الأزمة السياسية تهدد مكانة وصورة الجيش الإسرائيلي

Reuters
Reuters
متظاهرون في تل ابيب في 2 سبتمبر يحتجون على التعديلات القضائية التي فرضتها حكومة نتنياهو

الأزمة السياسية تهدد مكانة وصورة الجيش الإسرائيلي

أثرت الأزمة السياسية المحتدمة في إسرائيل التي تفاقمت مع صعود حكومة غلاة المتطرفين من اليمين القومي والديني، على المجتمع والدولة وعلى طبيعة النظام السياسي فيها. ويشمل ذلك علاقات الإسرائيليين ببعضهم ورؤيتهم لذاتهم ولدورهم في المنطقة، وصورة إسرائيل في الخارج وعلاقتها مع دول العالم.

لكن تلك الأزمة، التي تركزت في محاولات حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو تقويض مكانة ودور السلطة القضائية ممثلة في "المحكمة العليا" والتي اعتبرت تهديدا لطابع الدولة التي أقيمت على الفصل بين السلطات وعلى الديمقراطية الليبرالية التي تخص اليهود الإسرائيليين، وكإطاحة بعلمانية الدولة، أو حيادها إزاء الدين، رغم أنها أقيمت كدولة يهودية، مست أكثر شيء بالجيش الإسرائيلي (ومجمل المؤسسة الأمنية)، في صورته ومكانته، بعد أن كان خارج النقاش، وكموضع إجماع، كقدس الأقداس للإسرائيليين، لمركزيته للدولة والمجتمع.

في النتيجة فإن إقرار الكنيست في (24/7) لقانون "تعذر المعقولية"، الذي يعني وضع السلطة القضائية تحت هيمنة السلطة التنفيذية، بتقليص صلاحية المحكمة العليا، سيما ما يتعلق بالمراقبة القانونية لحكومة نتنياهو، بواقع حيازة الائتلاف الحكومي، المتشكل من اليمين القومي والديني، على 64 عضوا في الكنيست (من 120 عضوا)، كشفت الانقسام العمودي في إسرائيل، بحيث اعتبر هذا التطور بمثابة تهديد لطابع إسرائيل كدولة علمانية وديمقراطية.

هكذا كتب ألون بن ديفيد: "بعد 75 سنة من تأسيس الجيش الإسرائيلي أُجيز التشريع الذي سيسجل بداية لتفكيك الجيش". ("معاريف"، 29/7/2023).

جيش له دولة!

لطالما اعتبر الجيش الإسرائيلي عند الإسرائيليين بمثابة "قدس الأقداس" الذي لا ينبغي المساس به، إذ إن له أهمية تفوق أهمية الجيوش في الدول الأخرى. بمعنى أهمية وجودية، فوق أمنية أو سيادية، بسبب السياق التاريخي، اللا طبيعي، الذي أقيمت فيه دولتهم (1948). فإسرائيل نشأت، على خلاف معظم دول العالم، من نقطة الصفر في العلاقة مع المكان والزمان، ومع الأرض والشعب، إذ أنشئت المؤسسة الصهيونية في الخارج، ثم تم جلب السكان، أي اليهود، بالهجرة من شتى دول العالم، للاستيطان في فلسطين، بحيث أقيمت لهم المؤسسات السياسية والاقتصادية والخدمية، وضمنها العسكرية (الهغاناه، البالماخ، شتيرن، أرغون)، على حساب أهل الأرض الأصليين، وبالتصارع معهم. لذا تم التعاطي معه، في كثير من الأدبيات، كجيش له دولة، إذ إنه محور الدولة، أو عمودها الفقري، ومحرك معظم أنشطتها.

هكذا تعددت وظائف أو أدوار الجيش في إسرائيل، فعدا عن وظيفته الأمنية في حماية الدولة، فقد شملت صد أو وأد ما يعتبره الإسرائيليون خطرا وجوديا خارجيا يتهددهم، وهي المسألة التي شكلت محور العصبية والهوية عندهم، منذ أقيمت تلك الدولة. أيضا، ضمن أدواره تعزيز مكانة إسرائيل على الصعيدين الإقليمي والدولي، رغم صغر حجمها، وقلة عدد سكانها. ولعل أهم تلك الوظائف اعتباره بمثابة بوتقة الصهر الأساسية لهم، على اختلاف الثقافات والمجتمعات التي قدموا منها؛ هذا إضافة لدوره في الاقتصاد الإسرائيلي، وفي تعزيز علاقات إسرائيل مع دول العالم. ومعلوم أن كثيرا من قادة إسرائيل، كرؤساء حكومات وكوزراء، كانوا أصلا ضباطا كبارا في الجيش الإسرائيلي، كان من أبرزهم إيجال ألون وموشي دايان وإسحق رابين وإيهود باراك وآرييل شارون، وبني غانتس، مثلا.

