أحمد راضي: هدف في مرمى الحياة

اللاعب الذي صار مثالا لأجيال من العراقيين

Getty/AFP/Eduardo Ramon
Getty/AFP/Eduardo Ramon

أحمد راضي: هدف في مرمى الحياة

في حصة اللغة العربية، سألتنا المعلمة: من مَثَلُكُم الأعلى؟ وبالنسبة إلى صبي في التاسعة يرى لَعِبَ الكرة في الشارع ليس محضَ تسلية، بل العالمَ كلَه، فإنني لم أختر شخصية دينية أو بطلا خارقا. بقيتُ صامتا أسمع إجابات صحبي وأنقذني جرس الفرصة من الجواب.

حين وعينا على فكرة المنتخب الوطني كان العراق مُعاقَباً من "الفيفا" بسبب غزو الكويت. لم نلعب منذ سبتمبر/أيلول 1990. حُرم العراق من لعب تصفيات كأس آسيا 92، وأولمبياد برشلونة، والدورة العربيّة في سوريا. لم تُتَح لنا، صبية ذلك الزمان، رؤية نجوم الدوري يتوحّدون في قميص واحد، يردّدون النشيد، ويقارعون الفرق الأخرى.

وفجأة، وفي 18/8/1992، وجدتُ نفسي وجها لوجه مع أفراد منتخب البلاد. لَعِب العراق أمام أثيوبيا أولَ مباراة بعد الحظر الدوليّ على ملعب مدينة إربد في بطولة الأردن الدولية التي ضمت ثماني فرق وأقيمت تحضيرا لتصفيات كأس العالم 1994. في تلك الليلة التقيت بطلي، وعرفت مثلي الأعلى!

كنتُ عند جدّتي لأمي حيث تعوّدت المبيت عندها بعض ليالي الأسبوع. حقّق الفريق العراقي ليلتها أعلى نتيجة فوز في تاريخه 13- صفر ضد أثيوبيا. سجّل أحمد راضي خمسة أهداف منها (شريط المباراة على يوتيوب يبين أنه سجّل ستة أهداف). حتى اليوم لم يستطع لاعب عراقي كسر هذا الرقم. سجل أحمد خماسيّته من كل مكان في صندوق الجزاء، وبكل الطرق. عَبَر فوق الحارس؛ سدّد بيمينه متزحلقا؛ وسدّد بيساره واقفا. وسجل هدفا هو نسخة الهدف الجنوني لريفالدو البرازيلي على تركيا في مونديال 2002. قبل ريفالدو بعشر سنين استقبل أحمد كرة عالية من يمين الملعب ليخمدها بصدره ويدور مع حركتها ملتفّا مثل راقص باليه ويلمسها بيمنه مهيئا الكرة للتسديد ثم يضعها باليسرى على يمين الحارس، لم يكن هدفا بقدر ما كان رسمة بضربات رشيقة لبيكاسو، أو قفلة بالغة الرقة لموتزارت. أما هدفه الخامس فبدا فيه لاعب سيرك، واثقا، يمشي على الحبل مغمض العينين، تسلم كرة في مساحة ضيقة وتخلص بخفّة من التحام المدافع العنيد ليراقص الحارس ويراوغه مودعا الكرة من زاوية ضيقة. لا يريد هذا النورس أهدافا عادية، كأنه لفرط ما اعتاد هزّ الشباك بات ملولا بالعاديّ، المكرور منها، متحريا النوعيّ، والفنيّ، والمعجز فيها.

منذ تلك الليلة، تولّد عندي ارتباط غامض، بالغ الحساسيّة، بذلك اللاعب الذي خطف قلوب العراقيين، وبحّت تشجيعا له حناجر الجماهير، واستُنفدت صيحات المعلق الشهير مؤيد البدري، وأعلن أول انتصار لهم بعد سلسلة هزائم سياسية واجتماعية. كان فوزا كاسحا عكس الكبت القاهر الذي اجتاح المواطن العراقيّ وهو يرى العالم كله، يجتمع ويُجمع على حربه وحصاره، وهو مسلوب الإرادة من سلطة لا ترحم، تتحكّم في مصيره.

