"الخطابة" على "نتفليكس": نجاح تجريبي وعثرات سردية

وسط مشهد سينمائي حافل بالاستكشاف

Netflix
Netflix

"الخطابة" على "نتفليكس": نجاح تجريبي وعثرات سردية

شجّع المناخ السينمائي الملائم في المملكة العربية السعودية الكثير من السينمائيين على خوض تجارب تنطوي على المغامرة والاستكشاف، والعودة إلى تنفيذ سيناريوهات مؤجلة، عبر استثمار ما أتيح من تسهيلات وامتيازات بدأت مع افتتاح أول صالة سينما، قبل خمس سنوات، بعد عقود من الغياب، وامتدّت لتشمل شتى جوانب الإنتاج السينمائي.

ضمن هذا السياق، يمكن الحديث عن فيلم "الخطابة" The Matchmaker الذي بدأت منصة "نتفليكس" بعرضه أخيرا، علما أن هذه المنصة عرضت العديد من الأفلام السعودية في أوقات سابقة، في سعي منها إلى تسليط الضوء على تجارب سينمائية طموحة في بلد كانت السينما فيه شبه غائبة، غير ان السنوات الأخيرة اختزلت عقودا، إذ اندفع السينمائيون السعوديون، والكثير منهم درسوا في أكاديميات أوروبية وأميركية، نحو مواقع التصوير لانجاز أفلام متنوعة المواضيع ومتباينة المستوى لا يجمعها سوى الشغف السينمائي.

"الخطابة"، الذي أنتجته استوديوهات "تلفاز 11"، السعودية، يعد من المحاولات النادرة في السينما السعودية، فهو يقتحم منطقة درامية بكرا تصلح لإنجاز عمل لمختلف، لا يأبه شباك التذاكر، بقدر ما يسعى إلى تجسيد رؤى المخرج

في "الخطابة" للمخرج عبدالمحسن الضبعان، الذي يعد الروائي الطويل الثاني له بعد فيلمه الروائي الأول "آخر زيارة"، نحن إزاء شريط سينمائي ينطوي على نوع من المغامرة، فالفيلم لا يسرد حكاية درامية تقليدية تتطور وفق منطق حكائي متسلسل، بل يلامس مواضيع تتعلق بالأسرة وهموم المرأة، من دون أن يفصح عما يريده بصورة مباشرة.

وينتمي الفيلم إلى نوعية سينما "الإثارة النفسية والرعب"، وهو صنف سينمائي نادر في السينما العربية عموما، باستثناء بعض المحاولات في السينما المصرية، فهذه النوعية من الأفلام تكاد تكون حكرا على "هوليوود" التي تمتلك تقاليد راسخة في الإبهار والخدع البصرية والمؤثرات وغيرها من الجوانب الفنية والتقنية التي تتطلبها أفلام الرعب، والتي ربما لا تتوافر لسينمات فتية، فضلا عن ندرة نصوص "الرعب" العربية، وانشغال المخرجين العرب بقضايا ومواضيع يرونها أكثر إلحاحا وأهمية وجماهيرية.

وبهذا المعنى، فإن "الخطابة"، الذي أنتجته استوديوهات "تلفاز 11"، السعودية، يعد من المحاولات النادرة في السينما السعودية، فهو يقتحم منطقة درامية بكرا تصلح لإنجاز عمل لمختلف، لا يأبه شباك التذاكر، بقدر ما يسعى إلى تجسيد رؤى المخرج الذي شارك في كتابة الفيلم مع الكاتب فهد الأسطاء، والذي قال في تصريحات صحافية سابقة: "كبُرت وأنا أسمع الكثير من القصص التي تحكي روايات عن الحب والانتقام، قصصٌ فيها قوى خارقة أثرَت مخيلتنا كأطفال، ولذلك أردت أن يجمع فيلم الخطّابة جميع هذه الجوانب، واخترت مدينة العلا التاريخية بما فيها من مناظر خلّابة كموقع للتصوير".

يبدو اختيار منطقة العلا، كموقع للتصوير، موفقا، إذ أتاح لمدير التصوير طارق بن عبد الله وللمخرج التقاط جماليات المكان، وبناء مشهديات بصرية، منحت الفيلم الجاذبية، وعززت فكرة أن جغرافية السعودية، المترامية الأطراف، هي بمثابة استوديوهات في الهواء الطلق، لاحتوائها على بيئات متنوعة من الصحراء الى الجبال والشواطئ، وعبق التاريخ في الأمكنة المختلفة، فضلا عن البنية التحتية والخدمات اللوجستية التي دفعت، فعليا، الكثير من السينمائيين الى تصوير أفلامهم في المملكة، مع توقعات بإقبال المزيد من الشركات على تصوير أفلامها هناك.

وسط هذه البيئة الملائمة، تدور أحداث "الخطابة"، وتعبِّر المشاهد الأولى في الفيلم عن أجوائه الغامضة، إذ تتحرك عدسة الكاميرا ببطء، لترصد، على وقع موسيقى مؤثرة حزينة، وزعيق النوارس، منزلا ريفيا مهجورا تحفّ به أشجار النخيل وأغصان يابسة وإكسسوارات فلكلورية تضفي على المشاهد بعدا غرائبيا.

