الصراع الجيوسياسي في بحري الصين واليابان

Reuters
Reuters

الصراع الجيوسياسي في بحري الصين واليابان

أعلنت وزارة الدفاع الصينية، يوم 15/7/2023، أن القوات المسلحة الروسية ستشارك في تدريبات عسكرية مشتركة تنظمها الصين في بحر اليابان، في المستقبل القريب. وذكرت وزارة الدفاع الصينية، في بيانها: "وفقا لخطة التعاون السنوية بين القوات المسلحة الروسية والصينية، سيرسل الجيش الروسي قريبا القوات البحرية والجوية للمشاركة في مناورات (الشمال- التفاعل 2023)، التي تنظمها قيادة المسرح الشمالي في جيش التحرير الشعبي في الجزء الأوسط من بحر اليابان".

وأشارت الوزارة الصينية إلى أن التدريبات ستركز على موضوع الحفاظ على أمن الممرات البحرية، وستهدف إلى تحسين التفاعل الاستراتيجي بين القوات الصينية والروسية، وتعزيز القدرة على الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين بشكل مشترك، والاستجابة للتحديات المختلفة في مجال الأمن.

يأتي الإعلان عن هذه التدريبات بعد يوم واحد من انتهاء اجتماعات رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) التي اختتمت أعمالها خلال الأسبوع المنصرم في العاصمة الأندونيسية جاكرتا، بمشاركة روسيا والصين، والتي شكلت مناسبة لوزراء خارجية دولها للتعبير عن الهواجس الأمنية والاقتصادية الناجمة عن تصاعد التوتر الجيوسياسي في منطقتهم، لا سيما في بحر الصين الجنوبي، كما قدمت في الوقت عينه منصة لتبادل الاتهامات بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة واليابان من جهة أخرى حيال الأمن في منطقة المحيطين الهادي والهندي.

مخاوف دول آسيان في مهب الاستراتيجية الأميركية

خاطبت وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي ممثلي رابطة آسيان التي تضم 18 دولة، بحضور ممثلي الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب اليابان والهند وأستراليا: "يجب أن لا تكون منطقة المحيطين الهندي والهادي ساحة معركة أخرى". وأضافت: "يجب أن تبقى منطقتنا مستقرة ونعتزم الحفاظ عليها على هذا النحو"، وبهذا عكست "مارسودي" القلق الحقيقي من تحوّل المنطقة التي تحتضن عددا من النقاط الساخنة والنزاعات الحدودية إلى ساحة للصراعات العالمية.

تأتي الدعوة الصينية لمشاركة روسيا في تدريبات "الشمال- التفاعل 2023" بمثابة الرد على الرؤية الأميركية، والتي بدأها فعليا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جاكرتا باتهام الولايات المتحدة باستهداف مجموعة "آسيان"

مخاوف دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) من التصعيد بين الولايات المتحدة والصين كانت حاضرة في المنتدى المنعقد على أرض أحد أعضائها، حيث أكد الأمين العام لرابطة أمم جنوب شرقي آسيا، كاو كيم هورن، في منتدى "حوار شانغريللا" في دورته العشرين التي عقدت في سنغافورة من 2 إلى 4 يونيو/حزيران 2023 على أهمية مركزية آسيان في الهيكل الإقليمي وتكامل الترتيبات الفرعية للدول مع الآلياتِ الإقليمية التي تقودها الرابطة، كما  شدّد على مركزية آسيان في المنطقة، وكيف يمكن أن تشكل بتعدديتها قوة جاذبة في تعزيز الوحدة بين الدول الأعضاء في الرابطة وكذلك التعاون مع الشركاء الخارجيين للرابطة.