تعددت وظائف أو أدوار الجيش في إسرائيل، فعدا عن وظيفته الأمنية في حماية الدولة، فقد شملت صد أو وأد ما يعتبره الإسرائيليون خطرا وجوديا خارجيا يتهددهم، وهي المسألة التي شكلت محور العصبية والهوية عندهم، منذ أقيمت تلك الدولة

وفي تلخيصه لتأثير الأزمة الحاصلة على الجيش، يقول جدعون ليفي: "هاكم قصة عن جيش كانت له دولة. جاءت حكومة عملت على قلب ترتيبات الحكم في دولة الجيش. عندها قام الجيش بالاحتجاج ضد الحكومة... لا يمكن طمس طبيعة الاحتجاج العسكرية التي تغطي على أسسه المدنية. هذا الاحتجاج ملون باللون الخاكي الفاتح والأزرق الذي هو لون زي الطيارين. لغته عسكرية ومعظم قادته هم من رجال الجيش والأمن السابقين، ورفض الخدمة في الجيش هو سلاحه الناجع، وهدفه النهائي هو الحفاظ على الدولة كما كانت في السابق. بعد أن أصبح من الواضح أن إسرائيل قد نضجت وتم فطامها من أمراض طفولتها العسكرية وعن تقديس الجنرالات وعبادة الخدمة العسكرية". ("هآرتس"، 24/4/2023).

EPA
رفض جنود الاحتياط للخدمة يهدد تماسك الجيش الاسرائيلي

ما يفترض التذكير به، في هذا السياق، أن معظم المؤسسات العامة الأخرى، التي نشأت قبل إقامة إسرائيل، واستمرت في العقود الأولى من قيامها، مثل المنظمة الصهيونية العالمية، والهستيدروت، والموشاف، والكيبوتسات، والقطاع العام، انحسر دورها، بسبب التحولات الجارية في إسرائيل وضمنها التحول نحو الخصخصة، وبسبب الاستقطاب العلماني- الديني، والغربيين والشرقيين، وضمور أحزاب مؤسِّسة مثل حزب العمل (الماباي)، والمابام، والمفدال.

المهم أن تأثير الأزمة في كل قطعات الجيش الإسرائيلي حدت بهرتسي هاليفي رئيس الأركان التحذير من انهيار الجيش... في حالة تمرير التعديلات القضائية، إثر إعلان 10 آلاف من جنود الاحتياط من جميع وحدات الجيش تعليق الخدمة، احتجاجا على التعديلات القضائية (وذلك قبل التصويت على القانون المذكور). وعن ذلك يقول ألون بن ديفيد: "عدد الطيارين الذين أعلنوا أنهم سيتوقفون عن الامتثال يقترب في نهاية هذا الأسبوع من 300... يشكلون الهيكل المجرب والكبير لسلاح الجو... منظومتان أخريان في الجيش تعرضتا لضرر جسيم: منظومة الطب وشعبة الاستخبارات. نحو خُمس رجال الطب أعلنوا وقف الامتثال، وهم أيضا لا بديل فوريا لهم... لن تتوقف هذا الموجة فقط عند خادمي الاحتياط... يتواصل هذا أيضا إلى النظامي... ألسنة لهيب الانقلاب... تقترب أيضا من قدس أقداس إسرائيل– لجنة الطاقة الذرية... يدور خطاب يقظ عن استمرار طريقهم وعما إذا كانوا يريدون مواصلة خدمة الدولة التي تصبح مَلكية". ("معاريف"، 29/7/2023).

انكسار مفهوم جيش الشعب


بديهي أن الانقسام الحاصل في إسرائيل، مع تصدع إجماعاتها، وتوسع الهوة بين تياراتها، سيما بين العلمانيين والمتدينين، مع علمنا بأن ذلك الانقسام له طابع إثني، أيضا، بين غربيين وشرقيين، سيفضي إلى تغيير النظرة إلى الجيش، الذي يعتبر عند الإسرائيليين بمثابة "جيش الشعب"، مع محاولات إجراء تغييرات في النظام السياسي القائم، لصالح الائتلاف الحكومي، ولصالح الأحزاب اليمينية القومية والدينية.