كان أحمد راضي نموذجا فريدا اجتمعت فيه النقائض الضديّة لصورة البطل أيقونيا. فقد كان نحيلا، ضعيف الكتلة العضليّة، بوجه يبدو عليه الإرهاق المزمن، لكنه في الوقت نفسه مألوف، وسيم، ومسالم. عكس الصورة النمطيّة عن البطل الرياضي الضخم الجثة، المفتول العضلات، المتورّد الوجه، بتقاطيع حادّة، ونظرة جديّة لا تسامح فيها. كان أحمد راضي قليل الحركة، نادر الالتحامات، خاملا. لكن ما إن تصله الكرة حتى يتحوّل إلى صقر لا يُخطئ فريسته. أنت وقتها على موعد مع مفاجأة تأخذك من لحظتك الأرضيّة إلى فضاء الدهشة. مثل شاعر يبدأ قصيدته بكلام عاديّ جدا، لا شعر فيه، ولا استعارة، وقبل أن يتسرّب اليك الملل، تماما قبل أن ينتهي السطر، يقلب المعادلة كلها بكلمة واحدة. ويتركك فاغر الفم، مضطرب النبض. رأيت أحمد راضي، ليلتها، شاعرا يكتب بقدميه.

لكن سيرة تميّز أحمد راضي أميش الصالحي بدأت قبل هذا الموعد بكثير. مثل أي موهبة خارقة، شقّ الفتى طريق المجد بسرعة لا تُصدّق، وكان أول لاعب عراقي يُستدعى إلى المنتخب الأول من فريق شباب النادي!

 منذ تلك الليلة، تولّد عندي ارتباط غامض، بالغ الحساسيّة، بذلك اللاعب الذي خطف قلوب العراقيين، وبحّت تشجيعا له حناجر الجماهير، واستُنفدت صيحات المعلق الشهير مؤيد البدري، وأعلن أول انتصار لهم بعد سلسلة هزائم سياسية واجتماعية


ولد راضي في حي العامل، غرب كرخ بغداد 21 أبريل/نيسان 1964 لعائلة كبيرة، كان إخوانه علي وصالح وفاضل يلعبون الكرة في الفرق الشعبية. برع أحمد بلعب الكرة في ساحات حي العامل. 6 ساعات يوميا كانت خير تمرين لصقل مهارات الفتى المهووس بركل الكرة وايداعها الهدف. طول فارع ورشاقة مقرونة بمرونة مع موهبة فطرية في المراوغة والمناورة والتمويه ودقة التسديد بكلتا القدمين، كل ذلك ممزوج بإجادة متفرّدة لألعاب الهواء. انضمّ سريعا إلى مركز شباب اليرموك إذ دربه وقتها طالب الهاشمي. لكنّ نقطة التحوّل كانت الإعلان الذي قرأه عن اختبارات مواهب يستضيفها ملعب الشعب الدوليّ. خضع يومها لاختبار المدرب ثامر محسن الذي رأى في ما رآه نبوغا يسبق أوانه. أرسل إلى مدرب منتخب العراق للأشبال ممتاز توماس الذي كان يحضر فريقا لبطولة غوتا في السويد 1979 وأوصاه خيرا بالفتى. ذهب المنتخب إلى البطولة وحصد المركز الأول فيها.

بعد عام واحد، خاض أحمد راضي، مغامرة دالّة، اختبار فريق شباب الشرطة تحت أنظار مظفر نوري، ونجح في الاختبار، كان وقتها أول لاعب يلعب في فئة الشباب (التي يفترض أنها تحت العشرين) وهو بعمر 16 سنة فقط!

في متوسطة الوثبة، شارك أحمد مع فريق المدرسة في دوري بغداد للمدارس المتوسطة وحصلت المدرسة على لقب البطولة. ثم استُدعي لمنتخب تربية بغداد المجمع من خيرة لاعبي مدارس العاصمة وفاز بالبطولة أيضا.

بعد عامين فقط، يعود الفتى الموهوب ليشارك مع منتخب الناشئين في بطولة غوتا ذاتها، مسجلا سبعة أهداف، حائزا لقب الهداف. وضعه الإنجاز الفرديّ المبكر تحت أنظار المدرّبين الباحثين عن الجواهر. هكذا تلقفه مدرب منتخب التربية ليضمّه إلى شباب الزوراء الذي لم يكن مدرب الشباب فيه مقتنعاً بقدرات اللاعب. فقد انتقد ضعف بنيته الجسمانية، وهدوءه الذي يوحي بالخمول في لعبة تتطلب الالتحام والفورة الجسدية. كان أحمد راضي، منذ البدء، منتميا الى مذهب الجمالية في اللعب، لا القتال والركض المحموم وراء الكرة. كان ذلك الساكن الذي يقرأ أبعاد الملعب والمرمى وحركة اللاعبين منتظرا لحظته بحكمة العارف وذكاء المتيقن.