في المقابل كان لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن موقف مختلف في التعبير عن وجهة النظر الأميركية حيال الأمن في المحيط الهادي وبحر الصين أمام ممثلي روسيا والصين: "نتشارك رؤية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي تكون حرة ومنفتحة ومزدهرة وآمنة ومتصلة ومرنة... وهذا يعني منطقة تكون فيها للبلدان الحرية في اختيار مساراتها الخاصة وشركائها، ويتم التعامل فيها مع المشاكل بانفتاح وليس من خلال الإكراه"؛ في إشارة مبطنة إلى الصين. وأشار أن كوريا الشمالية تشكل التهديد الأكبر لأميركا وكوريا الجنوبية واليابان، مؤكدا على ضرورة  "الحفاظ على حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والشرقي والحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان".


وفي كواليس القمّة كان للدبلوماسية الأميركية مقاربة أخرى ومحاولة للتخفيف من وطأة المواجهة مع الصين، إذ وجه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن دعوة إلى بكين لإعادة الاتصالات بين الجيشين الأميركي والصيني "بشكل عاجل"، وذلك خلال لقاء جمعه بمدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وانغ يي، على هامش اجتماع "آسيان". هذا اللقاء هو  الثاني بينهما بعد اجتماع في بكين الشهر الماضي وهو يأتي مباشرة بعد زيارة وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، بكين الأسبوع الماضي، حيث التقت عددا من كبار المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم رئيس الوزراء لي تشيانغ، ودعت إلى مزيد من التبادلات والتعاون بين البلدين. 

AFP
مواجهة بين سفينتين من خفر السواحل الصيني والفيليبيني في بحر الصين الجنوبي في 5 يوليو


لقد سبق لواشنطن أن نسجت  سلسلة من التحالفات الأمنية والسياسية لدعم دول بحر الصين الجنوبي في مواجهة بكين، إذ يشهد هذا المسطح المائي إشكالية سيادة ونزاع للسيطرة على الجزر ومياهه ومضائقه المتعددة. وتتكشف المواجهة بين القوتين في بحر الصين الجنوبي، على خلفية توسّع الصين، التي نشرت خرائط شملت غالبية مياه البحر بوصفها صينية مما  أثار احتجاجات بعض دول آسيان، التي تعتبر عددا من الجزر جزءا من أراضيها؛  ففي منتصف شهر سبتمبر/أيلول 2021 الماضي، أعلنت واشنطن عن تحالف "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا في خطوة لإعادة ترتيب هيكل القوة في منطقة المحيط الهادي. وينظر إلى هذا التحالف على أنه محاولة لمواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي، إذ تعد المنطقة بؤرة ساخنة للتوترات على مدى سنوات.

كما سعت واشنطن لإحياء وتنشيط التحالف الرباعي (كواد) (الولايات المتحدة، والهند، واليابان، وأستراليا) الذي تأسس كمنصة للتعاون الأمني والاستخباري بين الدول الأربع ليكون نواة لـ"ناتو آسيوي موسع"، يضم دولا آسيوية وأوروبية وربما دولا شرق أوسطية، في إطار الاستراتيجية الأميركية لـ"احتواء الصين" على غرار استراتيجية الاحتواء تجاه الاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة.
 

تبرر واشنطن أنشطتها باعتبارها عمليات بحرية روتينية لضمان وتأكيد حرّية الملاحة، بينما تقول بكين إن التحركات الأميركية تهدد أمنها وأنها لن تتوانى في الدفاع عن سيادتها وحدودها الإقليمية

وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عقد قادة الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا أول اجتماع مباشر لما يسمّى بتكتل "كواد" تصدرته ملفات عدة أبرزها أمن المحيطين الهندي والهادي.
لقد أخفقت واشنطن حتى الآن في ابتكار إطار جديد يجمعها مع بكين أو في تحقيق أي اختراق في جدار التوتر معها على خلفية مستقبل جزيرة تايوان والمطالبات الإقليمية الصينية في بحر الصين، حيث يبدو أن هناك تسليما بحالة من التنافس الحرج والمفتوح بين الطرفين لا يلامس حدود الصدام، وسعي لتثبيت قواعد التعايش السلمي معها. 

