"المادة المضادة" لم تفلت من تأثير الجاذبية

كشف أسرار محيرة وفك شيفرة لها آثار عميقة على فهمنا للفيزياء

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese

"المادة المضادة" لم تفلت من تأثير الجاذبية

قبل نحو قرن من الزمان؛ تنبأ الفيزيائي البريطاني العبقري بول ديرك بوجود مادة غامضة في الكون سماها "المادة المضادة". قال إن المادة المضادة (Anti-Matter) هي نظير غامض للمادة العادية. فبينما تتكوّن المادة من ذرّات، تدور فيها الالكترونات السالبة الشحنة حول النواة الموجبة الشحنة، فإن المادة المضادة تتكوّن من الكترونات موجبة الشحنة تدور حول نواة سالبة الشحنة.

منذ ذلك الحين، يحاول العلماء فهم "المادة المضادة" وطريقة استجابتها للقوى الأساسية في الكون، ومن ضمنها قوى الجاذبية، ويقول بعضهم إن الجاذبية، التي تُسقط المواد العادية إلى أسفل، تؤثر بشكل معكوس على المادة المضادة، أيّ ترفعها إلى أعلى.

غير أن بحثا تجريبيا جديدا، نُشرت نتائجه في دورية "نيتشر" المرموقة، فك شيفرة أحد أكبر ألغاز الفيزياء في العالم، إذ يقول إن "المادة المضادة" لا تفلت من تأثير الجاذبية، إذ تسقط إلى أسفل، شأنها شأن المواد العادية.

ما هي"المادة المضادة"؟

وجود "المادة المضادة" هو نتيجة أساسية لقوانين فيزياء الجسيمات والتناظرات التي تحكم الكون. إذ تنشأ بشكل طبيعي كصورة مرآة للمادة العادية بسبب التماثلات في القوى الأساسية للطبيعة.

أحد المبادئ الأساسية في فيزياء الجسيمات هو مفهوم التماثل، إذ تُظهر قوانين الفيزياء تناظرا ملحوظا بين المادة و"المادة المضادة".

Shutterstock

فلكل نوع من الجسيمات في المادة العادية (مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات)، جسيم مضاد له الكتلة نفسها ولكن بشحنة معاكسة وببعض الخصائص الأخرى. تشمل هذه الجسيمات المضادة البوزيترونات (الإلكترونات المضادة)، والبروتونات المضادة، والنيوترونات المضادة، وغيرها.

في بداية الكون، ولّد الانفجار الكبير مقدارا متساويا من المادة و"المادة المضادة". من المفترض أن تتحد المادتان الواحدة مع الأخرى وتتلاشيا بشكل كامل، إلا أن ما حدث غير ذلك. فقد تغلبت المادة العادية - بشكل ما غير معروف - على "المادة المضادة"، التي لم تعد متوافرة في كوننا المرئي، ومن غير الواضح تماما سبب ذلك، الأمر الذي أدى الى وجود خلل في التوازن بين المادة والمادة المضادة في الكون.

كان الاكتشاف الجديد بمثابة تأكيد مدوٍّ لمبدأ التكافؤ وشهادة على دقة الفيزياء التجريبية، كما أنها دليل أيضا على صحة نظرية النسبية العامة لآينشتاين.

لكن، يُمكن للعلماء - مثلما فعلوا في البحث الجديد - إنتاج "المادة المضادة" بشكل مصطنع في المختبرات، باستخدام مسرعات الجسيمات وغيرها من التجارب العالية الطاقة. 

ففي سلسلة من التجارب التي أجريت في "سيرن"، وهي المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، توصل الفيزيائيون إلى اكتشاف رائد، بعدما خلّقوا ذرّات الهيدروجين المضاد - وهي حالة مرتبطة بالبروتون المضاد والبوزيترون - ومراقبة كيفية تصرفها في وجود الجاذبية.

