حلم السوق العربية المشتركة

قمة جدة تفتح باب النقاش الاقتصادي العربي مجددا

Ewan White
Ewan White

حلم السوق العربية المشتركة

بقي حلم السوق العربية المشتركة يراود العرب من دون أن يجد له على الارض نصيباً من التحقيق بسبب الخلافات السياسية والأزمات والحروب وتحديات شتى واجهتها ولا تزال معظم الدول العربية، من أبرزها الانقسامات الضاغط وعدم توافر الأمن والاستقرار.

أحلام كبيرة راودت المواطن العربي لتدشين كيان اقتصادي عربي، إلا أنه ووجه بحجم تجارة عربية بينية ضعيف للغاية، لا يزيد على 8 في المئة من التبادل التجاري الإجمالي، ومعوقات قانونية وتفاوت بين اقتصادات الدول العربية وعدم التنسيق بينها، إلى جانب تخلف التشريعات التجارية والمالية والنقدية. بقيت آلاف الدراسات والتقارير والاحصاءات حبرا على ورق. لم تتحقق الأولويات والركائز الأساسية لهذا الحلم ولم تنشأ البنى التحتية القانونية والتنظيمية والاقتصادية المشتركة، ولا حتى لكل دولة عربية على حدة، من أجل هذا الهدف السامي، فضلا عن فشل برامج الإصلاح الاقتصادي، وارتفاع حجم الديون والخلل في مصادر التمويل والضغوط على الموازنات الحكومية، خلافا لدول الخليج التي تتمتع بوفرة مالية بسبب ارتفاع عائدات النفط.

هذا بالإضافة إلى تباين التوجهات بين كثير من الدول العربية في ما يتعلق بالمسار الاقتصادي، فهناك دول لا تزال تدور في فلك "الاقتصاد الاشتراكي" وما يشبهه، وأخرى بدأت اقتصاداتها الحرة أو المرنة، تحديدا دول الخليج العربي، تنافس الدول الصناعية الكبرى في العالم.

وفي هذا السياق، ساعدت دول الخليج في توفير التمويل المالي لدول الاعتدال العربي في السنوات المنصرمة، لكن هذا الدعم لم يحقق النجاح الاقتصادي المرتجى، كونه لم يترافق مع الاصلاحات المنشودة، أو عاكسته حروب وصراعات وظروف اقتصادية عربية ودولية متنوعة لسنوات طويلة، ما حال دون بلورة مؤسسات وتشريعات اقتصادية عربية تساهم في توفير الأرضية الضرورية لتنفيذ السوق العربية المشتركة.

التحديات العالمية أكدت ضرورة تطوير نماذج مالية مستدامة في المنطقة العربية تساهم في تعزيز المرونة لمواجهة التحديات والأخطار

وزير المالية السعودي محمد الجدعان

قمة جدة الـ 32 

على مدى عقود، لطالما عقدت الجامعة العربية الكثير من الاجتماعات على مستوى وزراء الاقتصاد العرب، وغيرها الكثير من المؤتمرات والمشاورات، تألفت لجان، أصدرت التقارير وأقرت مجموعة من الآليات، من أجل سوق مشتركة ما، لكن سرعان ما اندثرت الآمال والأحلام المشتركة وتعطلت آليات التكامل الاقتصادي.

Shutterstock

يأتى انعقاد القمة العربية الـ 32 في المملكة العربية السعودية غدا ليفتح باب الأمل مجددا للتركيز على الأوضاع الاقتصادية، ولا سيما في الظروف الاقتصادية الدولية والعربية الراهنة، وهي مناسبة نادرة لاعادة النقاش الاقتصادي الى الواجهة مجددا من أجل إنشاء أشكال من التكتلات الاقتصادية العربية، تتجاوز الخلافات السياسية، في ضوء التقارب العربي الاقليمي، والايجابيات العربية والإقليمية الراهنة. الأمر الذي من شأنه ان يؤدي دورا كبيرا في خفض حدة التوتر السياسي، وإفساح المجال أمام شراكات اقتصادية بين الدول العربية الرئيسية ودول الاقليم، مع امكان ابتكار آليات للتعاون الاقتصادي الفاعل مع الصين مثلا ودول أخرى.

