في سوء تقديرات "حزب الله" مع إسرائيل

هل الحرب المقبلة حتمية؟

في سوء تقديرات "حزب الله" مع إسرائيل

سافر المنسق الرئاسي الأميركي الخاص بالبنية التحتية العالمية وأمن الطاقة، عاموس هوكشتاين، إلى بيروت الشهر الماضي لتقصي إمكانية بدء مفاوضات لترسيم الحدود البرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. وتأتي الزيارة بعد عام تقريبا من توسطه في اتفاق لم يكن محتملا حدوثه بشأن الحدود البحرية بين الدولتين. وعندما وقعت تلك الصفقة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، رافقتها ضجة مبالغ فيها من إدارة بايدن، وتوقع وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، أن الاتفاق "يؤذن بعصر جديد من الرخاء والاستقرار" في المنطقة، كما قال هوكشتاين، إن الاتفاق سيوفر لإسرائيل "الأمن الكامل".

من المبكر تقييم الفوائد الاقتصادية للاتفاقية البحرية؛ فقد وصلت منصة حفر لشركة "توتال إنرجيز"، قبل أسابيع فقط إلى المياه الإقليمية اللبنانية المتنازع عليها سابقا لبدء التنقيب عن الغاز الطبيعي، إلا أنه بات واضحا بعد مرور عام، أن الفوائد الأمنية الموعودة لم تتحقق.

والحقيقة أن التوترات بين لبنان وإسرائيل تتصاعد حاليا، وتثير المخاوف من نشوب حرب أخرى.

آخر حريق كبير نشب بين إسرائيل وتنظيم "حزب الله" اللبناني الشيعي المدعوم من إيران، كان عام 2006 واستمر 34 يوما، وطيلة فترة هذا النزاع كان "حزب الله" يطلق يوميا أكثر من 100 صاروخ على إسرائيل، إلا أن الضرر الذي أصاب لبنان كان فادحا، لا سيما في المناطق التي يسكنها مناصرو الحزب.

كما قدرت تكاليف إعادة الإعمار في لبنان بعد الحرب ما بين 3 إلى 7 مليارات دولار.

تلا تلك الأعمال العدائية سنوات من الهدوء النسبي، وزعم مسؤولون إسرائيليون أن الهدوء يعزى إلى ارتداع "حزب الله" على نحو كافٍ ربما. إلا أنه كان منشغلا أيضا بشؤون أخرى.

في البداية، ركز "حزب الله" جهوده بهدوء على تجديد، وتحديث ترسانته المستنفدة، ثم انشغل بعد ذلك، طيلة الشطر الأكبر من العقد الماضي، بإرسال قواته إلى الخارج؛ خدمة لإيران، لتشارك في النزاعات الناشبة في كل من سوريا، واليمن، وإلى العراق كما يزعم.

إحياء مفهوم "المقاومة"

ولكن "حزب الله" استأنف في الآونة الأخيرة نهجا أكثر عدوانية تجاه إسرائيل، ولعل هناك عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول.

أولا، بعد سنوات عديدة من خدمته كمرتزقة لإيران في الحروب الإقليمية التي قتلت المسلمين السنة، وجد "حزب الله" نفسه مضطرا، لأسباب تتعلق بالسمعة، إلى الانخراط مرة أخرى في "المقاومة". ويبدو أيضا أن الردع الإسرائيلي في مواجهة "الحزب" قد تآكل مع مرور الوقت؛ فقبل خمس سنوات، على سبيل المثال، وصفت إسرائيل مشروع "حزب الله" للذخائر الموجهة بدقة، أو مشروع تطوير صواريخ "PGM"، بأنه "خط أحمر"، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يتخذ على الأرض أي إجراء عسكري للحد من تقدمه.

وعلى نحو مماثل، في السنوات الأخيرة، كانت الردود الإسرائيلية على استفزازات "حزب الله" مضبوطة بعناية لتجنب التصعيد، مما يشير إلى أن إسرائيل أيضا تشعر بالقلق، هذا إن لم تكن مذعورة من احتمال حدوث جولة أخرى من القتال.