كان الغرض من ذلك البحث هو الإجابة عن أحد الأسئلة القديمة في الفيزياء: هل تتفاعل "المادة المضادة" مع الجاذبية بالطريقة نفسها التي تتفاعل بها المادة العادية؟

يقول الفيزيائي بجامعة "آرهوس" الدانماركية جيفري هانجست، وهو المؤلف الرئيسي لتلك الدراسة، إنه ووفقا للنظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين، فإن جميع الأجسام، بغض النظر عن تركيبها، تسقط بالمعدل نفسه في الفراغ تحت تأثير الجاذبية مشيرا في تصريحات لـ"المجلة" إلى أن "هذا المبدأ، المعروف باسم مبدأ التكافؤ، تم اختباره وتأكيده بالنسبة الى المادة العادية مرات لا تحصى، ولكن بقي السؤال: هل ينطبق هذا على المادة المضادة؟".

جاءت النتائج مذهلة. فتماما مثل ذرّات الهيدروجين العادية، التي تتكوّن من بروتون وإلكترون، لوحظ أن ذرات الهيدروجين المضاد تقع تحت تأثير الجاذبية بالطريقة نفسها تماما مثل نظيراتها من المادة. وكان هذا الاكتشاف بمثابة تأكيد مدوٍّ لمبدأ التكافؤ وشهادة على دقة الفيزياء التجريبية، كما أنها دليل أيضا على صحة نظرية النسبية العامة لآينشتاين.

ماذا يقول آينشتاين؟

لا تزال النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، التي تمت صياغتها في عام 1915، من أبرز الإنجازات في تاريخ الفيزياء. أحدثت هذه النظرية الرائدة ثورة في فهمنا للجاذبية ونسيج الكون. وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان، لا يزال هذا الوصف هو الوصف الأكثر نجاحا للجاذبية، بعدما صمدت أمام العديد من الاختبارات والتحديات التجريبية.

فسرعان ما اكتسبت نظرية النسبية العامة لآينشتاين شهرة خلال كسوف الشمس عام 1919 عندما قاد عالم الفلك البريطاني السير آرثر إدينجتون رحلة استكشافية لقياس انحراف ضوء النجوم بسبب جاذبية الشمس، كما تنبأت النظرية. وكان التأكيد الناجح لهذا التوقع بمثابة لحظة فاصلة دفعت بآينشتاين إلى الإشادة العالمية.

منذ ذلك الحين، خضعت النظرية لاختبارات تجريبية صارمة، بما في ذلك قياس تمدد الزمن الثقالي، والانزياح الأحمر الثقالي، والمدارات الدقيقة للكواكب والأقمار الصناعية. مع ذلك، فإن التحقق الأحدث والرائد جاء في شكل موجات جاذبية، تم رصدها للمرة الأولى في عام 2015 بواسطة مرصد موجات الجاذبية بالليزر (LIGO). هذه التموجات في الزمان، الناتجة من أحداث كارثية مثل اندماج الثقوب السوداء، قدمت دليلا مباشرا على وجود موجات الجاذبية، كما تنبأت نظرية آينشتاين.

في حين أثبتت النظرية النسبية العامة نفسها مرارا وتكرارا، فقد كشف علم الكونيات الحديث عن أسرار محيرة، مثل المادة المضادة والمادة المظلمة والطاقة المظلمة - التي لها آثار عميقة على فهمنا للجاذبية. 
أحد السبل المثيرة للاهتمام في عالم الجاذبية، سلوك المادة المضادة، التي لم تكن معروفة في البداية لآينشتاين في عام 1915، وصفها نظريا ديراك في عام 1928، مع أول ملاحظة للبوزيترون (نظير المادة المضادة للإلكترون) حدثت في عام 1932.

نشأت مناقشات نظرية حول ما إذا كانت المادة المضادة قد تتصرف بشكل مختلف تحت الجاذبية. في حين أن الإجماع يميل نحو أن المادة المضادة تنجذب إلى المادة، فقد اقترحت بعض الفرضيات إمكان وجود تأثيرات "مضادة للجاذبية".

