فاكهة الكتاب المستعمل

فاكهة الكتاب المستعمل

أغلبنا ممتن للكتب المستعملة. مَن منا لم يصادفها معروضة على الرصيف؟ فيستوقفه المشهد المؤثّث بأصناف العناوين المغوية، بأعرق اللغات واللهجات، متصدّرة أشكال الأغلفة، لمجلدات أغلبها معاجم وقواميس وكتب تراثية، دينية وشعرية ونثرية، وأيضا لروايات وقصص ومسرحيات ومجلات... إلخ.

كثافات ورقية تبلط الأرضيةَ، وكثافات ترتكن صناديقَ الكارتون المحيطة برقعة العرْض، وكثافات عمودية تشرئب كعمارات فوضوية، فيما البائع يتوسطها مفترشا حصيرة أو جالسا على حجَرٍ، كما مايسترو يدبر غلواءَ سمفونية تموج بالرائحين والغادين ممنْ تحلقوا حوله إلى حين.

يبدأ الأمر على هذا النحو، نتلقف ذا الكتاب وذاك، نقلب هذه الصفحة وتلك من أجل استكشاف فاكهة المحتوى، نسأل عن السعر ونتفاوض فيه لحدّه الأدنى -إن كنا نمتلك مقابله الزهيدَ- إنْ لا فاختلاسه في لحظة سهوٍ من البائع هو الشائع في شقاوة طفولتنا وطيش يفوعَتنا.

عندما يطمئن لك بائع الكتب المستعملة، ويختبركَ قارئا ولوعا، يتيح لك أن تستعير الكتاب منه مقابل درهم وما فوق، بحسب قيمة الكتاب التي يقدّرها هو، وَفْقَ حجم طباعة المؤلف وجودتها أو وَفْقَ لهفَتكَ بالأساس، شرط أن ترجعَه في وقت وجيز، سواء استكملتَ قراءته أم لا.

 مع استفحال الهوَس بالكتب واحتدام الولع بالقراءة والشروع في محاولات الكتابة وتمارينها الحماسية الأولى، ظل الكتاب المستعمل ملاذا، رفيقَ رحلةٍ أثيرا، صديقا أمينا لا يعرف للخذلان عنوانا


ولأن باعة الكتب المستعملة موسميون في بلدتنا، وفي ألطف الأحوال أسبوعيون لا يلوح هلالهم إلا مساء اليوم الَذي يسبق السوق الأسبوعي مَحج الضَواحي والهوامش ونواحي الإقليم، فالحاجة باتتْ ضرورية إلى البحث عن مصادر كتب أخرى، ومكانها السرّي دكاكين متداعية بالأزقة الخلفية المجهولة، يحتاج ساعيها إلى بوصلة أو دليل محنك خبير...

هكذا أسعفَنا الكتاب المستعمل في غياب المكتبات الحديثة وثقافتها، في غياب القدرة الشرائية على اقتناء الصقيل من الكتب الجديدة طباعة وليس بالضرورة نوعيا، في غياب تقاليد القراءة أصلا وتمجيد قيمة الكتاب جماليا ومعرفيا و... مع الإشارة إلى أن جيلنا سابق بعقدين ونيف للتحولات الجذرية التي أعقبت ذيوع الزمن الرقمي الجارف، وقيامة عصر الذكاء الاصطناعي...

ومع استفحال الهوَس بالكتب واحتدام الولع بالقراءة والشروع في محاولات الكتابة وتمارينها الحماسية الأولى، ظل الكتاب المستعمل ملاذا، رفيقَ رحلةٍ أثيرا، صديقا أمينا لا يعرف للخذلان عنوانا، على طول فراسخ السيرة الذاتية،في طور الإعدادي والثانوي والجامعة وما بعدها إلى الآن...

ينظَر إلى الكتاب المستعمل بارتيابٍ، بشبهةٍ، وأحيانا بدونيةٍ كونه خاض معترَكَ البذل لدى أكثر منْ قارئ، قبل أن يصل إلينا.

في الغالب، لا يسلَم الكتاب المستعمَل من أذى تعنيفه، كنزْع صفحة أو أكثر منه، وأحيانا غلافه، هذا الأخير إن لم يتعرض للتقطيع فهو معرض للتشويه، إذ يطاله الاهتراء ويبدو بهيئةٍ فاقعةٍ، إما تجعله لوحة فنية مغايرة، أو تجعله وجها تعتوره عاهة مستديمة.