إن سمة لافتة ظلت ملاصقة لأحمد راضي منذ لحظة الشروع في مسار اللعبة الأكثر تأثيرا في البشرية، وهي أنه، وبسبب موهبته الفذّة وثقته العالية بنفسه –حد التهوّر-، لعب دائما مع من هم أكبر منه سنا، وبالتالي قارع طوال حياته من بدا أنه الأقوى والأشد بأسا. وسنرى لاحقا أنها سمةٌ رافقته طوال حياته، حتى بعد اعتزاله اللعب، ودخوله معترك التدريب أولا، والإدارة الرياضية ثانيا، ثم السياسة والبرلمان العراقي ثالثا، وسعيه آخر حياته إلى منصب وزير الشباب والرياضة.

AFP

كان أحمد عرضة لحرق المراحل، للشغف والطموح الذي استنزفه طوال الوقت، لعب في فريق الناشئين وهو في عمر الأشبال، وشارك في منتخب شباب العراق وهو بعمر الناشئين، بل إنه دخل تدريبات منتخب العراق الأول بعمر 17 سنة كأصغر لاعب يُستدعى إلى الخط الأول عبر التاريخ. قد يكون الطموح منجاة للغلبة، وقد يكون في الوقت نفسه مقتلة ومهوى.

في عام 1981 دخل نادي الزوراء أكبر الأندية العراقية جماهيريةً ليحقّق حلمه في اللعب للنوارس (لقب النادي). وأن يقترب أكثر من مَثَلِه الأعلى فلاح حسن، استمر في شباب الزوراء لموسمين لكنّ تألقه اللافت جعل مدرّب حرّاس مرمى المنتخب الوطني يقترحه على عمو بابا، المدرب التاريخي العراقي الأشهر الذي كان يَعُدّ العدة لبطولة خليجي أبوظبي 1982.

قطع عمو بابا إلى ملعب صلاح الدين 165 كلم ليشاهد الفتى الظاهرة في مباراة شباب الزوراء وشباب صلاح الدين وليقرّر استدعاءه الى المنتخب الأول، مما أحدث ضجة إعلامية منقطعة النظير وقتها.

 

المواطن النموذج

أَحَبّ الناس أحمد راضي لأنهم وجدوا فيه صورة المواطن العاديّ المخترق للمجتمع. شاب من عائلة جنوبية كادحة استقرّت في حي بسيط ببغداد. لم تملك فرص الرفاهية وأسباب التفوق (يقطع يوميا مسافة 4 كيلومترات ليصل إلى ملعب التدريب سيرا). رأى الناس فيه أنفسهم وأحلامهم. لقد أشعرهم أن الأمر ممكن، وأن المجد لا يقتصر على أبناء القصور. فتى يشبه معظم فتيان جيله، يخرج من الحارات الفقيرة، ليصعد سلم الشهرة، ويرتقي منصات التتويج، يصافح الملوك، ويلتقط صورا مع الرؤساء. صار أحمد راضي سريعاً وهو في مقتبل العمر مثالا وحكاية تتلى، تُعلّق صوره قرب أسرة الفتيات والفتيان، وتلاحق صحافة بغداد وعدسات مصوريها أخباره. لا يكاد يمر يوم دون صورة له في الصحف. كان وجهه الأوسع حضورا بعد صور الرئيس وابنه. وتفوّقت شهرته على أشهر مطربي البلاد وممثليها وشعرائها.

في بداية التسعينات، في ظل الحصار الاقتصاديّ، كنت أُحايل والدتي للحصول على مبلغ مالي مدعياً شراء الحلوى من السوق القريب، غير أني كنت أبدّد أموالها على الصحف. أقف على طاولة بائع الجرائد أستاذ ياسين وأقول له: أي صحيفة نشرت اليوم صورة، خبرا أو حوارا لأحمد راضي؟ فيقول "القادسية" أو "البعث الرياضي" أو "العراق"، فتكون الصحيفة/الصورة ما أعود به جذلا، خافق القلب. لأقصّ المراد وأضمّه إلى ألبوم هو دفتر مدرسيّ احتفظت فيه بكل معلومة عن حياة نجمي المفضل. كل شيء عدا عيد ميلاده باليوم والشهر، إذ كنت أعرف السنة فقط. لقد وصلت ثروتي، بعد حين، لأكثر من ألفي صورة ومئات الأخبار والحوارات.

