سيلفيو برلسكوني: انطفاء نجم إيطاليا المثير للجدل

سيذكر التاريخ حياة سيلفيو برلسكوني الغنية والشيقة والشقية، وربما ترافقه اللعنات والاطراء معا

EPA
EPA

سيلفيو برلسكوني: انطفاء نجم إيطاليا المثير للجدل

رحل عن عالمنا رئيس الوزراء الايطالي الاسبق سيلفيو برلسكوني عن ستة وثمانين عاماً، بعد مسيرة حافلة جعلت عبارة "مالئ الدنيا وشاغل الناس" تنطبق عليه بالرغم من بصمات سلبية واخطاء فادحة وانحرافات دمغت حياته الشخصية والسياسية والعملية.

وكان برلسكوني حامل لقب "فارس ايطاليا" رجل الاعمال ورجل السياسة ورجل الاعلام والرياضة، وشكل نموذجاً لشخصيات مثل دونالد ترامب. وروّج للدمج بين السياسة والاعمال في سياق عولمة نفعية من دون قيد. ولم يمنعه ذلك من نسج صداقة متينة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تقو عليها عاصفة حرب اوكرانيا.

موّل برلسكوني مجموعته السياسية من ثروته الشخصية ولهذا كان حزب " فورسا ايطاليا" احدى ملكياته مثل فريق انتر ميلانو لكرة القدم الذي كان يرعاه، او مثل "ميدياست" أكبر إمبراطورية إعلامية في إيطاليا التي تدير جريدة يومية ودار نشر وقنوات تلفزيونية فضلاً عن اندية رياضية وعشرات الشركات الأخرى. برلسكوني الذي تم تقدير ثروته يوما باكثر من ستة مليارات دولار، لن يكون له وريث سياسي لان الشخصنة طبعت مساره ومن الصعب وراثة صاحب محفظة تحوي كل هذه الاسهم وكل هذه التناقضات.

EPA
برلوسكوني و زعيمة حزب "أخوة ايطاليا" رئيسة الوزراء (لاحقا) جيورجيا ميلوني في تجمع انتخابي في روما في 22 سبتمبر 2022

برلسكوني" الساحر" بالنسبة للبعض و"المشعوذ" بالنسبة للبعض الآخر، ترأس الحكومة الايطالية ثلات مرات بين ١٩٩٤ و ٢٠١١، وكان سلوكه غالباً خارج المألوف. ولد الانيق سيلفيو في مدينة ميلانو ثاني مدن ايطاليا ومدينة الاناقة والجمال في شمال البلاد في سبتمبر/أيلول ١٩٣٦، قبل الحرب العالمية الثانية التي ألهبت ايطاليا واوروبا. بدأ برلسكوني حياته المهنية ببيع المكانس الكهربائية، في موازاة قيامه بالغناء في الملاهي الليلية وعلى متن السفن السياحية.

برلسكوني" الساحر" بالنسبة للبعض و"المشعوذ" بالنسبة للبعض الآخر، ترأس الحكومة الايطالية ثلات مرات بين ١٩٩٤ و ٢٠١١، وكان سلوكه غالباً خارج المألوف

تخرج من كلية الحقوق عام ١٩٦١، وبعد ذلك اخذ يهتم بميدان الاعمال، اذ أسس شركة "إديلنورد" للإنشاءات، كمتعهد لبناء المساكن في ميلانو. وبعد عشر سنوات، أسس شركة محلية لتجهيز القنوات التلفزيونية كانت منطلقه نحو الاعلام والسياسة والرياضة. 


كان من الصعب ان تتم مواجهة برلسكوني باللامبالاة اذ كان يثير الاهتمام او الفضول عبر تصريحاته ونهجه وسلوكه. وكان من الصعب الاحاطة بهذا الشخص متعدد الهوايات كما المهن التي مر بها او حياته الشخصية العاصفة التي سجلت فضائح كثيرة. والغريب ان هذه الشخصية الصلبة التي كانت ترفض التنحي والخسارة، لفتت الانظار عندما  انحنت  في الاول من  أبريل/ نيسان 2010   لتقبيل يد الزعيم الليبي معمر القذافي، من دون ان ندري ما اذا كانت مجرد مجاملة او سعياً لاكتساب صفقات أو تتمة  لمعاهدة الصداقة الايطالية - الليبية أو لاستكمال اعتذار ايطاليا في العام ٢٠٠٨ عن سجلها الاستعماري في ليبيا والذي دام أكثر من ثلاثة عقود منذ 1911. 

