رحلة الألماس من الطبيعة إلى المختبرات

بعد هيمنة الإنتاج الصناعي

من الفيلم الوثائقي "لا شيء يبقى للأبد"

رحلة الألماس من الطبيعة إلى المختبرات

سَحَرَ اللمعان المبهر للألماس على مدى قرون العقول والأفئدة، فبريق هذا الحجر الكريم، النادر والنفيس، أضاء دروب العشاق، وجلب المجد والنفوذ لقادة وأباطرة، مثلما ترك حسرة لدى البعض كتلك المشاهد التي جاءت في فيلم "إفطار في تيفاني" حين تقف البطلة أودري هيبورن، وهي تحمل كوبا من القهوة وقطعة حلوى على رصيف الجادة الخامسة بمدينة نيويورك عند الفجر، فتتعلق عيناها الحالمتان ببريق الألماس المعروض خلف زجاج واجهة متجر تيفاني الشهير، طامعة في قطعة بعيدة المنال.

بعد رومانسي

هذا الحجر، الذي تبلور عبر ملايين السنين في أعماق الأرض، كان حاضرا في الأزمنة الأكثر خلودا وصفاء في الذاكرة، فهو مرتبط دائما بلحظات السعادة، من حفلات خطوبة وزواج وأعياد ميلاد، ولقاءات الحب الأولى، وقطعة من هذه الجوهرة الثمينة تقدم هدية، هي طقس باذخ يعبر عن الحب الأبدي والارتباط الدائم.

وفي توظيف تسويقي طموح لهذا التصور العاطفي والرومانسي، اتخذ العاملون في سوق الألماس العبارة الترويجية "الألماس يبقى للأبد" شعارا، للإشارة إلى استدامة هذا الحجر الكريم على مر الزمن، والتي تنطوي كذلك على رسالة خفية للعملاء بأن ما يعزز من صدقية الوعود للطرف الآخر، هو هدية لا تقدّر بثمن، أي: قطعة ألماس لا يخفت بريقه أبدا، وسيبقي، كذلك، جذوة الحب متقدة على الدوام.

لكن المخرج الأميركي جيسون كون يسعى في فيلمه الوثائقي "لا شيء يبقى للأبد"،Nothing Lasts Forever الذي بدأ عرضه أخيرا على منصة "نتفليكس"، إلى التشكيك في هذه العبارة الترويجية المكرّسة، محاولا الغوص في عوالم هذا الحجر الكريم الذي بات يعاني منافسة شرسة من الألماس الصناعي، وهو ما قد يعني بداية النهاية لأسطورة الألماس الطبيعي، الذي تربع على عرش المجوهرات الفخمة لعقود.

لطالما ارتبط الألماس بلحظات السعادة، من حفلات خطوبة وزواج وأعياد ميلاد، ولقاءات الحب الأولى، وقطعة من هذه الجوهرة الثمينة تقدم هدية، هي طقس باذخ يعبر عن الحب الأبدي

خصائص فريدة

يُعتبر الألماس من أكثر المواد صلابة في الطبيعة، وبسبب هذه الصلابة، يعتبر مقاوما للخدوش والتآكل، ويحتفظ بمظهره اللامع الذي يخطف الأبصار، لفترات طويلة، وهو يتكون من عنصر الكربون، الذي خضع لشروط كيميائية وفيزيائية معقدة لفترات طويلة، ويتميز بتركيبه البلوري النادر.

وتعتمد قيمة الألماس على عدة خصائص من بينها الحجم، فكلما كان حجمه أكبر كان أندر، وكذلك اللون، فمعظم الأَلماس بني أو أصفر اللون، والمفضلة لصناعة المجوهرات هي الأحجار عديمة اللون أو التي تتمتع بلون خفي تصعب ملاحظته، أما الأحجار ذات الألوان الزاهية مثل الأحمر والبرتقالي والأخضر والأزرق والوردي والأرجواني والبنفسجي والأصفر فهي نادرة جدا وتباع بأسعار مرتفعة، وتضاف الى كل هذه الخصائص، خاصية البريق واللمعان والنقاء، عند تقييم جودة الألماس.

