دراما "الاعتداءات" الجنسية

من "جوكر" إلى "تشريح فضيحة"

Michelle Thompson
Michelle Thompson

دراما "الاعتداءات" الجنسية

لا يكاد يمضي أسبوع، حتى تثار قضية اعتداء جنسي جديدة بطلها أو المتهم فيها، شخصية معروفة سواء في الأوساط الاجتماعية أو الاقتصادية أو الرياضية أو حتى السياسية. وتثار معها الفوارق بين "الاعتداء" و"التحرش"، و"الصدّ" و"القبول" وما إلى ذلك من مصطلحات انتقلت من وسائل الإعلام إلى أروقة المحاكم.

في كلّ مرة يحدث فيها ذلك، تعود إلى الواجهة حركة "أنا أيضا" ME TOO، التي بدأت عام 2017، كهاشتاغ على وسائل التواصل الاجتماعي، تستخدمه النساء من مختلف الأعمار والبلاد واللغات، للإدلاء بشهاداتهن عمّا تعرضن له من اعتداءات جنسية اقترفها رجال ينتمون إلى دوائر محمية بشكل أو بآخر.

لم يكن الهدف الأساسي من هذه الحملات، الدفع بهؤلاء الرجال المعتدين إلى السجن، بدا ذلك على أي حال حلما بعيد المنال، حتى مع تعدّد الادعاءات ضد رجل واحد، وحتى مع الإثبات القانوني لصحة بعض هذه الادعاءات. بل بقيت هذه الاعترافات ببساطة نوعا من التواصل بين الضحايا، التماسا للمواساة، ومحاولة للتخلص من ثقل الصدمة، ونشرا للوعي ومحاولة المضي قدما في الحياة.

لا نستطيع القول إن العالم تغيَّر بتحريض من هذه الحملات، أو إنه صار جنة للنساء، لكننا لا نستطيع أن ننفي أيضا أن أملا في الأفق بدأ يرتسم. وقد يكون هذا التغيير حدث في وعي النساء، سواء كضحايا سابقات، أو ضحايا محتملات، أكثر مما حدث في دوائر الرجال المحصنين بالقوى المعنوية أو السياسية وغير المستعدين لخسارة امتيازاتهم. تَمثَّل هذا الوعي في الكلام الحرّ والمتحدّي عن هذه الحوادث المؤسفة، من جانب النساء، وفي إصرار بعض الضحايا على شكاية المعتدين قضائيا. وهذا ما حدث في حالة المنتج الأميركي الشهير هارفي وينستين، ويحدث هذه الأيام في حالة الممثل الفرنسي الشهير جيرار دوبارديو.

أما الحادثة الأبرز، فتعود إلى 9 مايو/أيار الماضي، حين اضطر دونالد ترامب إلى المثول أمام القضاء الذي أصدر حكما بإدانته بتهمة الاعتداء الجنسي على الكاتبة إ. جين كارول عام 1991. ومع أن حكما بالسجن لم يصدر ضد الرئيس الأميركي السابق، إلا أن المحكمة قضت بأن يدفع تعويضا للكاتبة يبلغ 5 مليون دولار، للأضرار التي لحقت بسمعتها، فترامب لم يتوقف خلال الأعوام الماضية عن استدعاء اسم كارول بصورة سلبية، واتهامها باستغلاله لتحقيق شهرتها.

لم يكن الهدف الأساسي من حملات "أنا أيضا"، الدفع بالرجال المعتدين إلى السجن، بل بقيت هذه الاعترافات ببساطة نوعا من التواصل بين الضحايا، التماسا للمواساة، ومحاولة للتخلص من ثقل الصدمة

جوكر... قاتل مغتصبي المستقبل!

في عام 2019، حقق فيلم "جوكر" Jocker من بطولة خواكين فينيكس، وإخراج تود فيليبس، نجاحا مذهلا حول العالم. حلا للبعض أن يروا في آرثر فليك النصف الهشّ من شخصية جوكر، تجسيدا للشر الذي سيحوّل العالم إلى ديستوبيا تامة. في مدينة غوثام، حيث تدور أحداث الفيلم، كان هناك مَنْ شيطنوا جوكر. إلا أن آرثر، لم يبدأ رحلته، قاصدا الشرّ، على العكس، لقد كان ضحية لروابط عائلة هزيلة ومفككة مع الأم المضطربة نفسيا، والأب السياسي الشهير الذي رفض الاعتراف به، وضحية لنظام العلاج النفسي الذي لا يعالج المرض بل فقط العَرض. يحتفظ أولا آرثر فليك، العاجز عن الاندماج ومن ثم الانتماء إلى مجتمعه الظالم، بالضغائن والعذابات لنفسه، إلى أن يقع بمحض المصادفة، ذلك الحادث الذي يؤدي به إلى ارتداء قناع الشرّ، ويصبح مستحيلا العودة إلى ما كان عليه في السابق.

