليبراليين سياسيا أو معتدلين أو محافظين، تبين أن الغالبية العظمى من أصدقائهم لديهم توجه سياسي مشابه لتوجههم. وفي حين أن كل هذا يدار بواسطة الخوارزميات فيستدعي منا التنبه لهذه الممارسات الفردية المتطرفه التي تملأ الفضاء الإلكتروني نتيجة "التعبئة الخوارزمية" والمؤسف أن أغلب من يقع في هذا الفخ هم من المفكرين والمثقفين والكتاب والذين يوسمون بـ "النخبة" خارج السياق الإلكتروني بينما هم ودون دراية منهم مجرد تابعين فيه بسبب انهيار السياق الإلكتروني.

إن عدم إدراك المستخدم لدوره تتطلب من القائمين على سن القوانين إجراء بحوث معمقة والخروج بتوصيات غير متشنجة تحفز العمل الاجتماعي التوعوي المشترك لفهم هذه الممارسات ومعالجتها بموضوعية، بدلا من إلقاء اللوم على الإعلام الجديد وتحميل الناس مسؤولية الضرر المستقبلي ولمنع حدوثه وتحويل مجتمعاتنا من خلال المعرفة إلى عالم مترابط لا يتلقى الصدى فقط، إنما يكون صوته مسموعا وأذنه منفتحة على قضايا الآخرين ورؤاهم.

font change
مقالات ذات صلة