برلسكوني نفسه المثير للجدل تميز بصداقته الشخصية القوية مع فلاديمير بوتين ، ووسط صراعه مع مرضه العضال، اختار  رئيس الوزراء الاسبق في الأشهر الأخيرة  اطلالاته على الساحة السياسية  بشكل حصري من خلال تطرقه للحرب  في أوكرانيا ودفاعه المستمر عن "صديقه الأبدي"  فلاديمير بوتين، الذي ارتبط معه بصلة صداقة شخصية وعائلية. في أكتوبر/ تشرين الاول الماضي، جرى نشر تسجيل صوتي مسرب لبرلسكوني يكشف فيه عن علاقة تربطه بالرئيس  بوتين وتبادلهما الهدايا، وانطوت التسريبات على قول برلسكوني: "كان لا بد لبوتين من شن عمليته الخاصة في أوكرانيا، والوصول لكييف للإطاحة بالحكومة". 
كل ذلك جعله حليفاً محرجاً  للغاية لرئيسة وزراء ايطاليا الشعبوية جورجينا ميلوني الحريصة  على موقعها الأوروبي والاطلسي، لكن الوجود الضروري لحزب برلسكوني ضمن الأغلبية  الحكومية منعها من الانفصال عنه. 

ومن ابرز ما قيل عن سيلفيو برلسكوني يوم وفاته، كان للسيدة ميلوني التي نعته وقالت انه "كان ابرز الرجال السياسيين المؤثرين في تاريخ ايطاليا الحديث". وبالفعل، جسد برلسكوني منذ منتصف التسعينات الوجه الجديد للسياسة في ايطاليا وانتزع لقب " الفارس". لكن ذلك لم يمنع الهفوات والسقطات والفضائح من التراكم، لكن الغريب ان ايطاليا كانت تغفر له وتعيد انتخابه وتسمح ببقائه على المسرح السياسي. 
استبعد برلسكوني من مجلس الشيوخ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، إثر إدانته بتهمة تهرب ضريبي، ومُنع من المشاركة في الانتخابات النيابية ست سنوات، لكنه أنتخب في البرلمان الأوروبي في 2019. وحوكم برلسكوني في أكثر من 20 محاكمة قضائية. في سياق مواجهة قاسية مع القضاء دفعت "الكفاليير - الفارس"  للتعريف عن  نفسه بأنه "أكثر الرجال تعرضًا للاضطهاد في إيطاليا" وهو الذي كان يلاحق بلا هوادة من قبل القضاة الذين يرتدون  "الجلباب الأحمر" الشيوعي!
 

جسد برلسكوني منذ منتصف التسعينات الوجه الجديد للسياسة في ايطاليا وانتزع لقب " الفارس". لكن ذلك لم يمنع الهفوات والسقطات والفضائح من التراكم

وشهدت ايطاليا في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي مرحلة عدم استقرار وارهاب ومافيات وفساد وصراع سياسي حاد بين "الديمقراطيين المسيحيين" و"الشيوعيين".  ووسط هذا المناخ بدأ الصعود السياسي لسيلفيو برلسكوني  في منتصف التسعينيات في إيطاليا التي دمرتها فضائح فساد كشفتها حملة "الأيدي النظيفة".  حينها دخل برلسكوني -قطب الاعلام- ميدان الانتخابات التشريعية لعام  ١٩٩٤، ساعيا إلى إغواء جمهور الناخبين اليتامى إثر النهاية المأسوية للحزب الديمقراطي المسيحي التاريخي.

EPA
برلسكوني متوسطا لاعبي ناديه "ايه سي ميلان" وحاملا كأس دوري ابطال اوروبا بعد فوزه باللقب في 2007


 وانطلاقا من العاصمة روما كان لا بد من ملء الفراغ على الفور ولا يمكن فعل ذلك الا بالقيادة ووسائل الاعلام، وكان هذا متوفراً لسيلفيو الطموح الذي تمكن مع حلفائه في الرابطة الشمالية ومع ورثة  الفاشيين من التحالف الوطني (أسلاف جورجيا ميلوني) ، من تشكيل حكومة جديدة. وفي سن الثامنة والخمسين، "اقتحم"  سيلفيو برلسكوني قصر شيغي Palazzo Chigi ، وأحدث سابقة تاريخية مع وصول اول رجل أعمال على رأس الديمقراطيات الأوروبية الى السلطة.

لكن بعد  ان خانه  حلفاؤه من رابطة الشمال، توقفت التجربة واضطر برلسكوني إلى الاستقالة بعد بضعة أشهر. ولم يمنعه ذلك من عودة مظفرة الى رئاسة الحكومة من ٢٠٠١ الى ٢٠٠٥، كي يصبح رئيس الحكومة الأطول عمرا في تاريخ ايطاليا المقترن بتغيير دوري للحكومات. ولم تكن العودة الاخيرة ناجحة كما سبقها واضطر  برلسكوني الى مغادرة قصر شيغي في  نوفمبر ٢٠١١ إبان أزمة منطقة اليورو وخطط التقشف.

ويصعب سرد كل حيثيات ومفاصل مسارات برلسكوني المولع بالسياسة كما بالرياضة وكانت له نجاحاته واحباطاته. كان ايطالياً وطنياً واوروبيا حتى الثمالة، لكنه كان واقعيا حتى العظم وهو من بلاد ماكيافيلي.

سيذكر التاريخ حياة سيلفيو برلسكوني الغنية والشيقة والشقية، وربما ترافقه اللعنات والاطراء معا.

font change