ونسمع خلال هذه المشاهد تعليقا لعجوز تروي حكاية عن فتاة اسمها علياء أحبها رجل وتزوجها لكن سرعان ما عانت من سطوته، فراحت تبحث عن حل دون أن يصغي إليها أو ينتشلها من مهنتها أحد سوى "أذن في الصحراء"، في قصة أسطورية تعيد إلى الأذهان حكاية مماثلة وظفها الروائي والمخرج الأفغاني عتيق رحيمي في فيلمه "حجر الصبر". ففي الموروث الشعبي الأفغاني، تقول الأسطورة إن "حجر الصبر" هو حجر سحري تجلس إزاءه المرأة لتبثه شكواها، ولتبوح بكل ما لا تجرؤ على الجهر به للآخرين. حجر الصبر يصغي ويتشرب كل الأسرار والكلمات إلى أن ينفجر في يوم ما، وبذلك تتخلص المرأة من مكابداتها التي تتبدّد مع تهشم الحجر.

Netflix
مشهد من فيلم "الخطابة"

لكن المشاهد الاستهلالية لفيلم "الخطابة" والتي تتقاطع مع أسطورة الفيلم الأفغاني، لا تقود الى حكاية تقليدية متماسكة، فالفيلم يحفّ به الكثير من الغموض والإبهام، مع حوارات مقتضبة، ملتبسة لا تفصح عن فحوى العمل الذي انحاز لجمالية الصورة، وأهمل عنصرا أساسيا في الفيلم، وهو الحكاية.

بطل الفيلم طارق (حسام الحارثي)، الذي يعمل في قسم تقنية المعلومات في إحدى الشركات، يعيش حياة زوجية رتيبة، ويبدو من ملامحه وردود أفعاله انه يعاني من الملل، ليقع في حب المتدربة في الشركة سلمى (نور الخضراء).

يبدو اختيار منطقة العلا، كموقع للتصوير، موفقا، إذ أتاح التقاط جماليات المكان وبناء مشهديات بصرية منحت الفيلم الجاذبية، وعززت فكرة أن جغرافية السعودية، المترامية الأطراف، هي بمثابة استوديوهات في الهواء الطلق


في ظل هذه الحياة الضجرة، يعثر بطل الفيلم عبر أحد المواقع على شبكة الإنترنت على عرض يوفره أحد المنتجعات يعد بتحقيق ما يصبو إليه أولئك الرجال الذين يعانون من روتين الحياة الزوجية، غير أن هذا العرض المغري ما هو إلا فخ للانتقام من الرجال بتدبير من الخطابة (ريم الحبيب) التي تدير المنتجع، وهي ذاتها علياء، التي عانت ووجدت الخلاص، وهي الآن تعين نساء مررن بتجربة مماثلة لتجربتها، وفقا للأسطورة.

في المنتجع المريب الواقع في قلب الصحراء ثمة طقوس غريبة وأصوات مخيفة وسط ديكورات طبيعية وشخصيات بأزياء غير مألوفة ووجوه متجهمة على الدوام تخلق لدى المشاهد فضولا وترقبا على مدى نحو ساعة وعشرين دقيقة (مدة الفيلم) من دون أن يعثر، في النهاية، على خطوط درامية مفهومة.

Netflix

حين يتجول بطل الفيلم خارج أسوار المنتجع، يكتشف هذه الممارسات المريبة والتي تتمثل في سعي "الخطابة"، إلى معاقبة رجال أهملوا عائلاتهم، وقدموا إلى منتجعها بحثا عن "السعادة المفقودة"، لكن بدلا من ذلك يتعرضون للعقاب، بيد أن بطل الفيلم ينجو من هذا المصير، إذ يعود إلى أسرته بعد خوض هذه التجربة، وبدا أنه توصل إلى قناعة بأن سعادته تكمن في منزله مع زوجته وابنته الصغيرة.

ولعل خصوصية الفيلم تكمن في جرأته على تقديم معالجة بصرية لموضوع من الصعب أن يحظى بإقبال جماهيري، فذائقة الجمهور، ليس السعودي فقط، وانما في العموم، اعتادت على أفلام الأكشن والكوميديا والقصص الاجتماعية المألوفة، فيما يذهب هذا الفيلم، نحو فضاءات مغايرة، تلمح أكثر مما تصرح، وتحفل بلغة الإشارة وبعناصر رمزية، تحفز ذهن المشاهد على الكثير من التأويلات والتفسيرات.

وهذه التجربة السينمائية الخاصة، تضاف الى سلسلة التجارب التي تشهدها المملكة، فهذا الكم الكبير لا بد وأن يفضي، عبر التراكم، الى فيلموغرافيا سعودية نوعية، تعكس نبض الحياة في أرض بكر تخوض السينما مغامرة اكتشافها.

font change

مقالات ذات صلة