في الردود الصينية الروسية


تأتي الدعوة الصينية لمشاركة روسيا في تدريبات "الشمال- التفاعل 2023" بمثابة الرد على الرؤية الأميركية، والتي بدأها فعليا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جاكرتا باتهام الولايات المتحدة باستهداف مجموعة آسيان والسعي لاستبدالها بـ"استراتيجية المحيطين الهادي والهندي" كما تريد إقحام حلف الناتو في المنطقة. بدورها حذرت الصين من توغل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قارة آسيا، معتبرة أن هذه السياسية الغربية "تقوّض السلام والاستقرار الإقليميين". وقالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية ماو نينغ، في تصريحات صحافية من العاصمة بكين أن "آسيا مرتكز للسلام والاستقرار وأرض واعدة للتعاون والتنمية، وليست ساحة مصارعة للمنافسة الجيوسياسية".

DPA
الاجتماع الآسيوي - الاوروبي على هامش قمة "آسيان" في جاكرتا


تشكل الشراكة الروسية الصينية في التدريبات البحرية أحد أشكال الإعلان عن التوازن في القدرات مع البحرية الأميركية في مناطق اهتمامها التقليدية لا سيما الممرات البحرية. وفي هذا الإطار التقى وزير الدفاع الصيني، لي شانغ فو، القائد العام للبحرية الروسية، نيكولاي يفمينوف، في 3 يوليو/تموز الجاري في العاصمة الصينية بكين، حيث نقلت صحيفة "تشاينا ديلي" في بيان صادر عن وزير الدفاع الصيني، إنه في ظل توجيهات رئيسي البلدين تطور التعاون العسكري بين الصين وروسيا بشكل متزايد، ولدى البحريتين تفاعلات وثيقة وتبادل دائم للخبرات... إلى جانب التوسع في التعاون العملي في المجالات المهنية للإسهام بفعالية في السلام والاستقرار الإقليمي وحتى العالمي، كما أكد القائد العام للبحرية الروسية أن روسيا مستعدة للتنفيذ الصارم للتوافق الذي توصل إليه الزعيمان، ودفع العلاقات العسكرية الثنائية باستمرار إلى مستوى أعلى.


وفي وقت سابق من الشهر الجاري أعلنت وزارة الدفاع الروسية، عن قيام سلاحي الجو الروسي والصيني بمناورة مشتركة في آسيا والمحيط الهادي بقيادة حاملتي صواريخ استراتيجيتين من البلدين. وقالت الوزارة في بيان لها: "في 7 يوليو/ تموز 2023، أجرت القوات الجوية الروسية والقوات الجوية لجيش التحرير الشعبي الصيني دورية جوية مشتركة أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادي فوق مياه بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، والجزء الغربي من المحيط الهادي".


هذا وقد سبق ذلك تدريبات مشتركة ومناورات بحرية ذات طابع هجومي أجرتها روسيا والصين في بحر الصين الشرقي من 21 حتى 27 ديسمبر/كانون الأول 2022 باسم "التفاعل البحري 22"  قبالة شواطئ مقاطعة تشنغيانغ الصينية، حيث قالت وزارة الدفاع الروسية إن السفن الحربية التابعة لأسطول المحيط الهادي والقوات البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني أكملت المهام العملية في بحر الصين الشرقي في إطار التدريبات البحرية الثنائية".
 

