التطبيع مع سوريا في ضوء نظام أمني عربي جديد

هل ستنجح المنطقة العربية في تشكيل إطار أمني منظم محلياً في مرحلة ما بعد السلام الأميركي؟

Getty Images
Getty Images
جنود أميركيون يصعدون الى مروحيتهم في شمال شرقي سوريا

التطبيع مع سوريا في ضوء نظام أمني عربي جديد

يمثّل قرار وزراء الخارجية العرب المتخذ في القاهرة بتاريخ 7 مايو/أيار، إنهاء تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية بعد اثني عشر عاماً، نقطة تحوّل في منهجية متوترة اعتمدت سابقاً حيال أزمات شابت العلاقات بين الدول العربية.

لقد سبق للجامعة أن اتّخذت في مؤتمرها الاستثنائي الذي عقد في بغداد (من 27 حتى 31 مارس/آذار 1979) قراراً بقطع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع مصر وتعليق عضويتها في الجامعة بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل يوم 26 مارس/آذار 1979 ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، لتعود مصر وتستأنف عضويتها يوم 26 مايو/أيار 1989.

وبالمنهجية عينها عجزت الجامعة في جلستها التي عقدت يوم 2 أغسطس/آب 1990 عن اتّخاذ قرار موحّد حيال غزو الجيش العراقي للكويت، فقد أعلن الأردن واليمن رسمياً تأييدهما للعراق فيما تحفظت الجزائر وتونس ومنظمة التحرير الفلسطينية وموريتانيا والسودان وليبيا، وساند الكويت كل من السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعمان ومصر وسوريا والمغرب.

قرار وزراء الخارجية العرب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية أتى بمثابة تتويج للقاءات وإجراءات شملت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة وسلطنة عمان والأردن والجزائر وتونس. لقد اعتمدت الجامعة العربية هذه المرة منهجية تجريبية مرنة وضعت أمام الرئيس بشار الأسد خيار التطبيع بدلاً من خيار العقوبات كسبيل لتغيير سلوكه الإقليمي. وفي هذا السياق تندرج سياسية "الخطوة مقابل خطوة" التي أُعلنت في البيان الختامي الاستثنائي لاجتماع عمان التشاوري الذي ضمّ وزراء خارجية سوريا ومصر والعراق والسعودية والأردن في الأول من مايو/أيار الحالي.

من المبكر تبلور نتائج ملموسة لخيار التطبيع على الرغم من الضجيج الذي أُثير حوله، ولكن من الخطأ أيضاً اعتبار قرار الجامعة حدثاً صوتياً ليس أكثر؛ فبصرف النظر عما يعنيه التطبيع من اعتراف بنظام الأسد فإنّ عدم إمكانية تغييره تفترض التعامل معه للحدّ من تداعيات استمراره على المنطقة برمّتها.

وبهذا المعنى تصبح عودة الأسد إلى الفناء العربي إطاراً لإدارة الخصومات قد يؤسّس لبنية أمنية إقليمية جديدة. فإلى جانب خطوات أخرى ضيّقت الانقسامات الإقليمية- بين إيران والسعودية، ودولة قطر ونظيراتها في دول مجلس التعاون الخليجي، وبين تركيا ومصر، وإسرائيل ولبنان حول ترسيم الحدود البحرية، وبين إسرائيل والإمارات والبحرين– يأتي التطبيع مع سوريا كخطوة إضافية باتّجاه وقف تصعيد الصراعات الإقليمية المستعصية. وقد تجلّت آثار هذا التحوّل في اليمن، حيث أتاح التقارب السعودي الإيراني أطول وقف لإطلاق النار حتى الآن في مسار الحرب الأهلية المستعرة منذ أكثر من عقد ونيف.

AFP
اجتماع وزراء الخارجية العرب في جدة في 17 مايو

يبدو أن اللاعبين الإقليميين قد قدموا البرغماتية والواقعية على خيار المضي في الانقسامات الجيوسياسية والطائفية المستمرة منذ عقود، لكن هذا لا يعني بدايات لسلام دافئ بين العرب أو بين الأنظمة العربية وإيران، كما أنه لا يشير إلى أن التوترات بين الأسد والأنظمة التي عملت منذ بضع سنوات فقط على الإطاحة بنظامه قد تضاءلت، فقد قصف الطيران الحربي الأردني موقعاً لإنتاج المخدرات في جنوب سوريا قبل أن يجف حبر قرار جامعة الدول العربية لعودة سوريا. وبالطبع لن يخفف أي نظام أمني إقليمي سطحي وتيرة العداء التاريخي بين العرب وإسرائيل بل ربما يؤدي دوراً معاكساً من خلال إظهار المزيد من الضعف والهشاشة في البنيّة الإسرائيلية.

ما يؤشر إليه هذا الهيكل الأمني الناشئ مرتبط بكيفية استجابة الجهات الفاعلة الإقليمية مع التحولات الجيوسياسية الأوسع، لا سيما الدور المتراجع للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط وتنامي المؤشرات على قيام نظام دولي متعدد الأقطاب.