Getty Images
المنتخب العراقي في كأس العالم عام 1986

مثلي، آلاف ممّن ولدوا في ثمانينات القرن الماضي كان أحمد راضي يشكّل بالنسبة إليهم نموذجا اجتماعيا يدفعهم إلى تحقيق أهدافهم ليس في الرياضة فحسب بل في الحياة. مثله أرادوا أن ينجحوا، وأن يتفوقوا، وأن يتكلم الناس عنهم، ويتغنوا بإنجازاتهم، مثله أرادوا أن يكونوا وسيمين، أنيقين تعشقهم النساء وتعجب بهم، فقصّوا شعرهم على طريقته وقلّدوا مشيته واحتفلوا بأهدافهم برفع قبضة اليد اليمنى عاليا وهزّها بتوهّج، تماما مثلما كان يفعل. خجلى، مبتهجين، مثله، متطلعين للحياة محبين لها في بلد كل ما فيه يجرّك الى جبهة القتال.

توحّد العراقيون حول لاعبهم الأوّل أكثر من مرة، وشهدت البلاد ذروة تعاطف اجتماعي لم تحدث مع لاعب غيره. مرّة حين تعرّض للإيقاف من "الفيفا" بعد ملابسات عقد نادي السد القطريّ، الأمر الذي دعا رئيس نادي الزوراء لإطلاق نداء استغاثة إلى الشعب للتبرع لنجمهم المفضل وسداد قيمة عقده لرفع الحظر عنه، ومرة حين سجل الهدف العراقيّ الوحيد في نهائيات كأس العالم 1986 بمرمى جان ماري باف أفضل حارس في البطولة وقتها، ومرّة حين فجعت البلاد عن بكرة أبيها بخبر موته الصادم جراء مضاعفات كوفيد 19 بعد خمسة أيام فقط من صراعه مع الشبح القوي. بين توتّر تلك اللحظات الثلاث ثمة ذروات عديدة لم تنقطع، وحّد فيها أحمد راضي العراقيين بصيحات النشوة ودموع الفرح الذي كان يهديه إليهم مع كل هدف دوليّ يسجله (65 هدفا دوليا). وذروات أكثر لأهدافه مع الزوراء والرشيد العراقيين، والوكرة والعربي القطريين، الأندية التي لعب لها.

كان أحمد راضي قليل الحركة، نادر الالتحامات، خاملا. لكن ما إن تصله الكرة حتى يتحوّل إلى صقر لا يُخطئ فريسته. أنت وقتها على موعد مع مفاجأة تأخذك من لحظتك الأرضيّة إلى فضاء الدهشة

برهانا على امتزاج العراقيين بنجمهم الرياضيّ أنهم أدخلوه بعفوية عالم الأمثال الشعبيّة. ولا أظن –إن لم أكن مخطئا- أن هناك شخصية عراقيّة صارت مثلا يُضرَب بين الناس في معاملاتهم اليوميّة، سواء أكان حاكما أم فنّانا أم مطربا. "جديدة الكلة على أحمد راضي؟" مثل شعبيّ شهير متداول منذ ثمانينات القرن الماضي بين العراقيين. و"الكلة" هي ضربة الرأس الهوائيّة للاعب الكرة باللهجة العراقية الدارجة. ويُضرَب المثل لمن جاء عملا معتادا عليه، مُتَوقّعاً من سجيته. فلا غرابة ولا استغراب، كما لا غرابة أن يأتي أحمد راضي بهدف من ضربة رأس.

فاز أحمد راضي بجائزة أفضل لاعب في آسيا (الوحيد عراقيا في التاريخ)، وبطولة الدوري المحليّ خمس مرات، وكأس العراق سبع مرات، وكأس الأندية العربية للأبطال (3 مرات)، وكأس الخليج العربي (مرتين)، وكأس العرب (مرتين). مع تأهل تاريخيّ لمونديال المكسيك 86 وتأهلين للأولمبياد 84 و88 على التوالي. أما الألقاب الفرديّة والأرقام القياسيّة فلا يتسع المجال لذكرها هنا. لكن الجائزة الكبرى باعترافه كانت ذلك التواشج الخاصّ بينه وبين الجمهور، كان حبّ الناس حائط الصدّ الأوّل في كلّ أزمة واجهته. لن ينسى كيف حاصر جمهور الزوراء مبنى النادي وأغلق الأبواب غضبا من رئيس الهيئة الإداريّة روكان عبد الغفور (مرافق صدام حسين) لخلاف تعرّض فيه لاعبهم للإبعاد.