يتحول القارئ في هذه الحالة إلى محققٍ بوليسي، إذ عليه أن يخمن المكتوبَ في الصفحة المتنزعة، ويتخيلَ ما فاته في الفراغ الموحش الذي تسبب فيه فقدان جزٍء من متْن الكتاب.

لا يعود الكتاب المستعمَل أصيلا محافظا على هويته الأولى كما أراد له كاتبه وقد أطلقه في سماء النشر، فكتابات هامشية أخرى بقلم الرصاص أو غيره تنمو كأعشاب سامة على حواشيه، من لدن قراء حاولوا إما تفسيرَ بعض مقاطعه، أو إعادة صوغ بعض فقراته، أو إحداث علاماتٍ تنبه إلى ما لَفَتَهم وَرَاقَهم من أفكار، وذلك بتسطير خطوط تحت الجمل المثيرة أو رسم دوائر حول المنتخَب الممتع من مَقروئهم.

يحاول القارئ اللاحق الذي بلغه الكتاب المستعمل من طرف قارئ سابق أن يتبين خطورة ما سطرَ أو كتبَ كتعليق، وقد يجد الأمر جديرا بالفعل، أو العكس، تخَيبه تلك الحواشي الطارئة على الكتاب ولا يجد فيها قيمة ومعنى والمسألة تحتكم إلى الذائقة الشخصية.

قد يضيف القارئ اللاحق هوامشَ أخرى بكتابة تعليقاتٍ جديدةٍ، وقد يترفّع عن ذلك، وفي النهاية يصير الكتاب مضاعفا وقدْ طالتْه كتابات زاحفة أثقلتْ كاهله، وهنا لا يعود النص وَفيا لاسْم كاتبه الأصلي، بل غدا يحتمل تعدد كتابه من قرائه الذين أكرموه بالحواشي المسودة، فهذه آلتْ في الكتاب المستعمل إلى نصوص موازية، غيرتْ من أشكال وتجارب وعمليات تذوقه وتأويله...

بقدر امتناننا للكتب المستعملة، ممتنون أيضا لبائعيها -سواء على الرصيف أو في الدكاكين الصفراء- بل إن بعضهم يتحول إلى شخصيات روائيةٍ أو سينمائية.. تلازم سيرةَ صداقتنا للقراءة والكتاب

قد نلفي اسمَ القارئ السابق، مالك الكتاب، مدَوَنا في الصفحة الأولى مع تاريخ الاقتناء ومكانه، وبذا يزاحم اسم مقتني الكتاب مع توقيعه اسمَ الكاتب الأصلي، وكأن الكتاب باتَ متعددَ الملكية وليس محفوظا لمؤلفه وحده.

تفاجئنا أحيانا كتابات خَطها مستعملو الكتاب سابقا لا علاقة لها بمتن الكتاب نفسه ونوعه، فإما قصيدة إنشائية أو رسالة غرامية، أو رقم هاتف أو رسما...إلخ

ولهذا الأمر أكثر من وجه ومعنى، فإما القارئ اضطر ليدوّن ذلك بعد أن افتقد وجود ورقة أو مذكرة، أو كتب ما كتبه استرخاصا لقيمة الكتاب، فلو وجده ذا أهميةٍ ما كان ليسوده بهكذا مخطوطاتٍ ولكان قدسه وصانَه من الأذى.

بالإمكان أن تنشأ علاقات إنسانية يحدثها الكتاب المستعمل، كأن يتصل القارئ الأخير الذي بلغه الكتاب بعنوان القارئ السابق إن كان قد دونه، أو مجربا لرقمه المسجل في إحدى الصفحات، أو ردا على رسالةٍ مخطوطة فيه... وبهذا يَنْبغ الكتاب المستعمل في رسم مصائر غريبة بين قرائه الأشقياء.

كيفما اسْتعملَ الكتاب بين القراء حد استنزافه، يتجدد مع كل تجربة لاحقةٍ، إنه يخلق حيواته المتعددة راسما خرائطَ سفرٍ ملحمي من قارئ لآخر.

بقدر امتناننا للكتب المستعملة، ممتنون أيضا لبائعيها -سواء على الرصيف أو في الدكاكين الصفراء- بل إن بعضهم يتحول إلى شخصيات روائيةٍ أو سينمائية.. تلازم سيرةَ صداقتنا للقراءة والكتاب.

لا ابتذال في حب الكتاب المستعمل، فما يشفع له وهو يتقادم من فرْط استعماله هو جمالية عتاقته من جهة، ومن جهةٍ أخرى يَهَبنَا ندْرَةَ وجوده في نهر العناوين مما لا يوجد في بحرها.

font change