"استطلاع" بيلغورود ونبوءة صاحب "فاغنر"

الاختراق قرب بيلغورود أظهر قدرة الجانب الأوكراني على انتزاع المبادرة التكتيكية

"استطلاع" بيلغورود ونبوءة صاحب "فاغنر"

ليس سليماً، من وجهة نظر عسكرية، تبخيس العملية التي انتهت وقائعها في منطقة بيلغورود خلف الخطوط الروسية. صحيح أن عدد المهاجمين لا يزيد على بضع مئات وأن أسلحتهم خفيفة وقليلة (ظهرت دبابة واحدة في الصور المتوفرة)، لكن المهم أن الاختراق يسلط الضوء على سلسلة من المعطيات السلبية في البنية الدفاعية الروسية وعلى المسار الذي قد يتخذه الهجوم الأوكراني المضاد المنتظر في الأسابيع القليلة المقبلة.

استمرت العملية 48 ساعة وشملت عبورا للحدود الأوكرانية- الروسية من ثلاث نقاط توغل المهاجمون منها حوالى عشرين كيلومترا خلف الحدود واقتربوا من مناطق حساسة تقوم عليها قاعدة "بيلغورود-22" التي يخزن الجيش الروسي فيها ذخائر نووية تكتيكية.

تمكنت القوات المسلحة الروسية من إنهاء الاختراق وأعلنت عن مقتل 70 من "القوميين الأوكران" وتدمير أربع آليات خفيفة أميركية الصنع إضافة إلى عدد من الشاحنات.

لكن ليس هناك ما يدعو الروس إلى الاحتفال بهذا "النصر" الإضافي. ذلك أن سهولة الدخول إلى الأراضي الروسية من مناطق يفترض أنها قد حُصنت على حدود دولة معادية، يفرض أسئلة كثيرة عن متانة الدفاعات الروسية المسماة "أسنان التنين" التي ظهرت صور عربات المهاجمين تمر فوقها. أي إنها فشلت في مهمتها الأبسط. يضاف إلى ذلك أن المهاجمين جمعوا ما يكفي من المعلومات الاستخبارية عن الحدود الروسية لجعلهم يعبرون الحدود بيسر ومن دون مقاومة تذكر وأن يتوغلوا كيلومترات عدة على أراضي الخصم الذي كان في غفلة تامة، على ما يبدو، أو على الأقل، بحسب ما نجحت الدعاية الأوكرانية في تصويره.

وتدعو إلى الدهشة طول المدة التي استغرقها القضاء على مهاجمين مزودين بأسلحة خفيفة توغلوا خلف الحدود. حيث إن بيلغورود تعرضت إلى عدد من الهجمات الجوية والصاروخية نظرا لأدائها دور عقدة الإمداد والمواصلات الأولى للقوات الروسية المقاتلة في القطاع الشمالي الشرقي من الجبهة قرب مدينة خاركيف الأوكرانية.

سهولة الدخول إلى الأراضي الروسية من مناطق يفترض أنها قد حُصنت على حدود دولة معادية، يفرض أسئلة كثيرة عن متانة الدفاعات الروسية المسماة "أسنان التنين"

وعليه، يمكن الوصول إلى بعض الاستنتاجات: الأول أن العملية كانت عبارة عن "استطلاع في العمق وبالنيران"، وأن ما أسفر عنه من نتائج هو الآن على طاولة أجهزة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية التي كلفت مقاتلين من المعارضة الروسية القيام بهذه المهمة لإبعاد القيادة الأوكرانية عن أي حرج دبلوماسي وسياسي. 


الثاني: أظهرت القوات الروسية ارتباكا وترددا في التعامل مع التقدم المعادي، وكان مرور 48 ساعة قبل إعلانها عن القضاء على جيوب المتمردين موقفا مدهشا، حيث جرت العمليات على بُعد كيلومترات قليلة عن ميادين القتال الكبرى من الجهة الثانية من الحدود. معنى ذلك أن قدرة قيادة العمليات الروسية المحلية لم تكن مؤهلة أو مسموحا لها بالمناورة بالقوات اللازمة وسحبها من أماكن انتشارها لزجّها في عملية تصفية الاختراق ومنع توسعه. ولم يجر ذلك سوى بعد ساعات طويلة عندما انتقلت المسألة إلى الأركان الروسية في موسكو. 
يذكر ذلك بالخلل البنيوي التاريخي في إدارة العمليات الروسية الذي يحصر كل السلطات بيد الأركان العليا ويمنع الضباط الميدانيين المحليين من اتخاذ المبادرة. وقد كلفت هذه الطريقة القيادة الروسية خسائر هائلة في الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا. 


الثالث: أن "ستارة الدخان" التي نفذها الجانب الأوكراني من خلال هجوم مؤيديه الروس المفترضين قرب بلغورود قد ساهمت في التعمية على الأهداف الحقيقية للهجوم المضاد المنتظر. فالقصف الروسي العنيف قرب زابوروجيا والذي أدى إلى توقف المحطة النووية هناك عن العمل، يشير إلى أن القيادة الروسية تصدق- إلى حد ما- أن الهجوم الأوكراني الكبير سيقع في زابوروجيا لفصل مناطق الاحتلال الروسي عن بعضها: الدونباس ولوهانسك من جهة، وشبه جزيرة القرم من الجهة المقابلة، ما يضع هذه الأخيرة في موقف حرج؛ إذ لا يعود يربطها بالبر الروسي سوى جسر كيرتش الذي يصلها بمنطقة كراسنودار. ويؤيد هذا التصور التدريبات التي جرت على الجسر في الأيام القليلة الماضية للدفاع عنه في وجه أي هجوم مقبل. 
 

أظهرت القوات الروسية ارتباكا وترددا في التعامل مع التقدم المعادي، وكان مرور 48 ساعة قبل إعلانها عن القضاء على جيوب المتمردين موقفا مدهشا، حيث جرت العمليات على بُعد كيلومترات قليلة عن ميادين القتال الكبرى من الجهة الثانية من الحدود

الرابع: أن الاختراق قرب بيلغورود أظهر قدرة الجانب الأوكراني على انتزاع المبادرة التكتيكية بعد ساعات قليلة من خسارة كييف السيطرة على باخموت. وفي المنظور العسكري، ليس امتلاك المبادرة بالأمر التفصيلي أو الهين، خصوصا مع تعدد الجبهات ونقاط الاهتمام وبؤر القتال. يترافق ذلك مع ضرورة التأمل في الأرقام التي أعطاها ممول شركة "فاغنر" الروسية يفغيني بريغوجين، عن خسارتها عشرين ألف قتيل- من دون حساب خسائر الجيش الروسي النظامي- في باخموت وحدها. 


وعلى الرغم من ولع الرجل بالتصريحات النارية وانخراطه في صراع شرس على السلطة مع خصومه في وزارة الدفاع، إلا أن إعلانه أن عملية "نزع النازية ونزع سلاح أوكرانيا قد فشلت فشلا ذريعا" يعد بمثابة نبوءة تنتظر تحقيق ذاتها. 
 

font change