رغم توافق دول رابطة "آسيان" على العناوين الرئيسة المتعلقة بالحفاظ على الاستقرار وحل الخلافات عبر الحوار، فإن هناك تباينات بين الأعضاء حيال المقاربة مع الصين

وتتكرر الصدامات بين الطرفين في منطقة المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، من خلال تحريك قطع عسكرية في المنطقة. وتبرر واشنطن أنشطتها باعتبارها عمليات بحرية روتينية لضمان وتأكيد حرّية الملاحة، بينما تقول بكين إن التحركات الأميركية تهدد أمنها، وأنها لن تتوانى في الدفاع عن سيادتها وحدودها الإقليمية. كذلك يشهد مضيق تايوان منذ الصيف الماضي اضطرابات غير مسبوقة على مستوى المناورات العسكرية، حيث طوّق جيش التحرير الشعبي الصيني جزيرة تايوان أكثر من مرة خلال العام الحالي، وأجرى في المضيق مناورات ضخمة ردا على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان في أغسطس/آب الماضي ثم لقاء رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، رئيس مجلس النواب الحالي، كيفن مكارثي، في كاليفورنيا في أبريل/نيسان الماضي، في وقت تعزّز فيه الولايات المتحدة من وجودها العسكري في المنطقة، وسط تحذيرات متكررة من بكين. 

AFP
وزير الخارجية الاميركي انطوني بلينكين ومسؤول السياسة الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني وانغ dي في مستهل اجتماعهما على هامش قمة "آسيان" في جاكرتا في 13 يوليو


فيما تعلن بكين أن الاستراتيجية الصينية للعلاقات بين دول بحر الصين الجنوبي والشرقي وبحر اليابان تتمحور حول جملة من المبادئ التقليدية ومنها دعوة دول العالم إلى الالتزام برؤية للأمن المشترك والتعاون في إطار تعددي، والالتزام باحترام سيادة وسلامة أراضي جميع الدول وضرورة أخذ الهواجس الأمنية المشروعة لجميع البلدان بعين الاعتبار، ترى الولايات المتحدة في هذا محاولة صينية للسيطرة على دول المنطقة تحت أطر وعناوين وتحالفات تهدف إلى تطوير القدرات العسكرية الصينية وفرض توازن قوى جديد وقواعد لنظام عالمي جديد.
وبرغم توافق دول رابطة آسيان على العناوين الرئيسة المتعلقة بالحفاظ على الاستقرار وحل الخلافات عبر الحوار، فإن هناك تباينات بين الأعضاء حيال المقاربة مع الصين، حيث تسعى دول من بينها ماليزيا وسنغافورة للتقارب والحوار معها، بينما تميل بعض الدول أكثر للموقف الأميركي، وخاصة الفلبين التي ترتبط بتحالف عسكري مع واشنطن- بما في ذلك تسيير دوريات مشتركة في بحر الصين الجنوبي- وهو ما يثير حفيظة الصين.


لقد أظهرت النقاشات التي جرت في منتدى حوار شانغريللا كما في اجتماعات دول آسيان مدى تأثير التوتر بين الولايات المتحدة والصين على الأمن في آسيا، وتنامي القلق لدى دول المنطقة جراء تداعيات ذلك على الاستقرار ليس فقط في منطقة بحر الصين الجنوبي، وإنما في منطقة المحيطين الهندي والهادي وربما في العالم أجمع. هذا بالإضافة إلى أن تنامي النفوذ الصيني الاقتصادي سيرفع منسوب القلق لدى العالم الغربي وسيؤدي إلى تطوير قدراتها العسكرية ولاسيما البحرية بكل ما يحمله من تحدٍّ للهيمنة الغربية.
وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة ستواصل سياسة المواجهة مع الصين، من خلال تعزيز علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة أو ربما استحداث أحلاف جديدة على غرار الناتو، وهو ما حذرت منه الصين معتبرة أن ذلك سيغرق المنطقة في دوامة من النزاعات. وفي ظل السياق الذي تنظر فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الصين على أنها "تهديد عسكري" وتثابر على اتخاذ إجراءات لردعها، فمن الصعب توقع أي اختراق في العلاقات الصينية الأميركية في المدى المنظور؛ بل يبدو أن منطقة جنوب وشرق آسيا ستبقى محكومة بالبحث عن سبل للتعايش مع توازن القوى القائم وهذا ما سيلقي بظلاله على دول بحر الصين وبحر اليابان وعلى كامل منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
 

font change