على خلاف قصة الرقم 7 الأسطوري في ثباته عددا للعائلات التأسيسية النافذة والمرموقة في المدن التقليدية القديمة، قلب الحراك الاجتماعي في الأزمنة الجديدة أو المعاصرة (بالهجرة وبالشبكات العائلية التجارية) ثبات المكانات العائلية المتقادم، الذي كان حراكه البطيء يقتصر على المصاهرة وحدها. وربما علينا أن نضيف التعليم في هذا السياق، بوصفه بابا واسعا للحراك الاجتماعي الكبير، إلى جانب الهجرة والأعمال التجارية اللذين سبقا التعليم الذي جاء دوره متأخرا زمنا في عائلة سرسق، على ما يبدو.
آل سرسق وآل روتشيلد
المنعطف الثاني في مسار عولمة ثروة آل سرسق، حققته الحرب الأهلية بين الدروز والنصارى الموارنة في جبل لبنان (1840- 1860) وتمادي انهيار السلطنة العثمانية، وصيرورة بيروت عاصمة ولاية عثمانية سنة 1888، بعد انفتاحها وتوسعها خارج أسوارها، ازدهارها وتكاثر المهاجرين المسيحيين إليها من بلدان المشرق، وحلول البعثات التبشيرية والتعليمية الغربية وسفراء الدول الأوروبية الكبرى فيها. وفي خضم هذه التحولات تأسس "بنك سرسق" في بيروت. ولما أرغمت السلطات العثمانية والدول الكبرى الدروز على دفع "تعويضات" مالية نتيجة المجازر التي ارتكبوها بخصومهم الموارنة، أصدرت إسطنبول "سندات مالية" مؤجلة، ومنحتها للموارنة على أن يسدّد الدروز قيمتها لاحقاً. وبما أن حاملي تلك السندات كانوا يشكّون في إمكان تحصيلها من خزينة السلطنة التي يعادونها والمأزومة ماليا، جعلوا يبيعونها من "بنك سرسق" بأبخس الأثمان.
وشاءت الظروف ونفوذ آل سرسق في إسطنبول أن يحصّل البنك العائلي قيمة السندات كاملة، ومنها حيازة العائلة مساحات من الأرض الأميرية في سهل البقاع وفلسطين وتركيا ومصر، فيما كان لطف الله سرسق يموّل خزينة الخديوي إسماعيل في القاهرة.
مشهد لتضرر متحف سرسق جراء انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020كان أبناء متري سرسق الستة، مؤسسي الثروة العائلية الفاحشة، ويتصدرهم لطف الله. وجعلهم توزّعهم في لندن والقاهرة وإسطنبول وبيروت وفلسطين، سفراء العائلة وثروتها المشرقية والمعولمة بمعايير ذلك الوقت. وكل واحد من هؤلاء الإخوة أنجب نحو 10 أبناء. وإلى أن كثرة الإنجاب من تقاليد ذاك الزمن (نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين)، هي أيضاً قرينة على أن مؤسسي الثروة العصاميين، ظلوا مقيمين على ثقافة سابقة على حيازتها. فأبو علي سليم سلام (1868- 1938) البيروتي السني مثلاً - وهو مؤسس وجاهة آل سلام ومكانتها وثرائها في بيروت، ووالد رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (1905- 2000) - أنجب ما يزيد على 10 أبناء.
وإذا كان جيل آل سرسق الثاني الذي أسّس الثورة العائلية الكبرى، لا يتجاوز الستة - على اعتبار أن والدهم متري سرسق كان الممهّد الفرد والأول لذاك الثراء، بعد هجرته إلى بيروت وزواجه من امرأة عائلة طراد المرموقة والثرية فيها - فإن عدد أفراد الجيل الثالث من عائلة سرسق بلغ ستين شخصا توزعت عليهم الثروة العائلية الضخمة، فيما كان بعضهم يوسّع انتشاره إلى إيطاليا وفرنسا، إقامة وعملا وزواجا. لكن رابط آل سرسق العائلي بدأ يتمزّق ويختفي في هذا الجيل.
وحسب غبريال ريس كانت عائلة سرسق في ثرائها "مثل عائلة روتشيلد". بعض قصورها شيدها جيلها الثاني، فراحت تتزايد في جيلها الثالث على تلة الأشرفية البيروتية، حيث نشأ حي السراسقة وقصوره الكثيرة. واتسع تشييد القصور وترفها إلى بلدة صوفر في جبل لبنان، موئل المصطافين من النخبة المدنية العربية في دمشق والقاهرة وبغداد وفلسطين. فموسى سرسق، وهو من جيل العائلة الثاني، شيد قصره الأضخم في الأشرفية سنة 1860. ابنه ألفرد ورث القصر وتزوج الدونا ماريا الإيطالية، وشيد باسمها قصرا في صوفر، غير بعيد من "فندق صوفر الكبير" الذي شيّده لنخبة المصطافين العرب في مطالع القرن العشرين، وظل يستقبلهم حتى أحرقته نيران حروب لبنان (1975- 1990). ومبنى الفندق مع قصر الدونا ماريا، لا يزالان حتى اليوم ينتصبان هيكلين متصدّعين. أما قصر حي السراسقة الأضخم في بيروت، فورثته ابنة ألفرد، الليدي إيفون سرسق كوكرن، التي تزوجت من لورد إيرلندي حملت اسم عائلته إلى أن قضت نحبها في القصر الذي صدّعه انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.