في حين أثبتت النظرية النسبية العامة نفسها مرارا وتكرارا، فقد كشف علم الكونيات الحديث عن أسرار محيرة، مثل المادة المضادة والمادة المظلمة والطاقة المظلمة - التي لها آثار عميقة على فهمنا للجاذبية والزمكان

يفترض مبدأ التكافؤ الضعيف، وهو حجر الزاوية في نظرية آينشتاين، أن جميع الكتل تتفاعل بشكل مماثل مع الجاذبية، بغض النظر عن بنيتها الداخلية. والآن، أظهرت تجربة باستخدام ذرات الهيدروجين المضاد أن جسيمات المادة المضادة هذه تتصرف بشكل متسق مع جاذبية الأرض. هذه التجربة الحاسمة قدمت نتائج تستبعد بشكل فعال مفهوم "الجاذبية المضادة" الطاردة للمادة المضادة، مما يعزز تنبؤات نظرية آينشتاين.

عقبات ونظريات...

لكن النتائج لم تصدم الكثير من علماء الفيزياء بقدر ما وضعت عقبات أمام بعض النظريات الشاذة التي تفترض، من أجل حل بعض أكبر ألغاز علم الكونيات، أن الجاذبية تدفع "المادة المضادة" بدلاً من أن تسحبها، بحيث تكون المادة خاضعة لـ"الجاذبية المضادة".

قبل قرون، أثبت العالم الإيطالي غاليليو غاليله هذا المبدأ من خلال دحرجة كرات من مواد مختلفة أسفل منحدر صغير -وليس، كما تقول الأسطورة، بإسقاطها من برج بيزا المائل- وانطلاقا من هذا المبدأ، استنتج ألبرت آينشتاين أن الجاذبية تنشأ عندما تشوه الأجسام الضخمة المكان والزمان، وهو أساس نظريته النسبية العامة التي وضعها عام 1915. لكن الجديد في الأمر أن أحدا لم يقم باختبار ما إذا كان مبدأ التكافؤ ينطبق على المادة والمادة المضادة.

لمعرفة ذلك، قام الفيزيائيون الذين يعملون باستخدام جهاز فيزياء الليزر المضاد للهيدروجين (ALPHA) في مختبر فيزياء الجسيمات الأوروبي، بإجراء نسخة محدثة من اختبار السقوط لغاليله. 
أولاً، استخدم الفريق مجالا كهربائيا لالتقاط البروتونات المضادة والإلكترونات المضادة المتولدة في تصادمات الجسيمات، بعدما حركوا تلك الجسيمات لتكوين ذرات الهيدروجين المضاد، والتقطوها باستخدام مصيدة مغناطيسية مبنية حول المصيدة الكهربائية. 

بعد ذلك، أطلق الفريق نحو 100 ذرة مضادة في كل تجربة، لمعرفة ما إذا كانت ستسقط الى الأسفل أم الى الأعلى.

تفاصيل معقدة

لكن تفاصيل التجربة كانت أكثر تعقيدا بكثير. فذرات الهيدروجين المضاد المولّدة ساخنة نسبيا وسريعة الحركة، وعرضة للتطاير من أعلى وأسفل المصيدة المغناطيسية الأسطوانية الطويلة، مما يجعل من الصعب تمييز تأثير الجاذبية. علاوة على ذلك، يمكن أن يتسبب المجال المغناطيسي بتطاير الذرات الى أعلى المصيدة، مما يخلق إشارة زائفة مضادة للجاذبية.

للتحكم في مثل هذه التأثيرات، استخدم الفريق المجالات المغناطيسية التي تحبس الذرات المضادة لدفعها قليلاً، الى أعلى أو الى أسفل، عند إطلاقها، أي قام الفريق بتطبيق قوة إضافية تُجبر ذرات الهيدروجين على التحرك في اتجاه الجاذبية نفسه.