AFP/Getty Images
لاعب كرة القدم العراقي أحمد راضي يتسلم جائزة فخرية من عدي صدام حسين في بغداد.

التفوق والموهبة الفطريّة والمثابرة المحمومة والشخصيّة الخاصّة كلها دفعتني للمحاولة الشخصية في البحث عن التميز والنجاح في الحياة. انجذب نجمي لمجرته وتذكّرت وقتها معلمة اللغة العربيّة. أردت لبطلي أن يكون بشريا، يعيش بيننا، أرى معجزاته بعينيّ وأتحسس فرادته بجوارحي. من ذلك الدافع بدأت البحث عن الجوهر في ذاتي. قاتلتُ لأكون لاعبا مثله. لكني لم أوفّق. ربما لم أكن ببراعته على الرغم من أني سجّلت كثيرا في شوارع حي القلعة في علي الغربي وحي الإعلام ببغداد. وربما لأنّ الظروف لم تخدمني.

بعد لأي، توصلت إلى اللحظة التي عرفت بها قدري. أحببت الشعر بجنون. وتعلّقَ قلبي مجاز الشعراء كما تعلّق مهارة المهاجمين. أيكون الشعر كرة قدم الأدب؟

بعد حين، كتبتُ أول قصيدة لي. وتذكرت أحمد راضي لحظتها.

 

الركض تحت درجة 50 مئوية

ذات يوم، وعبر برنامجها الإذاعي الشهير "ستوديو عشرة"، أعلنت الإذاعية أمل المدرس أن ضيف الحلقة أحمد راضي، تسمّرت قرب راديو "القيثارة" أصغي إلى المقابلة. كانت أمي تحضّر الغداء، منهمكة بتقطيع الخضروات وتجهيز القدر. قبل الختام، قالت المذيعة بصوتها الرخيم: الآن سيكون الكابتن متاحا لكم أيها المستمعون، ليرد على اسئلتكم، أمامكم نصف ساعة!

لا أعرف ما الذي جعلني وقتها أقرّر وبشكل قاطع أني سأتصل بالكابتن لأسأله عن المعلومة الوحيدة التي تنقص دفتري المدرسيّ: يوم ميلاده والشهر. كان القضاء الذي نعيش فيه يبعد 280 كلم ولا يمكنك الاتصال منه بالعاصمة بغداد مباشرةً، عليك أن تقطع 3 كلم لتصل الى مبنى البريد والاتصالات المركزيّ لإجراء اتصال خارجي. أمامي نصف ساعة فقط لأصل وأجري محاولة قد لا تنتهي بحصولي على خط الإذاعة. لا أملك ثمنا لسيارة أجرة بالطبع. ليس أمامي سوى الركض حتى مبنى البريد! صرخت أمي ناهرةً خائفة، لأن عليّ قطع شوارع عامة وحدي واجتياز بستانٍ يضم كلاب حراسة، وعبور دجلة عبر جسر غير مأمون، لكني كنت قد قطعت آخر زقاقنا بأقصى سرعة حتى تلاشى صياح أمّي في الهواء.

وصلت المبنى في 15 دقيقة. أعطيت الرقم للموظف ودخلت كابينة الاتصال. كان العرق يرشح غزيرا وأنفاسي مقطوعة والشمس أشعلت في رأسي حريقاً:

"طوط. طوط"

-الو... أحمد راضي موجود بملعب "ستوديو عشرة"؟!

-هلو حبيبي. لا. موجود بملعب الكشافة! ههههههه

-ما بال هذا الموظف البارد؟ لماذا لا يحولني الى الكابتن لأسأله؟ تخيلت أنني أُحادث الكونترول بالضرورة. حين قاطع أفكاري صوتٌ رحيم.

-تفضل. عندك سؤال؟!

-(هاي شنو؟ يعني ما راح أحجي وي الكابتن)... إي! إي! عندي سؤال.. شوكت عيد ميلاده؟!