وعلى الرغم من صعوبة حلحلة الأزمات السياسية والاقتصادية، يأمل اقتصاديون وخبراء في أن توفر قمة جدة الفرصة لتحقيق مقاربة عربية جديدة للتحديات الاقتصادية الراهنة والمقبلة، والتأسيس لكيان اقتصادي يمكنه مجاراة التكتلات الدولية والشركات العملاقة ومعالجة أوجه القصور في المنطقة، وفي الوقت نفسه مضاعفة فاعليتها في تحرير التجارة العربية البينية.

وهذا ما أكده وزير المالية السعودي محمد الجدعان، متطلعا الى ضرورة رفع مستوى التعاون الاقتصادي بين الدول العربية ومشيرا الى أن "التحديات العالمية أكدت ضرورة تطوير نماذج مالية مستدامة في المنطقة العربية تساهم في تعزيز المرونة لمواجهة التحديات والأخطار".

ولفت خلال اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التحضيري لقمة جدة على المستوى الوزاري، أن السعودية عملت على العديد من المبادرات لمواجهة التحديات المستجدة في العالم والمنطقة العربية، ومنها مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، ونهج الاقتصاد الدائري الذي يساهم في تحقيق الأهداف الدولية للحد من الانبعاثات الكربونية مع توفير إمدادات الطاقة. وأوضح أن السعودية عملت مع مؤسسات مجموعة التنسيق العربية لتعزيز الأمن الغذائي، وأطلقت معها حزمة دعم مالي تزيد على عشرة مليارات دولار لهذا الغرض. وجدد الحرص على حشد الجهود لمعالجة التحديات المرتبطة بالديون بإطلاق إطار العمل المشترك لمعالجة الديون، والذي تمت الموافقة عليه من قبل قادة دول مجموعة العشرين في قمة الرياض، موضحا أن المملكة احتلت المرتبة الأولى عالمياً في الدعم الذي تقدمه للدول النامية لاسيما لدول المنطقة.

تفعيل السوق العربية المشتركة

استطاعت الدول العربية أن تحقق نجاحات في السوق الاقتصادية المشتركة، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري السابق والأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب السفير جمال بيومي، من خلال تحرير تجارة السلع والخدمات، وحركة رأس المال، والاستثمارات، ثم حرية انتقال الأفراد، إلا أنها فشلت في الأخيرة.

التركيز على التجارة العربية استنزف لأن 70 في المئة مما نستورده لا ينتج في العالم العربي، وأبرزه استيراد الغذاء من الخارج 

الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب السفير جمال بيومي

وقال بيومي لـ "المجلة" إن الدول العربية "حققت من خلال الجامعة العربية طفرة في حرية حركة السلع باتفاق التجارة الحرة العربية الكبرى منذ يناير/كانون الثاني 2005، وصارت التجارة بين الدول العربية من دون جمارك مما أفاد حركة السلع، ولا سيما بالنسبة للإقتصاد المصري"، موضحاً أن حركة التجارة العربية البينية تشكل 20 في المئة من صادرات مصر، وتحقق فائضا لصالح مصر في التجارة مع الدول العربية، ولا سيما بعدما أبرمت اتفاقا لتحرير حركة رؤوس الأموال وحمايتها من المصادرة ومن الأزمات، بل وأنشئت محكمة استثمار عربية في جامعة الدول العربية تضم قضاة مصريين ومن تونس تعنى بحركة رؤوس الأموال، مشيرا  إلى تحرير الخدمات بشكل كبير وانتشار فروع  كثيرة  لمصارف عربية فى مصر. وأرجع بيومي عدم تحرير حركة الأفراد والأسواق إلى المقاومة الشرسة من شركات ورجال أعمال لفتح الأسواق، ليحافظوا على احتكارهم لتلك الاسواق، مما كان له أثر سلبي على التكامل العربي. 

وقال بيومي إن التركيز على التجارة العربية استنزف "لأن 70 في المئة مما نستورده لا ينتج في العالم العربي، وأبرزه استيراد الغذاء والغلال من الخارج". وطالب بضرورة التركيز في المرحلة المقبلة على تفعيل العديد من صناعات النقل والمواصلات والإتصالات وإنتاج ماكينات للغزل والنسيج والشاحنات والسيارات، معتبرا تلك العوامل تسهم في تعزيز التكامل العربي.  

