عن الفيضان الدائم للقومية التركية

تركيا تقدم مثالاً واضحاً على إمكانية أن تكون السردية التأسيسية طاغية على كل شيء

عن الفيضان الدائم للقومية التركية

جددت الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية التي جرت مؤخراً ما كان ثابتاً وبقي طاغياً على الحياة السياسية والعامة التركية طوال أكثر من قرن كامل، ألا وهو سطوة النزعة والآيديولوجيا القومية التركية على كل شيء آخر.

فالحزبان القوميان "المتطرفان"، في تحالفي السلطة والمعارضة، أحرزا نتائج انتخابية فاقت كل التوقعات، تجاوزت حصتهما 20 في المئة من مجموع أصوات الناخبين، ولو وضعنا أصوات الكتلة الكردية جانباً، لغدت نسبة التصويت لهذين الحزبين أكثر من 35 في المئة من مجموع أصوات الناخبين الأتراك. في الوقت عينه، صار الحزبان المركزيان في البلاد، "العدالة والتنمية" الحاكم، و"الشعب الجمهوري" المعارض، يتبنيان برامج وخطابات سياسية بالغة القومية، أقرب لما للحزبين القوميين من أي شيء آخر.

يحدث هذا، في وقتٍ تغرق فيه البلاد في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية قاهرة، تراجعت بسببها القوة الشرائية للمواطنين إلى ما دون الربع، خلال ثلاثة أعوام فقط، وبات الاستقطاب الحالي يهدد السلام الاجتماعي والأهلي الهش، فيما تنهار قوة القوانين وأدوار المؤسسات العامة، واستطاعتها على أداء أدوارها، وتتصاعد مستويات وآليات الحُكم الفردي، على حساب الفصل الواجب بين السلطات وتوازنها، وأولوية حق المواطنين في الحريات السياسية والمدنية.

صار الحزبان المركزيان في البلاد، "العدالة والتنمية" الحاكم، و"الشعب الجمهوري" المعارض، يتبنيان برامج وخطابات سياسية بالغة القومية، أقرب للأحزاب القومية من أي شيء آخر

قُبالة كل تلك المجريات، لم يملك الحزبان القوميان أي برامج اقتصادية أو استراتيجيات تخطيطية أو رؤى سياسية، بل فقط مجموعة من الخطابات المغلقة: "ثمة مؤامرة عالمية تُحاك ضدنا"، "أمجاد إمبراطورية الأجداد يجب أن تُستعاد"، "الانفصاليون الأكراد والأرمن واليونان يخططون للإطاحة بنا"، "حدودنا تتجاوز جغرافيا تركيا"، "لن ندعهم يمرون إلا على جثثنا"، وبتلك العبارات فحسب، حصلوا على كتلة ضخمة من الجمهور التركي، وابتزوا بها الأحزاب الأخرى، وأجبروها على الانزياح نحو ما يطابق خياراتهم. 


بقيت الحركة القومية التركية تشغل ذات المقام لأكثر من قرن كامل، منذ الانزياح الكبير الذي أصاب تيار "الاتحاد والترقي" العثماني، الذي كان إصلاحياً تحديثياً في نشأته، وغدا قومياً مغلقاً بعد انقلاب العام 1908، متأثرة بعاملين مركبين: الآدب السياسي القومي الألماني، الذي تلقاه الضباط العثمانيون-عضد الجمعية- خلال سنوات دراستهم العسكرية في ألمانيا، حليفة الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والعامل الآخر كان كامناً في الهزائم المتتالية التي لحقت بالإمبراطورية العثمانية، حتى لم يبقَ منها إلا تركيا الحالية. 


خلال السيرة الطويلة للدولة التركية الحديثة، تبدلت الكثير من الاعتبارات والسياقات من جذورها، صعد الإسلام السياسي وتراجع اليسار، دخلت المسألة الكردية مراحل مختلفة من العنف والتفاوض والاعتراف، تغير موقع تركيا الجيوسياسي مرات عدة، تبدلت نوعية الاقتصاد وانقلب المجتمع التركي على نفسه، اقتلعت جماعات أهلية وتحور وعي جماعات أخرى لذاتها وللدولة، صعد زعماء سياسيون وذهب آخرون إلى المقصلة، حدثت انقلابات عسكرية، ألغيت دساتير وأقر غيرها، لكن القومية التركية، بمعناها الأكثر صرامة وإطلاقية، بقيت ثابتة وطاغية على المشهد العمومي للبلاد. 


لم يكن ذلك نتيجة دفق آيديولوجي فحسب، انتجه ومارسه تيار سياسي أو آخر بدافع إرادوي، ولا حتى كحتمية لهندسة الدولة التركية للمؤسسات التربوية والعسكرية والسياسية والقضائية والدستورية، بل كان فيضان القومية التركية، وإضافة لهذين العاملين المذكورين، شيئاً نابعاً من جوهر تموضع ومصير الأمة التركية الحديثة، موقعها وذاكرتها الجمعية ووعيها الكلي لذاتها وتاريخها الحديث، وكل ما يدور داخلها وفي محيطها والعالم. 

 فالأتراك، بمعنى ما، يستشعرون أنفسهم كـ"أيتام لإمبراطورية ذوت"، لذلك يحملون في ذاتهم شعوراً دفيناً ودائماً، يعتقد أن الأتراك قد لاقوا "مصائر وحتمية تاريخية أقل مما يستحقون".

تسرب هذا "اليُتم" إلى قاع السردية التاريخية التأسيسية التي تداولها الأتراك حول ذواتهم والمحيط الإقليمي والعالم، حتى صارت بمثابة أسطورة دينية مكرسة، تملك كل سمات الواحدية والقداسة. 
 

خلال السيرة الطويلة للدولة التركية الحديثة، تبدلت الكثير من الاعتبارات والسياقات من جذورها

كانت بنية الوعي الأعلى تلك تتفجر على الدوام، في كل مفصل من سيرة هذه الدولة ومجتمعها، ويمكن حسبها فهم وتفسير كل ما حدث في تركيا خلال هذه العقود الطويلة، من الإلغاء والمحق الذي مورس ضد الأكراد، مروراً بالإنكار والتطهر من أية علاقة بالإبادة الأرمنية، وليس انتهاء بمختلف أنواع "الكراهية" والمناهضة والعدوانية تجاه الشعوب والجماعات الأخرى، الغربية منها تحديداً. 


لم يفلت من "عُصاب القومية" إلا أتراك قليلون، بقوا على الدوام مجرد أفراد، ولم يتمكنوا في أي حال من تشكيل كتلة تاريخية أو مجتمعية وازنة، بل كانوا على الدوام يشغلون مكانة "الفئة الضالة" في الفضاء العام. فمختلف الطبقات الاجتماعية التي من المفترض أن لا تكون منجرفة في أي تيار آيديولوجي سياسي عمومي خطابي، مثل المثقفين والفنانين ورجال الدين والبرجوازيين وذوي التعليم والعلاقات الوطيدة مع الحداثة الغربية، كانوا على الدوام تحت ذلك "الخدر القومي"، إما ذاتياً وإما موضوعياً. وحسب ذلك، فإن تركيا تقدم مثالاً واضحاً على إمكانية أن تكون السردية التأسيسية في بلد ما طاغية على كل شيء آخر في الحياة داخلها، متجاوزة كل شيء، بما في ذلك حركة وشروط التاريخ نفسه.  

font change