منذ وعد بلفور، وصك الانتداب البريطاني على فلسطين الصادر عن "عصبة الأمم"، جرى اعتماد مشروع بناء وطن قومي لليهود في فلسطين يتجاهل وجود شعب أصلاني. وكانت الترجمة العملية لهذا القرار ممارسة التهجير العرقي وطمس الهوية الفلسطينية ومحاولة إذابة الشعب الفلسطيني في الإقليم.
في كل المراحل اللاحقة، وتحديدا بعد احتلال الضفة الغربية ومن ضمنها القدس وقطاع غزة، حرصت إسرائيل على تدمير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية، وكبح كل نمو لها يعزز وجود كيان وطني فلسطيني قابل للتطور، بالتزامن مع استمرار إنكار وجود شعب فلسطيني. وعندما اعترف المجتمع الدولي بحق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال وتقرير مصيره بما في ذلك إقامة دولته المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وضعت دولة الاحتلال في مركز اهتمامها تدمير مقومات تقرير المصير وأهمها إقامة دولة فلسطينة مستقلة. وكان السلاح الإسرائيلي الأقوى هو صناعة وقائع، كالمستوطنات وبنيتها التحتية التي تُقَطِّع أوصال الضفة الغربية وتحولها إلى بنتوستونات وأرخبيلات خاضعة لنظام آبارتهايد استعماري.
وكان الهدف المركزي الدائم لمجلس المستوطنات الذي بات يضم 700 ألف مستوطن هو منع وتدمير إقامة دولة تعبر عن كيان فلسطيني، حتى لو كانت الدولة مسخا. كذلك فإن مشروع اليمين القومي الديني الإسرائيلي المعلن هو المحو والطرد.
عمليا يحدث تغيير عرقي في القدس والأغوار ومناطق في الخليل، ويتم وضع منظومة قوانين عنصرية تشطب الحقوق الوطنية الفلسطينية في أراضي فلسطين الانتدابية. وما يحدث الآن في قطاع غزة من تهجير لأكثر من مليون فلسطيني من شمال القطاع إلى جنوبه، بالترافق مع تدمير البنية التحتية وقتل الآلاف، ومفاوضات معلنة وغير معلنة لطرد معظم المواطنين من قطاع غزة إلى خارجه، يحتمل تحقيق مستوى من مشروع الترانسفير.
ومن المنطقي، واستنادا للواقع والأهداف المتناقضة، أن يكون الهدف الفلسطيني بناء كيان وطني شرعي ومعترف به عالميا يضع الأساس للبقاء والتطور من جهة، ويدافع عن الحقوق الفلسطينية في العودة وتقرير المصير، وعن الحقوق المدنية والإنسانية للفلسطينيين في كل مكان.
لـقـد انتـزعت الحـركـة الفـلـسطـينيـة الـحـق الفلسـطيني فـي تـقـرير الـمـصيـر، وتأييـدا دوليـا للحقوق المشروعة المعرفة في قرارات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
وفي ظل الانحياز الأميركي للسياسة الإسرائيلية المعطِلة والمقوِضة للحل السياسي، وفي ظل التواطؤ الأوروبي مع الانحياز الأميركي، فإن حركة وطنية ديمقراطية مستقلة– مفترضة- معنية بإعادة بناء المجتمع الفلسطيني وتطوير قدراته ومناعته من خلال منظومة قوانين- أحوال شخصية، وعقوبات، وقانون عمل، وقانون أحزاب، وقوانين ضامنة للحريات، والتبادل السلمي لمركز القرار- ونظام تعليم، ونظام ضمان اجتماعي. وهذه جميعا لا تتحقق مرة واحدة، ولا ببنية نظام ذكوري أبوي عشائري هو السلطة الحالية.
هناك حاجة ماسة لإعادة صياغة مجتمع فلسطيني على قاعدة النظام والقانون، وثقافة الانفتاح على الحداثة المادية والثقافية. وبحاجة إلى فكر سياسي وطني ديمقراطي عقلاني يعيد تعريف الهوية الوطنية الجامعة، والتحرر الوطني.
لا تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية التي تنتمي بنيتها للنظام الشمولي المنهار تحقيق ذلك، وكل حديث عن تطوير بنيتها أمامه تحديات كبيرة. الطرف المؤهل لذلك هو دولة فلسطينية معترف بها. وهناك اعتراف 138 دولة بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة. وهناك حاجة ماسة لإعادة صياغة مجتمع فلسطيني على قاعدة النظام والقانون، وثقافة الانفتاح على الحداثة المادية والثقافية. وبحاجة إلى فكر سياسي وطني ديمقراطي عقلاني يعيد تعريف الهوية الوطنية الجامعة، والتحرر الوطني، وتعريف من هو الفلسطيني وما هي المصالح المشتركة والخاصة بكل تجمع فلسطيني، فكر يتجاوز ثقافة الإقصاء والآيديولوجيا المتعصبة والاستخدام الإقليمي لفلسطين كورقة ضغط لتحسين الشروط الخاصة بهذا البلد أو ذاك، فكر يعرف المسألة اليهودية وحلها.
أعتقد أن بقاء الشعب الفلسطيني دون مركز– دولة- شرعية ومعترف بها، سَيُبقي الشعب عرضة لمزيد من التفكك والإقصاء والاستخدام والتحولات الرجعية.
مقابل ذلك، فإن استمرار احتلال أراضي الـ67 أعاد صياغة المجتمع الإسرائيلي في قالب ديني قومي عنصري شديد التطرف، تجسده راهنا حكومة (نتنياهو وبن غفير وسموتريتش). لا يمكن للاحتلال وتحولاته أن يتراجعا دون دولة فلسطينية، والعكس صحيح. وهي عملية صعبة ومعقدة ومتداخلة لكنها الخيار الواقعي العقلاني في المدى المباشر والمتوسط.
إن تراجعا إسرائيليا عن الاحتلال ينطوي على تراجع المعسكر القومي الديني وتأهيل المجتمع الإسرائيلي، وبناء وإقامة دولة فلسطينية تنطوي على إعادة بناء مقومات المجتمع الفلسطيني– تشكيلة اقتصادية اجتماعية مفتوحة على التطور– وتأهيل المجتمع الفلسطيني. لن تكون هذه خاتمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل ستكون بداية البحث في حل دولة ديمقراطية ثنائية القومية. دون كولونيالية وعنصرية، ودون إعادة اليهود إلى البلدان التي هاجروا منها.