ويُستخرج الألماس عادة من المناجم الطبيعية في عدد من البلدان حول العالم، خصوصا في أفريقيا، التي شكلت خلال حقبة الاستعمار مسرحا للصراع والاستحواذ على المناجم، ومعظم الأَلماس المكتشف خرج على السطح بسبب الانفجارات البركانية.

ورغم كل هذه الخصائص الفريدة التي يتمتع بها الألماس، نجح خبراء هذا الحجر الكريم في تصنيعه في المختبرات باستخدام تقنيات تحاكي الظروف الطبيعية من ضغط هائل وحرارة عالية، وهما الشرطان اللذان يتشكل من خلالهما الألماس الطبيعي، وأُنتج الألماس الصناعي للمرة الأولى سنة 1954من قبل شركة "جنرال إلكتريك"، كما يذكر الوثائقيّ.

ومنذ ذلك الحين نجح العديد من الشركات في صناعته وإتقانه على نحو يصعب التمييز بينه وبين الطبيعي، ويباع الألماس الصناعي بأسعار منخفضة جدا مقارنة بالطبيعي، إذ تتراوح قيمة الألماس الصناعي بين 15 و30 بالمائة من قيمة الألماس الطبيعي، وثمة شروط تقضي بوجوب بيع هذا النوع من الألماس مع التصريح بأنه صناعي، لكن، وكما في أي حقل تجاري آخر، ستكون هناك تجاوزات. والسؤال الذي يطرحه الفيلم، هنا، هو لماذا يلجأ الناس إلى شراء الألماس الطبيعي بأثمان باهظة، اذا كان الصناعي يوازيه في الجمال، وثمنه أقل بكثير؟

العالم في الأحجار الكريمة دوشان سيمتش، يقرّ بوجاهة السؤال، لكنه يجيب على نحو تقليدي، إذ يقول "إن بعض الناس يرغب في اقتناء شيء ينتمي للأرض فعلا، شيء خلقه الله"، حسب تعبيره.

لكن المخرج لا يكتفي بهذه الاجابة، فينقل السؤال الى أحد أباطرة الألماس وهو مارتن رابابورت، صاحب شركة رابابورت للألماس المعروفة في مجال تجارة وتصنيع المجوهرات والألماس، تأسست في عام 1979 في مدينة أنتويرب ببلجيكا، التي اشتهرت بتجارة الماس.

 

الأصل والتقليد

يسرد رابابورت قصة تعود لبداياته في تجارة الألماس، حينما كان يطرق الأبواب لبيع بضاعته، فقد أعطته أمه خمسة آلاف دولار، وعندما اعترض قائلا إنه لا يحتاج إليها، ردّت الأم: ضعها في جيبك. ستتحدث بشكل مختلف، وبثقة أكبر حين يكون في جيبك هذا المبلغ.

من هذه الحكاية البسيطة يمضي رابابورت في شرح وجهة نظره، وهي بالمناسبة تمثل جوهر الفيلم، فيقول حين ترتدي شيئا ثمينا وقيّما وتعرف انه قيّم، فأنت "تتبختر في سيرك"، تشعر بالثقة والاختلاف...". من هنا، فإن الألماس الحقيقي، بحسب رابابورت، يجلب لمقتنيه شعورا "أعرف أنه حقيقي"، ويضيف موضحا، "يمكنك اقتناء لوحة مزيفة لبيكاسو قد تضاهي الأصلية وتعلقها في صالة منزلك، وربما لا أحد يعرف بأنها مزيفة، ولكنك تعرف، وهنا المشكلة...".

بهذا المزج المتناغم بين التسجيلي والروائي، يقود مخرج الفيلم مشاهده في رحلة "ماسية" تبدأ من الولايات المتحدة مرورا بأفريقيا وصولا إلى الهند والصين التي تعد رائدة الآن في مجال إنتاج الألماس الصناعي، والتي تستخدم كذلك لأغراض علمية وطبية. كاميرا الوثائقي تدخل إلى مصنع صيني مختص بصناعة الألماس وتقابل أحد مهندسيه الذي يؤكد أن ثمة طلبا متزايدا على منتجهم من قبل التجار الهنود، وهو ما يجعلهم يعملون بوتيرة عالية.