ولعل ما فاقم من هذه الأزمة تعمد الأحزاب الدينية تقديم مشروع قانون يعتبر الدارسين في المعاهد الدينية كمن يخدمون الدولة، مثلهم كالذين يخدمون في الجيش، ما يلقي ضوءا على الأزمة الحاصلة، إذ إن المتدينين معفيون من الخدمة العسكرية، وإضافة إلى ذلك فإن المتدينين والمستوطنين (في الضفة الغربية) يعيشون، غالبا، على الامتيازات المقدمة لهم من الدولة، أي على حساب الجمهور العلماني الذي يخدم في الجيش ويدفع الضرائب.

وبحسب ميراف أرلوزوروف فقد قدمت الأحزاب الحريدية مشروع قانون أساس، يعتبر "الذين اخذوا على عاتقهم التفرغ لدراسة التوراة لفترة طويلة مثل الذين يقدمون خدمة مهمة لدولة إسرائيل وللشعب اليهودي، وهذا ستكون له تداعيات على حقوقهم وواجباتهم"... يصعب تخيل غباء أكثر من مشروع القانون، هذا الذي يعتبر بمثابة صب الزيت على نار الاحتجاج العلماني... كل ما يجب أن يحدث هو إرسال رسالة إلى أبناء الـ18، إلى بضعة آلاف أو عشرات الآلاف من أبناء الصف الـ12، الذين سيعلنون أنه على ضوء تهرب الحريديين من الخدمة في الجيش، هم أيضا مضطرون إلى الإعلان وبألم أنهم لا ينوون التجند للخدمة الإلزامية". ("هآرتس"، 27/7/2023). 

ما يفترض إدراكه هنا، أولا، أن التحول الحاصل يعزز من شعور قسم من الإسرائيليين، من الذين يخدمون في الجيش، ويدفعون الضرائب، بالغبن، إذ في حين يتضاءل تمثيلهم في الحكومة، فإن القسم الآخر، الذي لا يقدم شيئا يذكر، بات يتحكم في الدولة وفي تشريعاتها، بل ويريد أخذها لاتجاهه تماما، أي بتغليب طابعها الديني على العلماني، واليهودي على الديمقراطي؛ حتى بالنسبة لليهود أنفسهم، وليس فقط إزاء الفلسطينيين. ثانيا، إن الجيش الإسرائيلي قائم في معظمه على فكرة التطوع، وعلى الاحتياط، المستعد دائما للخدمة العسكرية.
 

بديهي أن الانقسام الحاصل في إسرائيل، مع تصدع إجماعاتها، وتوسع الهوة بين تياراتها، سيما بين العلمانيين والمتدينين، سيفضي إلى تغيير النظرة إلى الجيش

يقول تمير هايمن (مدير معهد بحوث الأمن القومي): "إن تفكيك نموذج جيش الشعب سيكون حرجا لأمن إسرائيل... سر قوة هذا الجيش ليس في الطاعة العمياء للأمر، بل في روح التطوع والمبادرة... من اليمين واليسار، من المركز وبلدات المحيط، متدينين وعلمانيين، كل ذلك يجعل الجيش الإسرائيلي جيش الشعب. روح التطوع هذه في خطر وجودي... دون منظومة احتياط سيبدو الجيش صغيرا مع قدرات محدودة... سلاح الجو يكاد يقوم كله على التطوع... في وحدات شعبة الاستخبارات أيضا، وأساسا في الوحدات التي تمنح إسرائيل قدرات سايبر وتكنولوجيا ذات مغزى، تعد القاعدة هي التطوع... قسم مركزي في الردع يقوم على أساس رواية وصورة، وليس الحقائق... الخطر أن الصورة والمظهر لما نحدثه لأنفسنا من شأنهما أن يقنعا خصومنا بأن قوتنا العامة قلت". ("إسرائيل اليوم"، 24/7/2023). 

الجيش يدافع عن الديمقراطية


ونحن نتحدث عن الجيش الإسرائيلي، وفعاليته في الحراك المدني المناهض للانقلاب النظامي الذي تعد له حكومة نتنياهو- بتسلئيل سموتريتش- إيتمار بن غفير- ياريف ليفين (وزير العدل من الليكود)، يلفت الانتباه الدور المتناقض الذي يلعبه في الدفاع عن الديمقراطية، بالقياس لأدوار الجيوش الأخرى، سيما في منطقتنا، وأيضا بالنظر لدوره في النظام الاستعماري والاستيطاني لدولته ضد الفلسطينيين، وضمنه تبنيه سياسة عنصرية ضدهم، وحمايته للمستوطنين المعتدين في أراضيهم. 

