الفيلسوف الصغير

الفيلسوف الصغير

لا ننكر أن طفل اليوم باستطاعته أن يحشر والديه في زاوية ضيقة بسؤاله عن موضوعات قد تصعب الإجابة عنها، أو بأفكار غير مألوفة، فالبون شاسع، وإن كنا نحاول التغافل عنه، بين الجيل الحالي - جيل التقنية والتكنولوجيا Digital Natives - وبيننا نحن المهاجرون الرقميون Digital Immegrants الذين نحاول اللحاق بالركب. ففي حين نشأنا نحن الأجيال الأسبق على “الثابت والواجب” فإن الجيل الحالي يؤمن بالنسبية ولا يعترف بالثوابت قبل أن يقف طويلا أمامها متأملا، فنحن في عصر “الفلاسفة الصغار” الذين تتوافر لهم كميات هائلة من مصادر المعرفة والمعلومات التي تجعلهم يتساءلون عن كل شيء، ويبدون رأيا في كل شيء.

لكن السؤال يظلّ أين الطفل العربي من فكرة الفلسفة الفعلية؟ وكيف يمكننا أن نتجاوز مجرد الاهتمام بحاجات الطفل الأولية ورعايته إلى رعاية عقله وفكره تطبيقيا أكثر منه نظريا، ومعرفيا أكثر منه عاطفيا وسلطويا؟ وكيف يمكن التشجيع على التفكير و"التفلسف" وطرح الأسئلة، في الوقت الذي تهيمن فيه تصورات المجتمعات العربية حول الفلسفة باعتبارها "كلاما فارغا"، وموضوعا غير مستساغ، إلى درجة أنه حين يحاول شخص الاستهانة برأي شخص آخر يقول له ساخرا: "لا تتفلسف علينا" أو "فلسفة فارغة" على اعتبار أن الفلسفة بين عموم الناس كلام غير مفيد ومضيعة للوقت.

اعتدت أن أبدأ محاضراتي بالتذكير بأن داخل كل منا طفل يتلمس عالمه الخارجي ويزداد وعيا به، ليتعرّف من خلاله على عالمه الداخلي الأكثر غموضا والأصعب على الفهم. لم لا، فنحن نولد فلاسفة بطبيعتنا. ولا يوجد علم، سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم البحتة، إلا وكانت الفسلفة هي القاعدة التي انبثق منها ومع هذا، للأسف الشديد، هناك طلبة كثر على مقاعد الدراسة الجامعية، عاجزون عن التفكير في الفلسفة التي تقف خلف علومهم التي اختاروا التخصص فيها.

بعد أن تقرر تدريس الفلسفة في المدارس السعودية والذي ضمن أهدافه نبذ التعصب وتعزيز التعددية في المجتمع، استبشرنا خيرا، إلا أن المجتمع الأكاديمي في السعودية فوجئ بأن مادة التفكير النقدي وهي مادة فلسفية، أسندت إلى معلمين غير متخصصين، باعتبار أن التفكير النقدي ليس تخصصيا، ويُعتقد أن باستطاعة معلمي الدراسات الإسلامية والدراسات الاجتماعية واللغة العربية تدريس هذه المادة، وهذا أول المطبات الخاطئة.

