مرايا الخراب

مرايا الخراب

1

في رده على منشور مرفق بالفيديو على موقع "فيسبوك"، علق الشاعر السوداني محجوب كبلو بما معناه "هؤلاء المعدمين، لا تقسُ عليهم". تعليق كبلو اللطيف كان على نص المنشور الغاضب على ما ينقله مقطع الفيديو القصير، الذي كان يوثق لإحدى عمليات السرقة التي اجتاحت أسواق الخرطوم بعد نشوب الحرب المدمرة المتمركزة في العاصمة السودانية ذات الكثافة السكانية الأعلى بين ولايات البلاد المختلفة.

كان المشهد كالتالي: مجموعة صغيرة من النساء وبعض الشباب والأطفال، يهرولون في ساحة سوق ما وعلى أكتافهم وبين أيديهم أكياس وصناديق كرتونية وقوارير من الواضح أنها تحتوي على مواد غذائية. يرافق ذلك أصوات دوي الرصاص والقصف الذي يسمع في فضاء المكان المزدحم بالأدخنة الناتجة عن احتراق السوق. أغلب التعليقات – إضافة إلى صاحب المنشور – دان الفعل وشتم "السارقين والسارقات" بأقذع الشتائم، ووصل الحال ببعضهم أن أدعى أن هؤلاء بلا شك ليسوا سودانيين مردّدين مآثر ملائكية متخيلة عن شعب السودان نادر الوجود. لكن لماذا أرفق الشاعر المرهف كبلو ذلك التعليق اللطيف طالبا الترفق بـ "اللصوص" بعد أن وصفهم بالمعدمين؟

إبان أزمة جائحة كورونا في 2020 أعلنت ولاية الخرطوم حالة الطوارئ العامة، وأغلقت العاصمة بشكل كامل لأكثر من ثلاثة أشهر، التزم خلالها جميع سكان الخرطوم منازلهم. توقف الكثير من الأعمال وواجه الكثير من الأسر أوضاعا معيشية صعبة، لكنها بالتعاضد الأسري، المستند على التجذر المكاني المنشبك في بنية الدولة، استطاعت أن تتغلب على الأزمة العابرة وواصلت حياتها مع القليل من المعاناة والمشقة، بيد أن المعدمين كانوا في شأن آخر، أمر وأقسى!

ها هم مرة أخرى يواجهون إغلاقا إجباريا لكنه يأتي هذه المرة في ظرف وحال مختلفين. فالسلطة التي كانت تحرمهم من كل شيء وتقمعهم بالقوة ليقبعوا إجبارا في مكانهم، تتصارع الآن متفجرة بالدماء، وتجرهم جرا إلى ولوج ساحات النزاع والاقتتال

2

بعد انقضاء فترة الإغلاق التام التقيت امرأة أعرفها من قاطني أطراف المدينة، من أولئك النسوة اللائي اضطرتهن محن الحياة وتقلباتها للعمل في البيوت. أصبت بالذهول وأنا أراها أمامي، فقد تحولت إلى ما يشبه الهيكل العظمي، عيناها مبيضتان وابتسامتها شاحبة وارتعاشة خفيفة تهفهف أنامل يديها. حرفيا – قالت المرأة – أنهم كابدوا الجوع خلال الأشهر الثلاثة التي أغلقت فيها المدينة وحرموا خلالها من "تلقيط" رزق كلّ يوم بيومه. تلك المرأة بلا شك كانت من المعدمين، أو هي أم المعدمين الذين عناهم الشاعر المرهف، وها هم مرة أخرى يواجهون إغلاقا إجباريا لكنه يأتي هذه المرة في ظرف وحال مختلفين. فالسلطة التي كانت تحرمهم من كل شيء وتقمعهم بالقوة ليقبعوا إجبارا في مكانهم، تتصارع الآن متفجرة بالدماء، وتجرهم جرا إلى ولوج ساحات النزاع والاقتتال وإن كان ذلك بهدف السرقة والنهب وكنس كلّ شيء.  

 هذه الكتابة تدعو إلى إعادة النظر في المرآة. أن نعيد قراءة الأزمة السودانية الشاملة من كافة زواياها، أن نترجم أحد انصع شعارات ثورة سبتمبر/ أيلول المجيدة (حرية، سلام وعدالة) إلى "مانيفستو" يؤسس لسودان ما بعد هذه المقتلة


3

في أواخر سنوات الرئيس المخلوع عمر البشير، انتشرت فجأة عصابات تروع المواطنين أطلق عليها اسم "النيقرز"، وبعيدا عن الدلالة العنصرية للاسم، ستلحظ المفارقة المحزنة للترميز المخبوء بالمعنى، في بلد سكانها من السود، وهي نفسها يطلق عليها السودان، إلا أن اللون في هذه البلاد يشكل دالا تحقيريا يضرب بعمق في الثقافة المحلية، فكلما تطرف (سوادا أو بياضا) أوقع حامله في شرك العنصرية والنبذ والاحتقار. إذن، في عهد البشير تكثفت حملات تلك العصابات وارتبط انتشارها بشكل وثيق بالانتفاضات المتتالية التي شهدتها سنوات ما قبل السقوط، فكلما خرج السودانيون في مظاهرات احجاجية منددة بالنظام الفاسد خرجت العصابات لتنشر الذعر في الأحياء والأسواق والطرقات، في تعالق شرطي مريب يؤكد ارتباطها المريب بالجهات الأمنية في تلك الفترة.

