ازدواجية الغرب... ماذا عن الشرق؟

ازدواجية الغرب... ماذا عن الشرق؟

قبل أعوام كتبت على صفحات "المجلة" عن انفصام "الممانعة" الأخلاقي. يقتل ممثلوها الآلاف في سوريا ويدينون قتل رجل أسود في الولايات المتحدة، يحاصرون الفلسطينيين والسوريين ويقتلونهم جوعا في مخيم اليرموك وفي مضايا والزبداني، ويستنكرون ويغضبون لحصار إسرائيل الجائر لقطاع غزة.

تجارتهم بالمبادئ والقيم والقضايا ليست بالأمر الجديد، فمشروع "حزب الله" وكل من يدور في فلك إيران هو خدمة مشروع إيران التوسعي والحفاظ على مكاسبهم، أما فلسطين فهي للأسف مادة مربحة جدا للتجارة، يتاجرون بها ويتعاملون معها وفق مصلحة إيران فقط.

بعد عملية "طوفان الأقصى"، وبعد الرد الإسرائيلي الذي تمثل في عدوان همجي على قطاع غزة وقتل الآلاف من المدنيين، هالني أن أرى، وللأسف، أن "الممانعة" ليست وحدها من يعاني من انفصام إنساني وأخلاقي، أرعبني أن أرى الهجوم الذي يتعرض له كل من كان له موقف أخلاقي وإنساني وعقلاني.

لنبدأ من عملية "طوفان الأقصى"، العملية العسكرية التي قامت بها "حماس" ضد إسرائيل، والتي تسببت في قتل أطفال واعتقال مدنيين إسرائيليين وأجانب، وكان الرد الإسرائيلي بقتل آلاف الأطفال والمدنيين الفلسطينيين.

عندما صدرت بيانات عربية، ومواقف من شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية أدانت قتل المدنيين والأطفال من كلا الجانبين، تعرض أصحاب هذه البيانات لحملة شرسة ليس فقط من بعض الشارع العربي، ولكن ممن يعتبرون من "النخب"، حملة تنطلق من مبدأ يقول: ما دامت إسرائيل قد قتلت أطفالا فلسطينيين فلماذا استنكار قتل أطفالها؟ وكأن قتل الأطفال يمكن أن يبرر.

في باكستان في عام 2017، أمر مجلس "الحكماء" المعروف أيضا باسم "بانشايات"، أو "جيرغا"، في منطقة باكستانية نائية، رجلا باغتصاب فتاة عمرها 16 عاما، بعدما تعرضت شقيقته للاغتصاب من قبل شقيق الفتاة التي صدر الحكم باغتصابها. قبل ذلك بسنوات، أصدر مجلس محلي آخر قرارا باغتصاب جماعي لامرأة اتهم شقيقها خطأ بحوادث اغتصاب.

نعم في بعض المناطق في باكستان المغتصب لا يحاكم، بل وبقرار "رسمي" من سلطة محلية أو قبلية يتم اغتصاب شقيقته كعقاب له، كيف لا والمرأة هي الحلقة الأضعف؟

إن صدمكم الأمر، اسألوا أنفسكم ما الفرق بين هذا وذاك؟ ما الفرق بين ما تقوم به بعض القبائل في باكستان ومن يبرر قتل أطفال إسرائيل لأن أهاليهم قتلوا أطفال فلسطين؟

فبرك الإعلام الإسرائيلي قصصا عن قطع رؤوس أطفال، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن تبنى الخبر ليعود البيت الأبيض بعد ساعات ويبرر أو يتنصل من هذا التبني، فالرواية كلها مفبركة ولا أساس لها من الصحة.

نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صالح العاروري، قال في حديث تلفزيوني قبل أيام: "إن التعليمات كانت منذ البداية لدى مقاتلي القسام بالالتزام بتعليمات الدين الإسلامي في الحروب، والاكتفاء فقط بمقاتلة الجنود والمسلحيين"، مضيفا أن ما جرى هو "أن بعض أهالي القطاع عندما سمعوا بانهيار الحدود مع غلاف غزة سارعوا لدخول الغلاف، وحصل هناك بعض الفوضى". إذن، أي انتهاك حصل لتعاليم الدين الإسلامي، فلا علاقة لحركة "حماس" به، إنهم الأهالي.

بدوره صرح خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس بالخارج، في مقابلة مع "العربية"، بأن "لدينا أسرى من الجنود الإسرائيليين بما يكفي للتفاوض على معتقلينا، وأبلغنا بعض الدول باستعدادنا لتسليم الأسرى المدنيين".

