من سيأخذنا على محمل الجد ونحن نندد ونستنكر ونقول أوقفوا الحرب على غزة؟ من سيستمع إلى نداءات الاستغاثة لإنقاذ الأطفال من جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحقهم؟ أكثر من 6000 طفل قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية خلال شهر وبضعة أيام. ولكن لماذا على إسرائيل، ولماذا على العالم أن يستمع لمطالب وقف إطلاق النار؟ لماذا على العالم أن يساعدنا لوقف الحرب وتحقيق العدالة والسلام؟
هذا ليس بأي شكل من الأشكال قبولا بالحرب ولا بقتل الأبرياء، ليس قبولا بالتهجير ولا بالاحتلال، ولكن صور أشلاء الأطفال في هذه المنطقة من العالم باتت أمرا روتينيا. نختار أن نغير المحطة التلفزيونية التي تعرض هذه الصور، ننتقل إلى قناة أخرى تعرض صورا لا تقل فظاعة عن الصور الآتية من غزة. لكن هذه المرة الصور من السودان. مسكين السودان لا تأخذ المذابح بحق أهله حيزا كافيا من التغطية الإعلامية، فنحن مشغولون بإثبات إنسانيتنا بالتضامن مع غزة، وأي حديث عن السودان سيرى فيه البعض محاولة لحجب الأضواء عن جرائم إسرائيل.
بالأمس تحدثت مسؤولة مساعدات الأمم المتحدة في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، وقالت: "لا نزال نتلقى تقارير مروعة دون انقطاع عن العنف الجنسي، وعلى أساس النوع، وحالات اختفاء قسري، واحتجاز تعسفي، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والأطفال". وكشفت أن نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد السكان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية وإلى حماية، وأن أكثر من ستة ملايين فروا من منازلهم ونزحوا داخل السودان أو إلى دول مجاورة.
مَن قتل أكثر من نصف مليون من مواطنيه، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري من أرضه ومنازله، وجاء بالإيراني والأفغاني واللبناني والعراقي ليستوطنوا مكان السوري، يتحدث عن همجية الإسرائيلي
رغم ذلك، ورغم بعض الصور المسربة عن اغتصاب وقتل وتعذيب المدنيين هناك، فإن الأمر يبدو وكأنه خبر عادي أو هامشي، لم يستثر مشاعر الملايين.
ومَن قتل أكثر من نصف مليون من مواطنيه، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري من أرضه ومنازله، وجاء بالإيراني والأفغاني واللبناني والعراقي ليستوطنوا مكان السوري، يتحدث عن همجية الإسرائيلي.
وهو في الوقت نفسه الذي تقصف فيه غزة، يمارس تحضره بقصف إدلب ومشافيها ومدارسها وقراها بالصواريخ والطائرات وقذائف المدفعية، وكأنه وجد في هول المعركة في غزة ما يسمح له بقتل المزيد من السوريين بعيدا عن أضواء الإعلام...
كيف لمن ألقى الفلسطينيين في حفرة التضامن وأعدمهم بالرصاص ميدانيا، ولم يعرف أهلهم بموتهم إلا بعد سنوات طويلة وبسبب فيديو مسرب شاهدوه مرارا ليتأكدوا: "هل هذا ابني من قتل بالرصاص ودفن في الحفرة أم أخي؟". كيف للعالم أن يصدق استنكارنا لجريمة الإسرائيلي بحق الفلسطيني، ومن قتل آلاف الفلسطينيين ومئات آلاف المدنيين السوريين هو من يتحدث عن ضرورة محاسبة القاتل؟ طبعا هو يتحدث عن القاتل الإسرائيلي حصرا؟
الحكم السوري الذي أعيد إلى جامعة الدول العربية بمبادرة علها تصل بسوريا إلى حل سياسي، يقول: يجب إيقاف المسار السياسي بكل ما يشمله، طبعا المسار السياسي مع إسرائيل.
إسرائيل قصفت المستشفيات في غزة، كذلك فعل السلطة السورية. إسرائيل هجرت الفلسطينيين وجاءت بمستوطنين ليحلوا مكانهم، هذا أيضا ما قامت به إيران في سوريا والعراق.
رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبراهيم رئيسي طالب بتسليح المقاومة، في الوقت الذي يتغنى فيه أمين عام "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله بامتلاكه أكثر من 100 ألف صاروخ، والذي أثبتت التجارب المتتالية أن سلاح المقاومة ليس إلا سلاحا في خدمة مشروع إيران في المنطقة
وبينما تحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعظم الحاضرين، عن ضرورة تحقيق حل الدولتين، إلا أن الأسد له رأي آخر، فالأمر ليس أولوية، وحل الدولتين بالنسبة له، لا يوجد شريك لتطبيقه ولا مرجعية (مع أن المرجعية واضحة بالقرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام التي وافق عليها هو نفسه قبل 23 عاما)، فالحق لا يمكن استعادته عندما يكون المجرم قاضيا، هذا ما قاله هو.
رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبراهيم رئيسي طالب بتسليح المقاومة، في الوقت الذي يتغنى فيه أمين عام "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، بامتلاكه أكثر من 100 ألف صاروخ، والذي أثبتت التجارب المتتالية أن سلاح المقاومة ليس إلا سلاحا في خدمة مشروع إيران بالمنطقة.
المشهد في المنطقة ليس كوميديا سوداء، بل صار أشبه بالثقب الأسود، المنطقة برمتها قابلة لانفجار كبير يحولها إلى ثقب أسود، ما دامت العدالة غائبة ولا شيء سوى المزيد من الضغط على الضحايا، واستنسابية في التعاطي مع القضايا، وما دام المجرم لا يُحاسَب، بل يُحاسِب.