مضيف ملوك ورؤساء
ثروة السراسقة كانت "دولية أو عالمية"، قال غبريال ريس. وقالت زوجته متحسّرة شاكية: "الجيل الثالث من العائلة انصرف عن العمل ومضاعفة الثروة، إلى التبذير واللهو والتبذل". لكن ريس أضاف: "النساء والقمار والزراعة". ما شأن الزراعة في التبذير؟!- فكرتُ أنا المستمع إلى ريس، وظننت أنه يقصد الإقبال على شراء الأراضي الأميرية في العهد العثماني. لكنه أوضح قائلا: "الأولاد... الأولاد"، مكنيا بالزراعة عن الإكثار من إنجابهم الذي يوزّع الثورة ويبدّدها. وخيّل إليَّ أن ما حمل محدّثي على هذه الكناية، هو حسرته من عدم إنجابه أولادا يورثهم اسمه وثروته. وإما رغبة منه في عدم تكرار سيرة عائلة أمه وزوجته التي راح ستون من أبناء جيلها الثالث يبدّدون ثروتها الهائلة.
لكن ما مصير ثروة ريس؟ - فكرتُ - طالما لن يرثها أحد. أيكون مصيرها شبيها بالمصير الذي اختاره لقصره نقولا إبراهيم سرسق (وهو من جيل العائلة الثالث) المتوفى سنة 1952، بلا زواج ولا إنجاب؟
توفى نقولا إبراهيم سرسق عن 65 سنة في قصره الفخم الكبير، الذي - عشية الحرب العالمية الأولى، عندما كان في أواسط العقد الثالث من عمره - شرع في تشييده لصق قصر والده القديم في حي السراسقة. وبعد حياة عاشها باذخا مترفا وكثير الأسفار، بلا عمل ولا زواج، كتب نقولا في وصيته أنه يهب قصره لمدينة بيروت، شرط تحويله متحفا للفنون الحديثة، ويكون رئيس بلدية المدينة متوليا عليه، وتديره لجنة من الشخصيات البيروتية، بلا مقابل.
خلال إعادة افتتاح متحف سرسق في العاصمة اللبنانية بيروت في 26 مايو 2023
ظل القصر مقفلا حتى سنة 1957، واستعمل بموجب مرسوم جمهوري في عهد كميل شمعون الرئاسي (1952- 1958) مراتٍ عدة لاستضافة ملوك ورؤساء زاروا لبنان رسميا. منهم الملك سعود بن عبد العزيز، وملك اليونان، وكثرة من الديبلوماسيين الأجانب. لكن الدكتور لطف الله ملكي (حافظ المتحف بعد افتتاحه الثاني عقب سني حروب لبنان التي أقفلته بين 1975 و1990) أسقط السنوات الخمس بين 1952 و1957 من تاريخ المتحف وجعلها من تاريخ القصر، لأن استخدامه فيها كان "يخالف وصية صاحبه الذي شاءه متحفا للفنون، لا قصرا لاستضافة أهل السياسة والديبلوماسية". فنقولا إبراهيم سرسق كان أتخم قصره باستضافة نخبة لبنان من سياسيين وديبلوماسيين ووجهاء وأهل قلم، وأراد بعد رحيله جعله مرفقا عاما للفن وأهله، حسب غبريال ريس الذي أضاف أن نقولا "جعل قصره مضافة دائمة لمعارفه وأصدقائه، أمثال جبران تويني (والد غسان تويني) والصحافي التائه إسكندر رياشي، وغيرهما من العازبين أمثاله. لذا كانت موائد الغداء والعشاء لا تتوقف في القصر، ولم يكن عدد المدعوين إليها يقلّ عن العشرة في كل مرة".
ترفٌ ممل وخوف
تحوّل القصر متحفا سنة 1961، بعدما بادر رئيس بلدية بيروت أمين بك بيهم سنة 1958 إلى تعيين لجنة مهمتها إنفاذ وصية صاحب القصر. وهكذا بدأ تاريخ "متحف سرسق" عندما استضاف "معرض الخريف الأول للفنون التشكيلية" في خريف 1961، وكان انقضى ما ينوف عن قرن كامل على بلوغ آل سرسق الثراء الفاحش.
عاش نقولا إبراهيم سرسق حياته "متقلّب المزاج والأطوار - قالت زوجة غبريال ريس - ففي مدرسة عينطورة، حيث أمضى سنواته الدراسية، كانت غرابة أطواره ورغبته في اللهو والتميز، تحملانه على صباغة شعره أشقر، فطُرد من المدرسة". أما ريس فأضاف أن نقولا "واحد من السراسقة الستين الذين بدّدوا الثروة العائلية الدولية. ولم يكن لامعا ولا مميزا شأن اثنين من مجايليه: الياس وميشال سرسق اللذان كانا عضوين في أول برلمان عثماني".