 

جوكر

خلال عودته بالمترو إلى منزله يشهد تحرش ثلاثة شبان من ذوي البشرة البيضاء، ويبدو بوضوح من ثيابهم وحديثهم، أنهم ينتمون إلى الطبقة العليا، بشابة وحيدة في المترو. وعندما يحاول آرثر التصدي لهم برفق أولا، ينتهي الأمر بتنمرهم عليه، ومحاولة عقابه هو المُزدرى والمُستبعد اجتماعيا. إنهم رجال سياسة المستقبل، مَنْ تتعلق بهم آمال المجتمع الأميركي، أما هو فقتله المعنوي والحقيقي لن يُغيِّر شيئا. يستجيب آرثر لهذا الاستفزاز عفويا بالمسدس، ويُردي الشبان الثلاثة قتلى. وسرعان ما يتحوّل إلى بطل في عيون المواطنين العاديين، الذين يعرفون جيدا فساد هذه الطبقة، ويعانون منها. ألم تكن هذه الشابة المستباحة في المترو، ابنة مواطن عادي، لا يتحلى بأي امتيازات استثنائية، مثل آرثر فليك نفسه؟ وماذا كان سيحدث إن كانت الفتاة تعرضت للاغتصاب والقتل حتى، غير أن يفلت الشبان بفعلتهم، كي يواصلوا صعود السلّم الاجتماع؟

حاول جوكر أن يحقق العدل بيده، فقد أدرك أن مجتمع مدينة غوثام لا يستطيع أن ينصف هذه الفتاة ولا أن ينصفه. ولا بد أن فكرة الشرّ الذي يتولّد من شدة الخير، كانت وراء النجاح الاستثنائي للفيلم في عالم اليوم، الذي لا يختلف كثيرا عن عالم غوثام المتخيّلة.

السياسي جيمس وايتهاوس

تشريح فضيحة

لكن المسلسل البريطاني "تشريح فضيحة" Anatomy of a Scandal من إنتاج منصة "نتفليكس" عام 2022، يضيء على جوانب أخرى من المسألة، إذ يستعرض مواقف الضحايا غير المباشرات للسلطة والحصانة المطلقة التي يتمتع بها بعض الرجال. يركز المسلسل الذي يتكوَّن من ست حلقات، على صوفي (تلعب دورها سينا ميلر) زوجة السياسي الشهير جيمس وايتهاوس، التي تنقلب حياتها بين يوم وليلة، بعد إعلان إحدى العاملات في مكتب زوجها اغتصابه لها وتقديمها شكوى قضائية يصبح معها مستقبله السياسي محل شك. المسلسل مأخوذ عن رواية رائجة بالعنوان نفسه للكاتبة والصحافية البريطانية سارا فوغان، وهي تقول في موقع "بازار" إنها استقت البذرة الأولى للرواية من حوارها مع بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، بعدما تحدث ببساطة معها عن علاقته خارج إطار الزواج ببيترنولا ويات، من دون أن يسيئه إنكاره لها طوال الأعوام الماضية، "الحقيقة بالنسبة إليه كانت قابلة للتطويع، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى معظمنا"، حسب وصف سارا. هذه اللامبالاة بالآخرين أمام مصالح الذات، هي ما ألهم فوغان فكرة الرواية، التي صدرت في أوج نشاط حركة "أنا أيضا"، ودخلت سريعا قائمة الأعلى مبيعا.