بعد سنوات عديدة من خدمته كمرتزقة لإيران في الحروب الإقليمية التي قتلت المسلمين السنة، وجد "حزب الله" نفسه مضطرا، لأسباب تتعلق بالسمعة، إلى الانخراط مرة أخرى في "المقاومة"

ومع تضاؤل قوة الردع الإسرائيلية، تزايدت جرأة "حزب الله" أكثر فأكثر، وفي هذا المنحى، كانت الاتفاقية البحرية لعام 2022 مع لبنان لحظة فاصلة؛ فقد هدد "حزب الله" خلال المفاوضات بمهاجمة منصة الإنتاج العائمة في حقل كاريش البحري للغاز الطبيعي الإسرائيلي، إذا بدأت إسرائيل في استخراج الغاز قبل التوصل إلى اتفاق.

وكانت إسرائيل قد أعلنت في وقت سابق أنها ستبدأ بالاستخراج في سبتمبر/أيلول المقبل، أيا كان وضع المفاوضات.

غير أن إسرائيل، وتحت التهديد بالهجوم، أخرت الضخ مدة شهرين إلى أن أبرمت الصفقة، وبغض النظر عن الشروط المفيدة التي تضمنها الاتفاق للبنان، فإن استسلام إسرائيل في كاريش صدّق نهج "حزب الله".  

استغلال الأزمة السياسية في إسرائيل

وبالإضافة إلى أن "حزب الله" بات أقل تهيبا من الردع، فقد شجعته الاضطرابات المستمرة في إسرائيل في الأشهر الأخيرة.

وفي الواقع، فهم "حزب الله" الاحتجاجات الهائلة في تل أبيب والقدس ضد مبادرة الحكومة للإصلاح القضائي كدليل على تعثر النظام السياسي الإسرائيلي الذي كان ذات يوم متماسكا.

ومما لا شك فيه أن "حزب الله" شجعته أيضا التقارير؛ بأن مئات من طياري الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي يرفضون الخدمة، مما قد يقوض استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي. باختصار، يرى "حزب الله" إسرائيل عند منعطف صعب.

"حزب الله" ليس لديه مصلحة في حل مسألة الحدود البرية؛ إذ سيكون من نتائجها أن تضع حدا للتذرع بالاحتلال الإسرائيلي والحاجة إلى وجود قوات "مقاومة" مدعومة من إيران

أيا تكن المبررات فقد غيّر "حزب الله" من وضعه، خلال العام الماضي أو نحو ذلك، مما أدى إلى زيادة كبيرة في التوترات على طول الحدود. وبينما حافظ "حزب الله" منذ فترة طويلة على وجود كبير في جنوب لبنان، إلا أنها تاريخيا لم تتباهَ بعملياتها العسكرية التي تنتهك قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

لم يعد الحال كذلك، واليوم يحتفظ "حزب الله" بقواعد عسكرية وأبراج مراقبة على الحدود، فضلا عن ميادين إطلاق نار حية، ويجري مناورات عسكرية علنية، تشارك فيها وحدة النخبة "الرضوان" التابعة للحزب في الجنوب.

تهديد من الدرجة الثانية 

إن قائمة استفزازات "حزب الله" خلال النصف الأول من هذا العام مذهلة وحدها. فقد أطلقت جماعات فلسطينية صواريخ على إسرائيل من المناطق التي يسيطر عليها "حزب الله" في جنوب لبنان.

كما أطلق "حزب الله" طائرات مسيرة على إسرائيل وأطلق صاروخا مضادا للدبابات عبر الحدود، وأقام موقعا عسكريا من خيمتين على الأراضي الإسرائيلية، كما حاول عناصر "حزب الله" اختراق السياج الحدودي، وقامت المجموعة بتفجير قنبلة على جانب طريق بلدة مجيدو الإسرائيلية، على بعد 40 ميلا جنوبي لبنان.

وكانت ردود الفعل الإسرائيلية على كل هذه الحوادث متناسبة ومدروسة وغير مميتة.

ومن المفهوم أن تركز إسرائيل على أولوية إيران، التي تتقدم بسرعة في برنامجها للأسلحة النووية؛ فـ"حزب الله"، على أهميته، يشكل حاليا، تهديدا من الدرجة الثانية، وغير وجودي.

Getty Images
حسن نصرالله في خطاب له عام 2006 عندما اندلعب حرب مع إسرائيل

 ومع ذلك، لم يدفع "حزب الله" سوى القليل، هذا إن دفع أصلا؛ مقابل انتهاكاته الأخيرة، مما يوسع فعليا من نوع العمليات التي يمكنه القيام بها دون عواقب.   