بعد ذلك، قام الفريق بتغيير اتجاه القوة لدفع الذرات الى أعلى -في اتجاه مضاد للجاذبية- ليجدوا أن تطبيق القوة نفسها جعل الذرات "معلقة" في الفضاء ولم يدفعها الى أعلى، وهذا يدل على أن ذرات الهيدروجين المضادة تتعرض لقوة أخرى تسحبها الى أسفل، وهي قوة الجاذبية الأرضية.

يتحدى هذا الاكتشاف روايات الخيال العلمي الشائعة التي صورت "المادة المضادة" على أنها مادة غريبة تتحدى قوانين الفيزياء. ففي حين أن فناء المادة المضادة والمادة يظل مفهوما قويا لإنتاج الطاقة، إلا أن سلوك "المادة المضادة" في الجاذبية يبدو متسقا مع فهمنا الحالي للفيزياء

في عام 2012، افترض الفيزيائي الفرنسي غبريال شاردين أن الكون المرئي قد يحتوي على كميات متساوية من المادة و"المادة المضادة"، لكن الأخيرة تخضع للجاذبية المضادة، وعلى الرغم من أن لتلك الفكرة أساسا علميا، إلا أنها لم تكن مُجدية على الأطلاق، فعلماء الفلك لم يلاحظوا على الإطلاق مجرات مكونة من المادة المضادة.

لكن الجاذبية المضادة تتجنب هذه المشكلة ويمكنها أيضا حل اثنين من أكبر الألغاز في علم الكونيات: المادة المظلمة الغامضة التي تحافظ جاذبيتها على سلامة المجرات، والطاقة المظلمة الأكثر غرابة التي تمد الفضاء وتسرع توسع الكون. 

Shutterstock

فمع مراعاة القوى المعاكسة للجاذبية، تنفصل المادة والمادة المضادة، وبالتالي سوف تتجمع المادة لتشكل المجرات، وسوف تنتشر المادة المضادة بأقصى قدر ممكن بين المجرات وتتصرف مثل الطاقة المظلمة وتدور حول المجرات وتفتح خنادق من الفضاء الفارغ الذي من شأنه أن يمنع إبادة المادة والمادة المضادة.
"الآن علينا أن نجد تفسيرا آخر لحل تلك الألغاز"، يقول هانجست في حديثه لـ"المجلة".

المادة المظلمة

لذلك الاكتشاف آثار عميقة على فهمنا للكون، فهو يؤكد أحد المبادئ الأساسية للنسبية العامة، مما يعزز ثقتنا في النظرية التي تدعم فهمنا للجاذبية والزمكان.

علاوة على ذلك، فإن لهذا الاكتشاف آثارا عملية على التجارب المستقبلية المتعلقة بالمادة المضادة، إذ يفتح إمكانات لإجراء تجارب أكثر دقة للتحقيق في جوانب أخرى من المادة المضادة، مثل تفاعل الجاذبية مع المادة المظلمة، الذي لا يزال من أعظم الألغاز في الفيزياء الفلكية.

فالمادة المظلمة التي يُعتقد أنها تشكل جزءا كبيرًا من الكتلة الإجمالية في الكون لا ينبعث منها أو يمتص خلالها أو يتفاعل معها الإشعاع الكهرومغناطيسي (مثل الضوء)، مما يجعلها غير مرئية ويصعب اكتشافها مباشرة. ويُعتقد أن المادة المظلمة موجودة بسبب تأثيرات الجاذبية على المادة المرئية والبنية الواسعة النطاق للكون.

ويُعتقد أن المادة المظلمة تلعب دورا حاسما في تكوين وبنية المجرات وعناقيد المجرات، لكن لا يزال ذلك الدور مجهولًا إلى حد كبير.

بعيدا من الآثار العلمية، يتحدى هذا الاكتشاف أيضا روايات الخيال العلمي الشائعة التي صورت المادة المضادة على أنها مادة غريبة تتحدى قوانين الفيزياء. ففي حين أن فناء المادة المضادة والمادة يظل مفهوما قويا لإنتاج الطاقة، إلا أن سلوك المادة المضادة في الجاذبية يبدو متسقا مع فهمنا الحالي للفيزياء.

font change

مقالات ذات صلة