ثلاثة أسباب لازالة دهشة اللبنانيين من التحذيرات العربية

AP
AP

ثلاثة أسباب لازالة دهشة اللبنانيين من التحذيرات العربية

فاجأت تحذيرات دول عدة لرعاياها من التوجه إلى لبنان ودعوة من هم هناك إلى المغادرة السريعة، فاجأت اللبنانيين الذين سرعان ما بدأوا بنسج الخيالات والنظريات التآمرية عن خلفيات تلك التحذيرات.

لقد طلبت المملكة العربية السعودية من رعاياها مغادرة لبنان على وجه السرعة وحذت حذوها مملكة البحرين، فيما اكتفت الكويت بدعوة مواطنيها في لبنان إلى "التزام منازلهم" وعدم الاقتراب من مناطق الاضطرابات الأمنية. كذلك طلبت الامارات العربية المتحدة من مواطنيها التقيد بقرار منع السفر الى لبنان. أما السفارة الألمانية فحثت رعاياها في ‫لبنان‬ على الاتصال بها وتحديث بياناتهم وأماكن وجودهم والابتعاد عن أي منطقة تشهد اشتباكات. ‬‬

مفاجأة اللبنانيين تجلت في استغراب كثير من وسائل الإعلام المحلية لتوالي التحذيرات، وذهب البعض إلى حد ربط تحذير الرياض بالاتفاق السعودي- الإيراني والانتخابات الرئاسية المعلقة في بيروت. ورأى آخرون أن ثمة "أمرا كبيرا" يجري الإعداد له وأن التحذيرات استندت إلى معلومات عن قرب توسع اشتباكات مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين لتشمل كل لبنان.

رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي حاول حصر موجة الذعر التي أثارتها "التحليلات" الإعلامية اللبنانية وصدر عنه بيان بعد اجتماعه بوزيري الداخلية والخارجية جاء فيه: "بنتيجة البحث مع القيادات العسكرية والأمنية، أفادت المعطيات المتوافرة أن الوضع الأمني بالإجمال لا يستدعي القلق والهلع، وأن الاتصالات السياسية والأمنية لمعالجة أحداث مخيم عين الحلوة قطعت أشواطا متقدمة، والأمور قيد المتابعة الحثيثة لضمان الاستقرار العام ومنع تعكير الأمن أو استهداف المواطنين والمقيمين والسياح العرب والأجانب".

لكن رؤية "الوضع الأمني بالإجمال" من قبل السلطات اللبنانية أمر، ورؤيته من قبل الحكومات العربية والأجنبية أمر آخر. وإذا كان هذا الوضع "لا يستدعي القلق والهلع" باعتبار الاشتباكات المسلحة ما زالت تدور في بقعة جغرافية ضيقة هي مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة قرب صيدا، إلا أنها تعطي انطباعا لدى المراقبين مختلفا بشدة عما أراد ميقاتي الترويج له.

طلبت المملكة العربية السعودية من رعاياها مغادرة لبنان على وجه السرعة وحذت حذوها مملكة البحرين، فيما اكتفت الكويت بدعوة مواطنيها في لبنان إلى "التزام منازلهم" وعدم الاقتراب من مناطق الاضطرابات الأمنية

غني عن البيان أن الدول التي أصدرت بيانات التحذير، عانت من تجارب مريرة مع خطف مواطنيها في لبنان. فلم تمر بعد ثلاثة شهور على اختطاف مواطن سعودي يعمل في شركة الطيران السعودية من قلب بيروت ونقله إلى منطقة الحدود اللبنانية– السورية حيث طلب الخاطفون فدية في حادثة أعادت التوتر إلى العلاقات بين بيروت والرياض. وقد نجحت السلطات اللبنانية في تحرير المخطوف واعتقال عدد من المتورطين في العملية التي سجلت في خانة الانفلات الأمني الذي يشهده لبنان وأبعدت عنها شبهات العمل الإرهابي. ألمانيا كذلك تعرض بعض مواطنيها إلى الاختطاف في إطار "أزمة الرهائن" الشهيرة في الثمانينات، لذلك تبدو حساسيتها مفهومة في هذا السياق. 

من جهة ثانية، يتعين بناء صورة مركبة للخلفية التي جاءت التحذيرات الخليجية والألمانية عليها، قوامها ثلاثة عناصر: الأول، استمرار حال الانهيار في لبنان وعدم اتخاذ السلطات هناك أي إجراء جدي لمعالجة أي جانب من جوانب الكارثة التي يعيش البلد فيها والاستمرار في نهج التسول والتماس الحسنات والصدقات من الدول العربية على ما فعل وزير الاقتصاد في حكومة ميقاتي، أمين سلام بطلبه من الكويت إعادة بناء إهراءات القمح التي دمرها تفجير الرابع من أغسطس/آب 2020. فقد رأى الوزير المذكور أن الأموال الكويتية موجودة لإعادة بناء ما دمرته منظومته السياسية التي تمنع التحقيق في الانفجار وتفرج عن المتهمين بالتورط فيه، "بشخطة قلم"، مما أثار غضبا عارما– ومفهوما- في الكويت بإزاء هذه الرعونة والجهل من قبل مسؤول في الدولة اللبنانية. 