لقد ألقت هذه التحولات المزيد من أعباء الأمن الإقليمي على الدول العربية، ودفعتها إلى تعديل أولوياتها في الاعتماد على الولايات المتّحدة في إدارة التهديدات الإقليمية، والنظر إلى ما بعد الولايات المتّحدة، بما في ذلك الصين، لترميم الخلافات الإقليمية. وبالتالي فإذا لم يتمكن هذا الإطار الجديد الذي نشأ في ظلّ هذه الظروف من إنهاء الانقسامات الإقليمية، فقد ينجح في منع حالات العداء القائمة من التحوّل إلى صراع مفتوح.

من المبكر تبلور نتائج ملموسة لخيار التطبيع على الرغم من الضجيج الذي أُثير حوله، ولكن من الخطأ أيضاً اعتبار قرار الجامعة حدثاً صوتياً ليس أكثر

وبصرف النظر عن مآلات ما يجري فإن المشهد الأمني المتطور يثير أسئلة أساسية حول دور الولايات المتّحدة وموقعها في نظام إقليمي يتحدى كثيرا من ركائز سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ لقد استندت السياسة الأميركية على مدى عقود إلى فرضية التهديد الإيراني للاستقرار الإقليمي سواء لإسرائيل أو للأنظمة العربية الموالية للغرب، وقد استند الاتفاق الإبراهيمي بين بعض الدول العربية وإسرائيل إلى إمكانية توحيد المصالح بين الخصوم السابقين على خلفية تقدم التهديد الإيراني على الالتزامات المتبقية بإقامة دولة فلسطينية. 

Getty Images
القادة العرب في قمة الجزائر في نوفمبر 2022


أما الآن فبالتوازي مع التقارب السعودي الإيراني والتطبيع مع الأسد ومحاولات تجاوز المأزق المتعلق بالرئاسة اللبنانية والزخم الجديد في الدبلوماسية الإقليمية على نطاق أوسع، تتزايد استحالة التعايش بين الافتراضات الكامنة وراء عقود من السياسة الأميركية مع الاتجاهات الإقليمية الجديدة. 


تبدو تأثيرات هذا التحوّل واضحة بالفعل، فقد اعتبرت الولايات المتّحدة انخراط العرب مع نظام الأسد فرصة لإضعاف نفوذ إيران في سوريا، وغالباً ما بررت الأنظمة العربية التواصل مع دمشق على هذا الأساس. 


لكن هذا الهدف تمّ تحديثه، إذ قبلت الدول العربية على ما يبدو دور إيران كلاعب إقليمي وقيّدته بإلزامات واضحة تتتعلق باحترام سيادة الدول ووقف دعم الميليشيات وتهريب المخدرات، وقد مثّلت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا قبل أيام فقط من إعادة عضوية سوريا إلى جامعة الدول العربية مثالاً صارخاً على ذلك. هذه التحولات السريعة في الدبلوماسية الإقليمية جعلت إدارة بايدن تتدافع، إذ زار مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز إلى الرياض للتعبير عن استياء الولايات المتّحدة من إبقائها بعيدة وتولي الصين الوساطة في ترميم العلاقات السعودية الإيرانية، فيما ادّعى مستشار الأمن القومي جاك سوليفان أن الولايات المتّحدة تلعب دوراً رائداّ في تسهيل التطورات الأخيرة دون التطرق إلى مصير الجهود المتعثرة لمحاسبة نظام الأسد على دوره في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
 

بالتوازي مع التقارب السعودي الإيراني والتطبيع مع الأسد ومحاولات تجاوز المأزق المتعلق بالرئاسة اللبنانية والزخم الجديد في الدبلوماسية الإقليمية على نطاق أوسع، تتزايد استحالة التعايش بين الافتراضات الكامنة وراء عقود من السياسة الأميركية مع الاتجاهات الإقليمية الجديدة

لا شك أن المرحلة المقبلة هي مرحلة ترقب لما ستذهب إليه عملية إعادة التنظيم الإقليمي في ضوء معطيات واضحة، أهمها استمرار الحظر الاقتصادي على سوريا وربما زيادة الضغوط من خلال نظام العقوبات الحالي، وتحوّل إيران إلى لاعب إقليمي أكثر أماناً رغم الحذر العربي وعدم الثقة العربية التي تبدو أعمق من أن يتغلب عليها اتّفاق لتجديد العلاقات مع المملكة العربية السعودية. 


وبالتوازي مع ذلك ستثابر الولايات المتّحدة على التأثير في الديناميات الإقليمية من خلال وجودها العسكري في المنطقة، وتحت عنواني مكافحة الإرهاب وكبح برنامج إيران النووي. فهل تسهم البرغماتية والواقعية الأميركة في تحويل التطبيع مع سوريا من نظام لإدارة الخصومات نحو التأسيس لبنية أمنية إقليمية جديدة؟ وهل تقتنع إدارة الرئيس جو بايدن بالإنخراط بشكل أكثر نشاطاً والتزاماً في النظام الإقليمي الجديد بعيداً عن أسلوب التحدي واستنفاز الدول العربية؟ وهل تنجح المنطقة العربية في تسجيل سابقة تاريخية بتشكيل إطار أمني منظم محلياً، في مرحلة ما بعد السلام الأميركي (باكس أميركانا*). 


* تزامنت فترة السلام النسبي في الغرب مع الهيمنة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة.

font change