تركيا.. أردوغان.. واستعصاء الشمولية

ليس في التجربة التركية أية قيمة مضافة لأردوغان، الجامح لتحقيق كل هو معاكس لها

تركيا.. أردوغان.. واستعصاء الشمولية

خلال سنوات حكمه المديدة، لم يمتلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مجرد ميول أو رغبات بالبقاء "مدى الحياة" في السلطة، وتأسيس نظام سياسي قائم على نموذج "الحزب الواحد"، بل نفذ مجموعة ضخمة من الإجراءات وتبنى سياسات وقرارات قد تؤدي في مجملها إلى تحقيق ذلك، كتغيير الدستور وإصدار تشريعات منافية للقيم الديمقراطية والحريات العامة والاستيلاء على استقلالية كثير من المؤسسات، مثل القضاء والبنك المركزي والهيئات التعليمية، واعتقل الآلاف من مناهضيه السياسيين والثقافيين والاقتصاديين والإعلاميين، وخلق دائرة من الاقتصاديين المقربين لعائلتهم وقيادات حزبه... إلخ. لكنه لم يتمكن في المحصلة من "إنجاز مراده".

ولم يتمكن الرئيس أردوغان من تحقيق خبيئة نفسه، بدلالة الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد أيام قليلة، المُعتبرة انتخابات ديمقراطية، حسب أعلى المعايير التقليدية للنُظم الديمقراطية؛ فهناك مرشحان من تحالفين سياسيين متصارعين، يملك كل واحد منهما برنامجاً وخطاباً سياسياً مناهضاً للآخر، ينفذان حملتيهما الانتخابيتين بكل حرية، ويملكان حظوظاً شبه متساوية في إمكان الفوز في هذه الانتخابات، فيما أجهزة الدولة ومؤسساتها حيادية إزاء ما يجري، والهيئة القضائية العليا هي التي تشرف على كافة التفاصيل وتتحكم بها.

ليس في هذه التجربة أية قيمة مضافة لأردوغان نفسه، الجامح لتحقيق كل هو معاكس لها، بل هي ميزة للنظام السياسي وبنية مواثيق ومؤسسات الدولة التركية، ومعها طبيعة النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وإلى جانبها هندسة الحياة العامة وقوة حضور القوى السياسية في المجتمع، إضافة إلى شكل الاقتصاد والتقاليد الديمقراطية الممتدة لأكثر من قرن من الزمن.

تحدث هذه التجربة في تركيا، في وقتٍ يتداعى فيه كثير من مقومات الديمقراطية في دول مثل لبنان وتونس والعراق، وتفشل مجتمعات ودول أخرى في منطقتنا في تأسيس أي شيء من القيم والممارسات والتقاليد الديمقراطية، تحديداً البلدان التي شهدت ثورات شعبية مناهضة لأنظمة الحكم الشمولي خلال العقد المنصرم.

بناء على هذه الثنائية، وما تتضمنه من دلالات ومؤشرات، فإن التجربة التركية، بكبواتها وأشكال قصورها الكثيرة، تعود مرة أخرى لتكون نموذجاً، على مستوى الممارسة والتفكير على السواء، لتشييد أركان الديمقراطية الثابتة، أو خلق مناعة مستدامة تجاه الشمولية، كحدٍ أدنى.

يمكن سرد مجموعة واسعة من الأدلة على البنى التي شكلت عضد التجربة التركية، ليس في تجارب البلدان الأخرى من منطقتنا أي منها، أو ثمة أشكال مشوهة وغير حقيقية منها.