وأثناء ذلك، وفي غياب تفاهمات مستقرة وواضحة بشأن حدود إسرائيل، تتزايد الفرص أمام تجدد الأعمال العدائية.

لقد قال زعيم "حزب الله"، حسن نصرالله، بعد حرب عام 2006، عبارته الشهيرة: "لو كنت أعلم... أن العملية (اختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين) ستؤدي إلى مثل هذه الحرب، هل كنت سأفعلها؟ أقول لا، لا على الإطلاق".

والحقيقة أن ردود الفعل الإسرائيلية على استفزازات "حزب الله" كانت في ذلك الوقت، كحالها اليوم، غير حاسمة، وإذا أخذنا الحرب السابقة بالحسبان، حيث لم يكن لدى نصرالله أي سبب للشك في أن عملية الاختطاف ستثير مثل هذا الرد الشرس؛ فمن المؤسف أن احتمالات سوء التقدير قائمة بنسبة معتبرة الآن، كما حدث في عام 2006.

ومن المحتمل أن يكون هذا التهديد المتجدد بنشوب أعمال عدائية قد وفر الزخم لهوكشتاين، ليعرض بالون اختبار في أغسطس/آب الماضي للتوسط في مفاوضات الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان.

ومع أن الدافع قد يكون نبيلا، إلا أن المبادرة غير حكيمة؛ ففي خضم الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان، لم يعد بإمكان "حزب الله" معارضة ترسيم الحدود البحرية، وهو ما سيسمح لبيروت بالبدء في استغلال موارد الغاز الطبيعي المحتملة في البحر الأبيض المتوسط.

مما لا شك فيه أن "حزب الله" شجعته أيضا التقارير؛ بأن مئات من طياري الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي يرفضون الخدمة، مما قد يقوض استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي. باختصار، يرى "حزب الله" إسرائيل عند منعطف صعب

لكن "حزب الله" ليس لديه مصلحة في حل مسألة الحدود البرية؛ إذ سيكون من نتائجها أن تضع حدا للتذرع بالاحتلال الإسرائيلي والحاجة إلى وجود قوات "مقاومة" مدعومة من إيران على الأراضي اللبنانية. وسيكون على إسرائيل أن تقدم تنازلات، كما فعلت في الاتفاق البحري، تحت ضغط "حزب الله"، وهو ما سيزيد من تقويض الردع في حال حدوثه.

بالتزامن مع إطلاق بالون الاختبار هذا، نجحت إدارة بايدن الشهر الماضي خلال مناقشة تجديد ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان أو "اليونيفيل"، في الحفاظ على اللغة التي تسمح للقوة بتسيير دوريات دون التنسيق مع القوات المسلحة اللبنانية. وكان هذا الأمر مهماً لأن القوات المسلحة اللبنانية تواطأت مع "حزب الله" في منع قوات "اليونيفيل" من الوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها في الجنوب، ولكن حتى مع وجود هذه اللغة في التفويض، فمن المشكوك فيه أن تقوم قوات "اليونيفيل" بتوسيع دورياتها لتشمل ما يسمى "الممتلكات الخاصة"؛ أي قواعد "حزب الله" العسكرية.

وتقع على عاتق إسرائيل مسؤولية تغيير الديناميكية مع "حزب الله"؛ فالتفاهمات الأخيرة بين طهران والرياض الهادفة إلى تخفيف التصعيد الإقليمي لا تشمل هذا الوكيل الإيراني أو مسرح العمليات. وفي الواقع، فإن الحديث عن اتفاق محتمل للتطبيع بين السعودية وإسرائيل قد يكون جزئيا هو الدافع وراء الأنشطة العدائية الأخيرة لـ"حزب الله".

وفي نهاية المطاف، سيكون على إسرائيل، كي تؤجل الحرب المقبلة مع "حزب الله"، إن لم يكن لمنعها، أن تعيد بناء قوة الردع. ونظرا للمسار الحالي والاضطرابات الداخلية المستمرة في إسرائيل، فلن يكون ذلك سهلا. وقد تؤدي عملية استعادة الردع في حد ذاتها إلى المخاطرة بالتصعيد، ولكن في غياب نهج إسرائيلي أكثر قوة في التعامل مع استفزازات "حزب الله"، فإن الحرب القادمة تبدو حتمية.

font change


مقالات ذات صلة