-سجل يمك: 21/4/1964

"طوط... طوط... طوط"

نعم، رجعت بالمعلومة الناقصة واكتمل عقد دفتري، لكنني لم أكلّم أحمد راضي. ما أتعس حظي. لقد كان بيني وبينه موظف الكونترول فحسب، يا إلهي، لماذا لم أطلب منه بوضوح: رجاءً، حوّلني لو سمحت إلى الكابتن لأسأله بنفسي وأخبره كم أحبّه وأني سأصبح مثله. لماذا تردّدتُ؟

لكن، لحظة، من أين جاء الموظف بالمعلومة أصلا؟ وكيف يعرف عيد ميلاد الكابتن؟ ضحكت أمي طويلاً حين أخبرتها ما جرى: لقد كنتَ تُكلّم أحمد راضي يا ولد! لكن الشمس طوّحت بذهنك بعيدا، كما يطوّح مهاجم بالكرة عاليا في مباراة نهائية.

رأى الناس فيه أنفسهم وأحلامهم. لقد أشعرهم أن الأمر ممكن، وأن المجد لا يقتصر على أبناء القصور. فتى يشبه معظم فتيان جيله، يخرج من الحارات الفقيرة، ليصعد سلم الشهرة، ويرتقي منصات التتويج

استضافت الدوحة أواخر 1993 التصفيات الآسيوية النهائية المؤهلة لكأس العالم 1994. كان أحمد راضي وقتها في قمة نضجه الكروي. قاد العراق إلى تصدر مجموعته في التصفيات الأولية مسجلا 5 أهداف. لكن الحلم الذي بدا في المتناول ذُبح على مقصلة كوريا الشمالية أضعف فرق البطولة. خسر العراق المباراة 2-3 بعد طرد سعد عبد الحميد وخطأ فني من المدرب بإخراج لاعب الارتكاز نعيم صدام. تغير الجهاز الفنيّ، وجاء عمو بابا منقذا، لكن المواجهات كانت صعبة. أراد ابن الرئيس التأهّل للمونديال تلميعا لصورة نظام والده المحاصر، وأراد العراقيون التأهّل لأن كأس العالم هي البطولة الأهم. كان ذلك الجيل يستحق التأهل. فهو الوشل الأخير لجيل الكرة العراقية الذهبيّ. لم تنفع 3 كرات ملعوبة بحرفيّة وضعها أحمد راضي في مرمى كبار القارة: إيران والسعودية واليابان في مساعدة الفريق. أتذكر مباراة كوريا إلى الآن. وكيف خيّمت المرارة على شوارع المدينة كأنّ فاجعة حلت بالناس. هل سيصدّقني أحد لو قلت إن كابوسها يدهمني بين فترة وفترة حتى اليوم، وبعد ثلاثين سنة، فاستيقظ على شعور مرير بالحسرة؟ كان يمكن لفوز المنتخب يومها أن يشكل عزاءً للعراقيين، كان يمكنهم أن ينسوا قليلا الأمراض التي تفتك بالأطفال لو شاهدوا نجمهم الوسيم يلعب إلى جانب مارادونا وروماريو وباجيو وماتيوس في بلاد العم سام. فقد كانت الكرة –ولا تزال- أفيون الشعوب الحديث.

هزيمة الدوحة كسرت آخر فرصة للوجود في المونديال في حياة النورس الطائر. في المونديال المقبل سيكون بعمر 33 سنة، وستكون الملاعب قد استنزفت منه الشغف قبل الطاقة، وتكون عقوبات عدي صدام حسين جرحت إنسانه وأوصلته حدود الجزع. وبالفعل غادر أحمد إلى الدوري القطري لاعبا في الوكرة، وانقطعت أخباره عن محبيه، فلاقطات البث الفضائيّ غير مسموح بها في عراق التسعينات. هكذا لم يعد بإمكاني، بعد الآن، انتظار صورة جديدة من العم ياسين بائع الجرائد لأضمها الى دفاتري.