تحدث هذه التجربة في تركيا، في وقتٍ يتداعى فيه كثير من مقومات الديمقراطية في دول مثل لبنان وتونس والعراق، وتفشل مجتمعات ودول أخرى في منطقتنا في تأسيس أي شيء من القيم والممارسات والتقاليد الديمقراطية

يأتي "الخيار التأسيسي" للنظام السياسي في تركيا على رأس تلك البنى؛ فالزعيم المؤسس للتجربة السياسية التركية مصطفى كمال أتاتورك، وأعضاء النخبة العسكرية/ المدنية المحيطين به، كانوا حاسمين في إدراج "تركيا الحديثة" ضمن المنظومة السياسية الغربية، وفعلوا كل شيء كي لا تخرج تركيا من ذلك الفضاء، بالذات من خلال إيجاد قداسة مطلقة حول المقدمة االثلاثية المُعرّفة بالكيان التركي، المحفورة بوضوح في أول سطر من مختلف الدساتير التركية التي تراكمت منذ تأسيس الجمهورية وحتى الآن، المتمثلة في "الجمهورية– العلمانية- الديمقراطية". 


لم يكن التعريف الأولي والدائم لطبيعة الكيان في تركيا مجرد نص احتفالي، كما في تجارب أخرى، بل أداة لصبغ مختلف مؤسسات ومواثيق وأجهزة وأدوات قوة الدولة بها، من الجيش ومؤسسات التعليم، مروراً بالإعلام والتحالفات الإقليمية والدولية، وصولاً إلى موقع الدولة من المجتمع والقوانين المدنية وتشكيل الهيئات المستقلة. لذلك سارت تركيا دائما ضمن الفضاء الكلي لهذه الحداثة السياسية الغربية.

وفي مستوى رديف لذلك، بقي الجيش صاحب دور مركزي في الحفاظ على الكثير من ذلك. صحيح، قام الجيش التركي بكثير من الانقلابات، وكان على الدوام يقود شبكة من التنظيمات السرية المبهمة، التي كانت تؤدي دور "الدولة العميقة"، ولا تزال، وإن بوتائر أقل. كذلك تصرف في مرات لا تُعد كقوة عدوانية تجاه السكان المحليين، الأكراد والعلويين بالذات. لكنه، ومع كل ذلك، قام بأدوار جوهرية في سياق حفظ الممارسة الديمقراطية ضمن الدولة التركية، بكونها أداة قوة للدولة التركية، حسب الوعي العسكري الذي كان يتملك نُخبة الجيش على الدوام. 


فالجيش في تركيا مثلاً منع عودة الإسلام السياسي بشكل ثيوقراطي كما في إيران، أو الآيديولوجي المغلف، كما في كثير من تجارب حركات الإخوان المسلمين. والجيش التركي حافظ على ذاته كمؤسسة عمومية، لها أعرافها وأشكال تنظيمها ومسؤولياتها، ولم يخضع يوماً لحُكم جنرال واحد مثلاً.

فحتى في الشهور الأولى لوقوع أي انقلاب عسكري، كان قادة الجيش يعلنون التزامهم الثابت بالعودة القريبة إلى الحياة المدنية/الديمقراطية، وفعلوا. كذلك كان الجيش الأداة المُطبقة والحارسة لمضامين الدستور، الثلاثية التعريفية تحديداً. مع تلك الأمور كلها، فإن الجيش كان الصمام المانع لأي تيار سياسي لأن يتحول إلى الحزب المهيمن على الحياة السياسية في البلاد.  
 

لم يكن التعريف الأولي والدائم لطبيعة الكيان في تركيا مجرد نص احتفالي، كما في تجارب أخرى، بل أداة لصبغ مختلف مؤسسات ومواثيق وأجهزة وأدوات قوة الدولة بها

إلى جانب الأمرين، شغل الاقتصاد التركي دوراً ريادياً في ذلك السياق، تحديدا بعد تحوله من اقتصاد زراعي تقليدي، إلى اقتصاد متنوع وإنتاجي ومندمج في الكل العالمي، من أوائل الخمسينات من القرن المنصرم، عبر سياسات الانفتاح الشهيرة التي مارسها رئيس الوزراء الشهير عدنان مندريس. 


فالاقتصاد في تركيا، وعبر شبكات واتحادات رجال الأعمال، المنخرطين في الاقتصاد العالمي، خلق بطريقة غير مباشرة ربطاً محكماً بين التنمية الاقتصادية وسلامة الحياة السياسية في البلاد، المتمثلة في القيم والممارسات الديمقراطية.
 

font change