فبرك الإعلام الإسرائيلي قصصا عن قطع رؤوس أطفال، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن تبنى الخبر، ليعود البيت الأبيض بعد ساعات ويبرر أو يتنصل من هذا التبني، فالرواية كلها مفبركة ولا أساس لها من الصحة

وإن سألنا: إذن، هل أسرت "حماس" مدنيين كما قال مشعل، أم إن الأهالي هم من فعلوا كما قال العاروري، فهل سنواجه بالتخوين؟ 
ولنفترض أن أهالي القطاع هم من أسروا المدنيين وبينهم أطفال (شاهدنا صور الإفراج عن أم وطفليها ثم أم وابنتها)، لماذا احتفظت الحركة بهم إن كانت تتبع تعاليم الدين كما تقول؟ 
عدد من الدول الأوروبية فرض قيودا وحظرا على المظاهرات المتضامنة مع غزة، ووصل الأمر بالتهديد باعتقال وترحيل من يخالف القرار، في وقت سمحت فيه هذه الدول نفسها بالتظاهر تأييدا لإسرائيل، ولكن الذي حصل أن مسيرات ومظاهرات في هذه الدول خرجت ورفعت العلم الفلسطيني وأعلنت تضامنها الكامل مع الفلسطينيين في غزة ونددت بحرب الإبادة التي يتعرضون لها على يد إسرائيل. حتى إن المحكمة العليا الفرنسية أبطلت قرار الحكومة الفرنسية وسمحت بالتظاهر في باريس تضامنا مع فلسطين.
في الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر والأقوى لإسرائيل، نظم مئات اليهود الأميركيين اعتصاما مفتوحا في مبنى الكونغرس الأميركي مطالبين بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومنددين بالمجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
في الوقت نفسه، كان بعض المتظاهرين العرب والمفكرين والصحافيين والسياسيين، يخبروننا كيف لو أن أمين عام "حزب الله" قرر فتح جبهة الشمال وشن حربا على إسرائيل فهم معه، ويغفرون له ما سبق. هم قادرون على أن يغفروا ويبيضوا صفحة حسن نصرالله، المسؤول عن قتل مئات آلاف السوريين مع بشار الأسد، من أجل فلسطين؟ هل من ازدواجية بالمفاهيم والقيم والأخلاق أكثر من هذه الازدواجية؟ يفاضلون بين قتلة؟ يفاضلون بين دماء الأطفال؟
فلسطين قضية حق، والتضامن معها واجب إنساني وأخلاقي قبل أن يكون واجبا عربيا أو إسلاميا، وازدواجية المعايير في الغرب ليست بالأمر الجديد. ولكن، هل لنا أن نسأل عن ازدواجية المعايير في شرقنا التعيس؟ هل لنا أن نتخيل أن تخرج مظاهرة ولو من بضعة أشخاص لا يتجاوزون أصابع اليدين تستنكر قتل الأطفال، جميع الأطفال؟ هل لنا أن نتخيل مجموعة من المسلمين تخرج في إحدى العواصم العربية أو الإسلامية تطالب بالسلام العادل، وتندد بقتل الأطفال؟
ما نحتاجه حقا هو بضعة أصوات شجاعة، لا تخاف من التخوين والتكفير، تسأل وتفكر وتقول لا للازدواجية، في الشرق والغرب، لا لقتل الأطفال أكانوا مسلمين أم يهودا أم مسيحيين أم أي شيء كانوه. لا للمفاضلة بين مجرمين وبين محتلين، يكفينا ما نعيشه من نكبات سياسية، لسنا بحاجة لنكبات أخلاقية وإنسانية.

فلسطين قضية حق، والتضامن معها واجب إنساني وأخلاقي قبل أن يكون واجبا عربيا أو إسلاميا، وازدواجية المعايير في الغرب ليست بالأمر الجديد. ولكن، هل لنا أن نسأل عن ازدواجية المعايير في شرقنا التعيس؟ 

إن ما تحتاجه المنطقة هو الاعتصام بالعقل والأخلاق التي تقول إن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ومعاملتهم بعنصرية وبوحشية تبرر قتلهم كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي عندما وصف أهل غزة "بالحيوانات البشرية"، جريمة بحق الإنسان وبحق القانون الدولي، فهذا الاحتلال لا يجوز أن يظل قائما في عالم يدعي أنه يسير باتجاه المستقبل ورفاه الجنس البشري. 
في المقابل، المبادرة العربية التي حددت أن أساس السلام هو دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، يجب أن تكون أساس النضال الوطني الفلسطيني، وهو ما تبنته منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والتي اعترفت بها إسرائيل، لكن "حماس" حتى اللحظة ترفض الاعتراف بها.
إن انتقادنا لـ"حماس" ليس لحملها السلاح ضد الاحتلال، بل سببه خروجها على قرارات الشعب الفلسطيني ومطالب الفلسطينيين التي أقرتها ووافقت عليها منظمة التحرير، والتي يجب أن تعترف بها "حماس" وتتوقف عن تكريس الانقسام الفلسطيني وفصل غزة عن الضفة وإهدار حل الدولة الفلسطينية، فقضية فلسطين ملك للشعب الفلسطيني وليست ملكا لميليشيا "حزب الله"، أو الحشد الشعبي العراقي، أو الحرس الثوري الإيراني.

font change