وتفسير ذلك أن التكوين الرئيس للجيش الإسرائيلي (القوات النظامية والاحتياط) هو من الجمهور العلماني، وأن إسرائيل تتعاطى مع الفلسطينيين كأغيار، وأن الديمقراطية ودولة المواطنين تخص اليهود الإسرائيليين فقط، إضافة إلى أن إسرائيل تأسست باعتبارها دولة قومية لليهود، إذ إن علمانية المشروع الصهيوني ظلت مشوبة بالطابع الديني، لاستناده إلى الأسطورة اليهودية، وهذا هو مصدر التناقض بين الدين والعلمانية في إسرائيل.

بل إن المحلل الإسرائيلي جدعون ليفي، المعروف بتعاطفه مع الفلسطينيين، كتب مقالا ساخرا، قال فيه: "لا توجد تناقضات كبيرة أكثر من التناقض بين الجيش، وهو تنظيم غير ديمقراطي، وبين الديمقراطية. لا توجد ديمقراطية مع الجيش، والجيش غير ديمقراطي بالضرورة. هل الآن الجيش هو حارس عتبة الديمقراطية؟ أين بالضبط تعلم الجنرالات لدينا الديمقراطية، في الثكنات؟ في قصبة نابلس؟ من خلال فرض الديكتاتورية العسكرية على شعب آخر، التي هي أساس نشاطاتهم منذ عشرات السنين؟ حتى رؤساء التنظيمات السرية السابقون هم الذين يدافعون عن ديمقراطيتها. ليوقف الأطباء عملهم، وليجتمع رؤساء فروع الاقتصاد، وليشارك المحاضرون في المسيرة، وليهدد رجال الهايتيك، وليوقع الكتاب والشعراء. في النهاية من سيوقف الانقلاب هم الجنرالات". ("هآرتس"، 24/4/2023).

AP
احتياطيون في الجيش الاسرائيلي يتظاهرون ضد التعديلات القضائية في القدس في 10 فبراير

أيضا فإن انكسار احتكار إسرائيل لمكانة الضحية في العالم، وازدياد التعاطف مع حقوق الفلسطينيين، في الدول الغربية، بات يثير قلقا متزايدا بين الإسرائيليين، المرتبطين بتلك الدول، مع حرصهم على إثبات التقارب القيمي مع الغرب، وهذا يكمن في أساس الحراكات المناهضة لحكومة نتنياهو. وثمة أوساط حذرت من أن إضعاف "المحكمة العليا"، ورفع الرقابة القانونية عن الحكومة، قد تعرض ضباط وجنود الجيش لمحاكمات دولية.
 

التكوين الرئيس للجيش الإسرائيلي (القوات النظامية والاحتياط) من الجمهور العلماني، وإسرائيل تتعاطى مع الفلسطينيين كأغيار، والديمقراطية ودولة المواطنين تخص اليهود الإسرائيليين فقط، إضافة إلى أن إسرائيل تأسست باعتبارها دولة قومية لليهود

لا يعني كل ذلك مداعبة أوهام بشأن أن الجيش الإسرائيلي بات مفككا، أو ضعيفا، إذ إن كل تلك التحليلات فقط تحذر من عواقب ما تحاوله حكومة نتنياهو، وتستدعي أسباب مناهضته، لدى الإسرائيليين، إذ بحسب عوفر شلح "تحول الجيش إلى ميدان المعركة الذي تحسم فيه المعارك المختلفة لحرب القبائل... جيش كهذا لا يمكنه أن يكون جيشا، لا للشعب ولا للدولة". ("يديعوت"، 24/7/2023).

ولعل التطور الأهم في هذه الأزمة يتمثل في إعلان جميع قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية الولاء لقرارات "المحكمة العليا" والالتزام بالقانون، ما يضع الحكومة الإسرائيلية في موقف حرج جدا، بين الالتزام بقرار المحكمة، أو رفض ذلك، مع التبعات الناجمة عن هذا التطور، وهو الأمر الذي سيتم البث به في الأسابيع القليلة القادمة، مع انعقاد تلك المحكمة بكامل هيئتها.

إذن الأزمة في إسرائيل، هي أزمة في النظام السياسي، وفي الديمقراطية، وفي إمكان تعدد واستقلالية السلطات، كما هي في جيشها، أيضا، وهو ما يقترح إسرائيليون الانتباه إليه جيدا، وإيجاد حلول له، في دولة نشأت منذ البداية ومعها تناقضاتها الخاصة.
 

font change

مقالات ذات صلة