في 13 أغسطس/آب، لعب العراق في تصفيات أمم أسيا. تأهل بصعوبة ولم يسجل كابتن الفريق. بدا انخفاض مستواه الفني واضحا، فتنافسية الدوري القطري محدودة مقارنة بدوري العراق الملتهب وقتها. استدعي أحمد إلى بغداد وعُوقب بمعسكر ضبط "تأديبيّ" يُجرى للجنود المتمردين عادةً. أسبوع من السجن والضرب اليومي مع "تغطيس" بحوض المياه الآسنة. "بكيت بحرقة وقتها. كانت العقوبة الأقسى. تمنيتُ لو لم ألعب كرة يوماً. لقد صغرت الدنيا بعيني" قال لي أحمد راضي ذلك عام 2017. بعد الحادثة بأسبوع تعرّض عدي صدام حسين لحادث اغتيال نجا منه بأعجوبة، لكنه بقي على إثره معوّقا حتى نهاية حياته.

 

عودة النورس الى دجلة

بعد ثلاث سنوات، عاد النورس إلى ضفاف دجلة وترك الهجرة/الاحتراف، قضى موسمه الأخير في بيته (الزوراء) جالبا لهم ثنائية الدوري والكأس. اعتزل أحمد الاعتزال الأمثل، وسط محبيه، وعلى أديم ملعب الشعب الذي تغنّى بأهدافه. سجّل في آخر مباراة رسمية في مشواره الرياضي بمرمى نادي الكرخ بعمر 35 سنة بارتقاء مذهل. رفع درع الدوري وتجول حاملا ابنته هيا عبر أرجاء الملعب ملوّحا لعشاقه الذين لم يعد بإمكانهم مشاهدة سحره بعد اليوم. إن من مساوئ الأقدار أن فترة توهّج أحمد جاءت خلال أشد فترات العراق عزلة عن المحيط العالمي رياضيا، ويقينا أنه لو لعب جميع البطولات الخليجية والعربية والعالمية على صعيد الأندية والمنتخبات لحقق أرقاما وبطولات تصمد مائة سنة على الأقل.

بعد الاعتزال دخل عالم التدريب. وسريعا بعد الاحتلال انتقل إلى عالم الإدارة الرياضية (تجربة قصيرة ناجحة في رئاسة نادي الزوراء)، ثم دخوله البرلمان (تجربة فاشلة باعترافه كلفته الكثير من جماهيريته). في ذلك الوقت يبدو أنني حقّقت شيئاً بسيطاً من حلم أن أصير مثالي الأعلى. نشرت عدداً من الكتب، فزت بجوائز، وبدأ بعض الناس –وهم قلة على كل حال- يعرفونني، قرّرت يومها إخبار صاحب الفضل بالقصة.

فتحت "إنستغرام" على صفحته الشخصية، وبدأتُ كتابة الحكاية، كما هي، وكما كتبتها الآن في هذه المقالة، بلا انفعال أو افتعال. ساعة، وتضيءُ شاشة الموبايل: رسالة من أحمد راضي:

"حبيبي الورد علي. احبني اشخاص كثيرين وكتبوا عني كبار ومدحتني جماهير غفيرة. لم يؤثروا بي قدر كلماتك هذه. أنا آسف لم اعطك قدر حبك. ليس تقصيراً مني ولكن لم يحالفني الحظ لكي أحبك بقدر ما أحببتني. أشكرك أيها الرائع. وربي يوفقك ويحفظك".

تمخّضت الرسالة لاحقا عن صداقة استمرت حتى رحيل الأسطورة عن عالمنا. لكن الصلة التي عقدها أحمد مع الآلاف من محبيه لا يستطيع الموت قطعها. ثمة، في الحياة، دائما، مَن ينتصر على الفناء بالقوّة الخلّاقة التي يمنحها الفن والابداع. كان صاحب الرقم (8) قد تحول إلى معنى، وجاء الموت ليكرّس المعنى ويمنحه المشهد الختامي المستحق. هل يمكن اقتصار قيمة بيليه وميسي بما فعلاه داخل الملاعب؟ هل ينتهي تأثير كرة القدم بعد نهاية المباراة؟ تظل هناك نماذج يشكّل وجودها -الأرضيّ- الفريد لمحة برق خاطفة من أبديتها في الوجود. ذلك لأن حقيقة الابداع متجدّدة ولا نهائيّة، تشعُّ ما بقي الناس والأرض وتنفّس الإبداع هواء الكوكب. لقد سجل أحمد راضي أهدافا كثيرة، لكن هدفه الأغلى تينك القوة والسحر اللذان يتجدّدان في صدور محبيه كلما تذكروه. إنه هدف لا ينتهي في مرمى الحياة.

font change

مقالات ذات صلة