مع ذلك، فإن المسلسل لا يستعرض فقط ادعاء أوليفيا ليتون (تلعب دورها ناعومي سكوت)، الباحثة البرلمانية في مكتب وايتهاوس، باغتصاب الأخير لها، بل يُربكنا أكثر باعتراف الشاكية أنها كانت في علاقة غرامية معه طوال خمسة أشهر سابقة على الحادثة، مما يزلزل الزوجة صوفي مرتين. وعبر هذه التفصيلة تطرح كلٌّ من إس. جي. كلاركسون مخرجة العمل وميليسا جيمس جيبسون كاتبته، فكرة القبول أو الرضا Consent حتى داخل العلاقة الغرامية. وتعترف أوليفيا ليتون خلال جلسات الاستماع، بأنها كانت مُغرمة بجيمس، وبأن فراقهما قبل أسبوع تقريبا من الحادث لم يطفئ جذوة هذا الغرام، ومع ذلك فإن الطريقة الوحشية التي اقترب بها منها، هي التي أهانتها ذلك اليوم، وجعلتها تشعر بالانتهاك.

العشيقة والمدعية بالاغتصاب أوليفيا ليتون

على الضفة الأخرى، لا ينفي جيمس وايتهاوس (يلعب دوره روبرت فريند)، هذه العلاقة الغرامية. على العكس، يبني عليها دفاعه، بأن ما جرى بينهما ذلك اليوم، وقع بالتراضي، وأن تهمة الاغتصاب ليست سوى وسيلة لانتقام عشيقته السابقة منه. منذ اللحظة الأولى للاتهام، يلجأ جيمس إلى زوجته "المخلصة والمتسامحة" صوفي، كما يصفها الآخرون، أو بالأحرى كما يختارون لها أن تكون، ويعترف لها بالعلاقة لكنه يردد عليها أنها " كانت علاقة جنسية لا أكثر"، وهي الحجة التي سيناقضها في المحكمة أمام القاضي مرة ثانية كي يثبت براءته، عندما يقول: "نعم كنتُ في علاقة حب معها"، فالحقيقة عند السياسي جيمس وايتهاوس، كمثلها عند بوريس جونسون، قابلة للتطويع حسب الظروف والمصالح.

 يُعدّ "تشريح فضيحة" عملا فارقا، إذ يطرح مواقف إيجابية لنساء يقررن نزع الصمت عن هذا النوع من القضايا وهو يعطينا الأمل، في أن النساء يستطعن تغيير الكثير إن قررن التعاون مع الضحايا الأخريات


متى يسقط المعتدَون؟

يبرر "تشريح فضيحة" صمت صوفي في البداية، بتكوينها الشخصي، هي الزوجة التي لا عمل لها إلا رعاية زوجها وطموحه غير المحدود وكذلك طفليها. وهي بقدر ما يدفعها جيمس، للوقوف إلى جانبه، وارتداء قناع الزوجة المتسامحة المؤازِرة أمام الصحافة والإعلام، تبدو مشوّشة ومرتبكة بحدسها الذي يخبرها أن هناك شيئا غير صحيح في رواية زوجها.

وليس شك الزوجة وحده، هو الذي يبشِرنا باحتمال الاقتراب من الحقيقة، التي لا نعرفها كاملة قبل الحلقة الأخيرة، بل هو أيضا نضال محامية المدّعية كيت وودكرافت (تلعب دورها ميشيل دوكيري)، لإثبات جريمة الاغتصاب ضد جيمس وايتهاوس. نضال وإصرار يصلان إلى العناد، ويثيران تساؤلات جذابة للغاية دراميا عن الدوافع الخفية لوودكرافت، من الترافع في هذه القضية.

الزوجة صوفي في المسلسل

في النهاية يعدّ "تشريح فضيحة" عملا فارقا، إذ يطرح مواقف إيجابية لنساء يقررن نزع الصمت عن هذا النوع من القضايا. وعلى الرغم من أن نساء كثيرات، ما زلن يحافظن على الصمت أمام ادعاءات النساء الأخريات ضد أزواجهن، إلا أن عمل "نتفليكس" يعطينا الأمل، في أن النساء "نصف الضحايا، نصف المتواطئات" حسب تعبير جون بول سارتر كما نقلته عنه سيمون دو بوفوار في كتابها الشهير "الجنس الثاني"، يستطعن تغيير الكثير، إن قررن التعاون الحقيقي مع الضحايا الأخريات. ذلك أن الرجال الفاسدين أيضا يتعاونون معا طوال الوقت لدفن جرائمهم بعيدا عن الأنظار. وصحيح أن جيمس وايتهاوس لا يُدان كما نتمنى، إلا أن "تشريح فضيحة" يخبرنا أن هذا النوع من الجرائم عادة ما يحدث وسط شبكات أكبر من تبادل المصالح والفساد والتواطؤ، وذلك يعني أنها قد تكون فقط الجولة الأولى.     

font change

مقالات ذات صلة