AFP
اثار الدمار الذي الحقته الاشتباكات في مخيم عين الحلوة في 4 أغسطس

بكلمات ثانية، يؤدي تهرؤ وتعفن السلطة اللبنانية وعجزها عن الإمساك بالموقف الأمني على مجمل أراضيها ومن بينها المخيمات الفلسطينية إلى غياب الثقة بقدرتها على ضمان أمن المواطنين الأجانب. 
بديهي أن الحكومات في الخليج والعالم لا تلقي بالا إلى استمرار الحفلات الغنائية والأعراس الباذخة واستعراضات الثراء ومظاهره من جانب الأثرياء اللبنانيين الذين زادت أموالهم جراء الأزمة كما ارتفعت نسبة لا مبالاتهم بمآسي مواطنيهم الأقل حظا. بل إن المهم هو كيف قد ينعكس أي تدهور مفاجئ على المواطنين الذين ربما أصبحوا رهائن ومخطوفين لدى جهات مسلحة متباينة الولاءات والانتماءات. 

العنصر الثاني هو أن متابعة وسائل الإعلام التابعة لـ"حزب الله" والتي تتحدث عن "تمدد إسرائيلي" إلى عين الحلوة وعن ضرورة "وضع حد" لما تقوم به حركة "فتح" في المخيم، وسوى ذلك من المواقف المنحازة إلى أحد طرفي الاقتتال الفلسطيني، تعطي الانطباع بأن ثمة نوايا مبيتة لدى الطرف اللبناني المسلح والمهيمن على البلد بالدفع إلى المزيد من العنف والدماء في المخيم بذريعة تطويق "فتح" التي تتحمل، بدورها، جزءا من المسؤولية عن الوضع الحالي. والسيطرة على المخيمات الفلسطينية أو على الأقل توظيفها في الأجندات السياسية والأمنية للأطراف المتحكمة في الساحة اللبنانية ليست بالأمر الجديد. سواء من "حرب المخيمات" في الثمانينات التي أشعلها حافظ الأسد وياسر عرفات ضد بعضهما البعض وصولا إلى إنشاء تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي الذي أدارته وسلحته المخابرات السورية عام 2007 ومرورا بالتفجيرات المتنقلة في ثمانينات القرن الماضي. 
 

متابعة وسائل إعلام "حزب الله" والتي تتحدث عن "تمدد إسرائيلي" إلى عين الحلوة، تعطي انطباعا بأن ثمة نوايا مبيتة لدى الطرف اللبناني المسلح والمهيمن على البلد بالدفع إلى المزيد من العنف والدماء في المخيم

ليس هناك، إذن، ما يشير إلى الأمر قيد المعالجة على ما أوحى ميقاتي في تصريحاته، بل على العكس حيث يُترك الوضع على فلتانه تتحكم به موازين القوى للأطراف المتصارعة. 

العنصر الثالث، هو أن السلطات اللبنانية لا يبدو أنها معنية بتحسين علاقاتها العربية والدولية. كثير من الاجتماعات التي خُصصت للبنان وآخرها اجتماع المجموعة الخماسية والبيان الواضح بضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ناهيك عن عدد لا يحصى من تقارير الهيئات الدولية التي تحمل الجماعة الحاكمة في لبنان مسؤولية تفاقم النكبة الاقتصادية- الاجتماعية وتبعاتها السياسية، تقع على آذان صماء. ما يجعل رد الفعل العربي والدولي السلبي حيال لبنان هو رد الفعل المتاح الوحيد. أضف إلى ذلك غياب التقدم في استعادة العلاقات مع نظام بشار الأسد الذي لم يلتزم باتفاق "الخطوة مقابل الخطوة" وما زال هو وشريكه الإيراني يمتلكان حلفاء يديرون الحياة السياسية في لبنان. 

ها نحن، إذن، محاصرون من الداخل قبل الخارج، من الائتلاف الحاكم الذي بلغ انفصاله عن الواقع حدا جعله يعجز عن الربط بين التحذيرات الداعية إلى سلامة المواطنين العرب والأجانب وبين رفض الائتلاف المذكور القيام بالحد الأدنى من مهماته. 
 

font change