قمة "الوفاق العربي"

وعشية القمة، أصدر مركز "تريندز" للبحوث والاستشارات دراسة بعنوان "قمة جدة وإحياء النظام العربي"، أكدت أن المنطقة أمام لحظة مهمة في تاريخ العلاقات العربية-العربية تتطلب عملا واقعيا يحقق المصالح والرؤى المشتركة، وقالت أنها تعدُّ قمة "الوفاق العربي" أو قمة إحياء مؤسسات النظام العربي. وأشارت إلى أنها تنعقد في مناخ من تهدئة الخلافات ومن المرجح أن تكون لها تأثيراتها على القمّتين المُزمَع عقدهما خلال عام 2023؛ مؤتمر القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا، والقمة العربية-الأفريقية في السعودية. 

وتوقفت الدراسة عند عدد من التحديات التي تواجه المسيرة العربية ومن أبرزها استمرار الصراعات والحروب الداخلية، وضرورة إطلاق مبادرات عربية في شأنها، ودعت إلى أن يكون أحد مخرجات القمة هو الإجراءات الكفيلة بتنشيط الجامعة العربية ومؤسسات العمل المشترك في القضايا المستجدة مثل سلاسل الإمداد والأمن الغذائي، وأن تخرج بمبادرات وخرائط طريق ممكنة التنفيذ. 

فكرة السوق العربية

منذ أن طُرحت فكرة السوق العربية المشتركة مطلع ستينات القرن الماضي تنفيذاً لإتفاق الوحدة الاقتصادية الذي وقعته في يونيو/حزيران 1962 خمس دول عربية، انضمت إليها نحو 14 دولة عربية في نهاية عام 1963، بهدف إقامة اتحاد جمركي بين الدول الأعضاء، على أن يتم من خلاله تحرير التعاملات المشتركة من كل الرسوم الجمركية وزيادة التبادل التجاري بين البلدان العربية. وعلى الرغم من ذلك، استمر تجاهل الدول لتحقيق حلم سوق عربية مشتركة تساعدها على تطوير اقتصاداتها وتجعلها في موقف قوي في أي مفاوضات اقتصادية دولية. ولم تتمكن جامعة الدول العربية من تحقيق التكامل الاقتصادي الكامل لتدشين سوق مشتركة موحدة أو إصدار عملة موحدة على غرار دول الاتحاد الأوروبي.

ارتفع حجم التجارة البينية الإجمالية للدول العربية إلى نحو 1,848 تريليون دولار في عام 2021، مقارنة بنحو 1,501 تريليون دولار في 2020، بنمو نسبته 23 في المئة 

صندوق النقد العربي

التجارة العربية البينية

قدّر صندوق النقد العربي ارتفاع حجم التجارة السلعية الإجمالية للدول العربية إلى ما قيمته 1,848 تريليون دولار في عام 2021، مقارنة بنحو 1,501 تريليون دولار في 2020، بنمو بنسبة 23 في المئة. وبيّن التقرير الصادر عن الصندوق مطلع السنة الجارية أن الصادرات العربية الإجمالية شهدت ارتفاعاً لتصل إلى 1,038 تريليون دولار في 2021، مقارنة بـ 755,6 مليار دولار في 2020، أي بتحسن نسبتة 37,4 في المئة، مما أثر في وزن الصادرات الإجمالية العربية من الصادرات الإجمالية العالمية لتبلغ نحو 4,9 في المئة في عام 2021، في مقابل 4,3 في المئة في العام السابق له.

وأشار التقرير إلى أن الواردات الإجمالية شهدت ارتفاعاً بنسبة 8,6 في المئة لتقفز من 746,3 مليار دولار في 2020 إلى 810,4 مليار دولار في 2021، ومع ذلك انخفضت نسبتها إلى الواردات العالمية إلى 3,7 في المئة في 2021 مقارنة بـ4,2 في المئة في عام 2020.

ونبه التقرير إلى أن التجارة العربية البينية شهدت أيضا تحسناً خلال عام 2021، بسبب ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية في الأسواق العالمية، وبدء تعافي الأنشطة الاقتصادية وأثرها على زيادة مستويات الإنتاج السلعي في الدول العربية. 

لكن تبقى العقبات والتحديات قائمة وتحتاج الى تغيير أساسي في كثير من القوانين في العالم العربي، وتحديثها لتتماشى مع التغيرات الإقتصادية العالمية، بما يمهد لاعادة النقاش في تأسيس نواة سوق عربية مشتركة على أسس جديدة وتشريعات تلبي طموحات الشعوب العربية ذات يوم.

font change