كيف تكونت هذه العصابات ومن أين جاء أفرادها وكيف يحيون بعيداً عن ساعات الانفلات المقصودة؟ تلك أسئلة لا أظنها شغلت بال السياسيين أو المثقفين كثيرا، فبمجرد إخماد التظاهرات والاحتجاجات أو خفوتها تختفي العصابات ويخفت صوتها المرعب ولا يدري أحد إلى أين ينسحب أفرادها من الشباب صغار السن ممن لقبهم الإعلام الرسمي بـ "النيقرز".

خلال يوم واحد (اليوم 27 من الحرب)، تمكنت هذه العصابات من نهب أكثر عشرة مصارف انتشارا في أحد أكبر وأغنى الأسواق في مدينة أمدرمان وهو سوق ليبيا. نعم، كل من شهد الواقعة والأحداث المشابهة لها، أكد أن أفرادا مسلحين يتبعون قوات الدعم السريع هم من بدأوا عمليات النهب، يقتحمون البنك ويكسرون خزنه ويأخذون نصيبهم ويتركونه هكذا مفتوح الأبواب تتنازع أمواله الأيدي السارقة، وبالطبع الغلبة ستكون للعصابات المنظمة الشرسة، أي العصابات القديمة الملقبة بـ "النيقرز".

لو عنّ لأحد التساؤل من أين يأتي "النيقرز"؟ ولماذا هم "نيقرز" (عصابات)؟ لكانت الإجابة ببساطة: من الحروب!

وقبل سنوات أيضا وخلال حكم المخلوع البشير، حذر أحد المفكرين الإسلاميين مما أسماه الحزام الأسود الذي يطوق الخرطوم. وكان يقصد بذلك العشوائيات وبيوت الصفيح التي تأخذ شكلا شبه دائري حول العاصمة بمدنها الثلاث، الخرطوم وأمدرمان وبحري. ممَ كان يخاف ذلك المفكر؟ ولماذا يخاف رجل أسود من رجل أسود ويتحدث عنه كأنه وحش سيداهم مأمنه في يوم ما ويقضي على كل شيء. وهل تضمنت صرخة الرجل التحذيرية توضيحاً حول "من أين جاء هؤلاء"؟ أم هي صرخة عنصرية متعالية تنادي أصحاب الامتيازات التاريخية للدفاع عن امتيازاتهم المتوارثة من عهد دولة الاستعمار أمام جحافل الهامش التي هجرت من مواطنها مجبرة بسبب الحروب والفقر والجوع لتأتي إلى عاصمة البلاد وتواجه اضهادا وافقارا من نوع آخر قاس ومهين يضعك في مواجهة يومية تبين لك الفوراق مع من يسكنون في قلب المدينة الذي بتّ تطوقه بحزامك الأسود!

في أيام السلم، الأيام الضائعة والمشتهاة، أيام سكان الخرطوم الفريدة البهيحة، عند الوقت الذي يذهب فيها التلاميذ الصغار إلى مدارسهم مبكراً، ستصادف في الشوارع أطفالا وصبيانا في السن الدراسية ذاتها، متحركين راجلين أو على ظهر عربة صغيرة يجرها حمار هزيل. ينتشرون بسرعة في الساعات الباكرة بين براميل النفايات، ينقبون عن القوارير وأدوات البلاستيك وأشياء أخرى يعلمونها هم فقط، يسابقون عربات النفايات، يسرقون الوقت وينتزعون أرزاقهم انتزاعاً من بقايا قاطني البيوت المرفهة في قلب المدينة. ما مصير هؤلاء وأي درب يسلكون كلما تقدم العمر، وهل من بينهم من ينزلق ليلتحق بالعصابات؟

من المشاهد المؤلمة -مثلما ذكر صديقي – أن ترى سيارة جديدة متوقفة أمام أحد المحال، إذ يبدو أن صاحبها ركنها هناك على أمل أن يعود إليها في اليوم الثاني، إلا أن الحرب اشتعلت ولم تسعفه لسحبها. المؤلم يقول صديقي، أن أفراد العصابات بعد أن سرقوا المحال وخربوا كل شيء بداخلها اتجهوا إلى مثل هذه السيارة حطموها وأشعلوا فيها النيران وتحلقوا حولها محتفلين، ماذا يضيرهم لو تركوها ومضوا، فهم قد نهبوا وسرقوا واكتفوا؟ يتساءل صديقي، وأقول لنفسي "الحقد عاطفة ثورية" ولا أذكر أين قرأت هذا الكلام.

هذه الكتابة لا تحتفي باللصوص وأفراد العضابات المتفلتة، بل تدين السرقة والنهب وكل أشكال الجريمة. لكنها تدعو إلى إعادة النظر في المرآة. أن نعيد قراءة الأزمة السودانية الشاملة من كافة زواياها، أن نترجم أحد انصع شعارات ثورة سبتمبر/ أيلول المجيدة (حرية، سلام وعدالة) إلى "مانيفستو" يؤسس لسودان ما بعد هذه المقتلة.

 هل ستتوقف الحرب؟

نعم وإن طال خرابها وتلظى بنيران حريقها الجميع، من يطوقهم الحزام المزعوم أو من يتشكل من وجودهم الشبحي في تداع مؤلم.

قال الشاعر محجوب شريف يوماً:

"مكان السجن مستشفى

مكان المنفى كلية

مكان الأسرى وردية

مكان الحسرة أغنية

مكان الطلقة عصفورة

تحلق حول نافورة

تمازج شفّع الروضة

حنبنيهو

البنلحم بيهو يوماتي".

 

        

font change