الفلسفة وجدت للتفكير في أسئلة الحياة الكبرى، في الأخلاق والدين والسياسة وغيرها، وتاريخ الفلسفة هو سجل لمحاولات الناس في الوصول إلى إجابات عن هذه الموضوعات، كما أن لكل علم فلسفته ومرتكزاته التي قامت عليه بما فيها -كما سبق أن ذكرت- الطب والهندسة وعلم النفس. وحتى لا ندور في حلقة مفرغة، يجب وضع معايير واضحة لتدريس هذا العلم باعتباره القاعدة التي تقوم عليها كل العلوم، ونخشى التساهل في مسألة تدريسه على أساس أن مناهج التفكير العلمية لا علاقة لها بالفلسفة، وأن التفكير النقدي ليس عتبة أساسية نحو التفكير في كل شيء من حولنا. لذلك فإن فصل مقرر الفلسفة عن المقررات الأخرى من شأنه تقييد التفكير، أما دمجها وربطها ببقية العلوم فسيكون أكثر جدوى. كما يُقترح، بالنسبة إلى الصفوف المبكرة، إشراك الطلاب والطالبات أو على الأقل تشكيل مجاميع لطلاب متميزين ليشاركوا في وضع مفردات المناهج. بهذا يكون المجتمع هو من يصنع فلسفته لا يستعيرها من كتب فلسفية خارج سياقاته الثقافية وتحمل هموما لا يدركها.

نحن في عصر "الفلاسفة الصغار" الذين تتوافر لهم كميات هائلة من مصادر المعرفة والمعلومات التي تجعلهم يتساءلون عن كل شيء، ويبدون رأيا في كل شيء

تجربة مشاركة الأطفال والشباب اليافعين في وضع محدّدات فلسفية ليست فكرة جديدة، فقد كانت شارون كاي أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة جون كارول في كليفلاند بولاية أوهايو حريصة على إشراك الأطفال والمراهقين في المدارس بوضع مفردات مقررات الفلسفة ونقدها، فمن خلال  اتصالها ببرنامج الموهوبين في المدارس العامة والجامعات أنشأت مع فريقها شراكة حيث قام ثمانية طلاب جامعيين بالتدريس لمدة ساعة واحدة كل أسبوع طلاب الصف الخامس والسادس والسابع والثامن، وقد رأى المدرّسون في ذلك تجربة تعلم متبادلة "كنا نتعلم بقدر ما يتعلم الأطفال الذين نقوم بتدريسهم"، مثلما قالوا. وقد اختيرت خلال ذلك ثلاثة كتب فلسفية خاصة بفلسفة الطفل تستهدف الأطفال والشباب الموهوبين وتتجاوز المناهج المدرسية الاعتيادية من حيث العمق الفلسفي وأسلوب الطرح لإثارة فضول الطلبة وتجاوز ما هو اعتيادي ومكرور وما لا يحفّز الفكر، وعرضت الكتب الثلاثة على مجموعة من الطلاب في مرحلة المراهقة، وطرح عليهم السؤال التالي:

هل يمكنك وصف منهجية الكتاب وأفكاره بصورة عامة؟ المتميز في تلك التجربة الفكرية التي خاضها أولئك الصغار الموهوبون هو اللقاءات التي اعتمدت على برامج محاكاة الواقع الافتراضي تمكنهم من مقابلة أفلاطون وأرسطو وديكارت ولوك وهيوم وكانط ومحاورتهم.

فلكي تُجنى الفائدة من تدريس الفلسفة، لا بد من التخلص من التصورات النمطية التي تعتبر الفلسفة تخريبية ومفسدة للعقول. فهذه التصورات ستدفع الكثير من المدارس إلى مقاومة تضمين الفلسفة في مناهجها بصورة معمقة ومتخصصة، ولن تبذل الجهد الكافي لتنويع مناهج تدريسها، طالما لديها مجموعة معايير ثابتة غالبا ما تقوم على توقعات الطاعة وعدم الرغبة في إنشاء جيل يناقش البديهيات. لكن ومع اتخاذ خطوة تضمين مناهج الفلسفة في الخطط الدراسية لابد من الوعي الكامل بالمرجعيات الثقافية والمعايير المجتمعية التي قد تعيق شرارة الفكر وإعمال العقل. كما ينبغي أن تكون الأفكار التي تدرسها الفلسفة مثيرة للاهتمام وتشعل حب التعلم وتجعل الصغير يبحث عن إجابات عن أسئلته بنفسه دون تغييب للرعاية وفتح الآفاق ودون شد اللجام كي لا يختل التوازن.

font change
مقالات ذات صلة