مصممة المجوهرات آجا رادن في فيلم Nothing Lasts Forever.

ويحاور الوثائقي مصممة المجوهرات أجا رادن التي تكشف بعض الحقائق المسكوت عنها من قبل الشركات المحتكرة لإنتاج الألماس وتجارته، والتي حرصت على تنظيم حملات إعلانية صرفت عليها بسخاء كي ترسخ لدى العملاء فكرة أن الألماس، بوصفه خامة طبيعية ونادرة، لا يمكن إلا أن يكون غاليا، وأن الألماس الحقيقي والوحيد هو ذاك الذي يأتي فقط من باطن الأرض.

وفي الحديث عن هذه الحملات الدعائية الممنهجة، تشير رادن، بصورة خاصة، إلى شركة "دي بيرز  De Beers المعروفة وهي شركة متعدّدة الجنسيات لها الريادة في مجال التعدين وتستحوذ على سوق الألماس عالميا، مقرها في لوكسمبورغ ولها عمليات كبرى في جنوب أفريقيا وكندا، والتي نجحت في إقناع الناس بأن ما يشترونه بأثمان باهظة يستحق هذا الثمن، وفي ضوء هذه الاستراتيجة الدعائية الناجحة تمكّنت دي بيرز، بحسب رادن، من احتكار إنتاج الألماس والسيطرة على أسعاره العالمية التي تتصاعد باستمرار.

وكي تكون الصورة أكثر وضوحا يتوجه المخرج إلى بوتسوانا في أفريقيا ليقابل هناك ستيفن لوسير أحد مسؤولي شركة "دي بيرز"، الذي يقرّ بسريّة عمل الشركة في هذا البلد، وهي تدار منذ مطالع القرن العشرين من قبل عائلة أوبنهايمر التي تشرف على مناجم الألماس هناك، وتملك كذلك مصانع لتعدينه. والسرية تلك مرتبطة بالضرائب وقوانين التجارة التي قد تكبح طموحات تجار الألماس في بلد ما، فينقلون نشاطهم أحيانا إلى دول أخرى لا تلتزم كثيرا بتطبيق القوانين.

ويؤكد مسؤول دي بيرز عن جودة ما ينتجونه من ألماس، لكنه لا يخفي قلقه من ظهور الألماس الصناعي المنافس الذي بات يشكل تهديدا، ليكرر ما قاله رابابورت من أن الألماس الحقيقي هو الذي يأتي من باطن الأرض وعمره ملايين السنين (بعض الألماس عمره يمتد لثلاثة مليارات عام) كما يقول الوثائقي.

نجح خبراء هذا الحجر الكريم في تصنيعه في المختبرات باستخدام تقنيات تحاكي الظروف الطبيعية من ضغط هائل وحرارة عالية، وهما الشرطان اللذان يتشكل من خلالهما الألماس الطبيعي

نصب واشنطن

من جانبه، يحاجج جون جانيك، أحد الباحثين في مجال الألماس الصناعي، أن أسطورة الألماس الطبيعي في طريقها إلى الزوال، ويسوق مثالا عن نصب واشنطن التذكاري الذي اكتمل بناؤه عام 1884 والذي صنع الجزء العلوي منه من معدن الألمنيوم، والذي كان يعتبر من المعادن الثمينة، آنذاك، اذ كان تعدينه صعبا، لكن مع الوقت أصبح هذا المعدن رخيصا بعد انتشاره صناعيا على نحو واسع، وهذا ما سيحدث مع الألماس، أيضا، وفقا لجانيك.

وفي كل هذه المحطات نتعرّف على جانب من حكايات هذا الحجر المشع، والتي جسدت في الكثير من الأفلام، وهو ما يوظفه المخرج في فيلمه، إذ يعرض لقطات ومشاهد وحوارات من أفلام أظهرت التأثير العاطفي لهذا الحجر الكريم، كما عكست مغامرات ومعارك وصراعات بحثا عن كنوز ضائعة من الألماس في مكان ما، فهو حجر كريم أخذ من اسمه كل النصيب، إذ يكرم كل من حظي بقطعة منه.

font change

مقالات ذات صلة