لغز أردوغان

لغز أردوغان

كيف لأي انتظام عقلي أن يجد توافقا منطقيا بين الموقف السياسي الخطابي التصعيدي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حرب غزة، الذي وصل حد نعته لإسرائيل بـ"الدولة الإرهابية"، وبين رفض حزبه "العدالة والتنمية" تمرير مشروع قرار في البرلمان التركي، تقدم به حزب السعادة المعارض، يطالب بـ"تحديد محتوى وكمية البضائع المرسلة من تركيا إلى إسرائيل والبحث في تأثيراتها على الوضع في غزة"!

للمتابع السياسي المحترف أن يفسر ذلك بسياسات أردوغان البرغماتية الممزوجة مع حاجة تركيا الماسة إلى هكذا علاقة مع إسرائيل. لكن ذلك لا يمنع طرح سؤالين تفصيليين متعلقين بالحدث: كيف لمثل هذا التناقض البيّن أن ينطلي على ملايين الناس، من مؤيدي أردوغان في الداخل التركي، وأكثر منهم في العالمين العربي والإسلامي؟ ولماذا هذا الإصرار الملحمي من أردوغان نفسه في ممارسة التصعيد الخطابي ضد إسرائيل بهذه الطريقة، رغم معرفته الوثيقة بحاجة تركيا الملحة لإسرائيل، حسب التوازنات الإقليمية وأحوال الداخل التركي؟

في توسيع اللوحة قليلا، سيُكشف ببساطة أن ما ينتهجه أردوغان من سلوك سياسي، بكل ما فيه من تناقض، هو تمثيل لحالة عامة تسود منطقتنا منذ ثلاثة أرباع القرن، أنظمة حاكمة وأحزاب سياسية وميليشيات مسلحة وآيديولوجيات وجماعات عصبوية، تعتقد كل واحدة منها أن المسألة الفلسطينية تربة خصبة، تستطيع أن تأخذ منها ما تحتاجه، حسب مصالحها وحساباتها الخاصة، وتعيد استخدامها كأداة لتثبيت ما تعجز عن فعله ونيله دون هذا الاستخدام للقضية الفلسطينية.

كثيرون هم الرؤساء والانقلابيون العسكريون الذين بفعل استخدامهم للفلسطينيين وقضيتهم أرادوا أن يتحولوا إلى "زعماء تاريخيين"، ومارسوا أفعالا ميدانية مباشرة في سبيل ذلك، أسالوا دماء غزيرة وشيدوا أنظمة حديدية. وليس أقل منهم الأنظمة الحاكمة والتنظيمات المسلحة التي فرضت سطوتها الرعناء على مجتمعاتها، تحديدا على أفراد الجماعات الأهلية الأخرى ضمن بلدانها، بسبب ما بقيت تقول إنه "دفاع عن فلسطين"، والأكثر منهم هي الأنظمة الإقليمية التي أرادت التحول إلى إمبراطوريات عابرة للحدود، زارعة القلاقل والصراعات الطائفية في كل حدب، وممارسة لمهنة "هندسة الحروب الداخلية في البلدان الأخرى"، وللسبب نفسه.

ما ينتهجه أردوغان من سلوك سياسي، بكل ما فيه من تناقض، هو تمثيل لحالة عامة تسود منطقتنا منذ ثلاثة أرباع القرن

لكن المثير للعجب أن المشترك الأعلى بين كل هؤلاء، كامن في كونهم لم يفعلوا شيئا للفلسطينيين وقضيهم، بدلالة الوقائع المباشرة على الأرض، منذ اندلاع القضية الفلسطينية وحتى الآن. 
من هنا، يُطرح السؤال البديهي البسيط: ماذا استفاد الفلسطينيون من كل هذه "اللاعادية" التي تؤطر مسألتهم، أية مكاسب حقيقية نالوها جراء إخراج القضية الفلسطينية من كونها واحدة من تركات انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن، بكل ما خلفته من صراعات الورثة لاحقا، على الأرض والسيادة، مثل القضية الأرمنية ونظيرتها الكردية، ومثلها أخريات كثيرات. لتتحول من ذلك التحديد إلى مسألة وجودية مطلقة، مندرجة في عوالم المقدس وصراع الأديان وأبناء الأعراق القديمة والحكايات الكُبرى حول مصير العالم. قضية خارج التاريخ والتوازنات والعقلنة. 
قدمت حرب غزة الأخيرة مثالا نموذجيا عما كان صحيحا طوال قرابة قرن، فأردوغان الذي يُعتبر من أهم الداعمين الإقليميين لحركة "حماس"، ومثله النظام السوري ونظيره الإيراني والميليشيات العراقية الموالية له، وإلى جانبهم "حزب الله" اللبناني والحوثيون في اليمن، قام كل واحد من هؤلاء بزيادة وتيرة سيطرتهم وسطوتهم على أوضاعهم الداخلية خلال أسابيع الحرب، حازوا أشكالا من الشرعية والعفة الوطنية والرأسمال النضالي، لكن دون أن يقدموا فعليا أي شيء لأهل غزة المنكوبين. خلا بعض الخطابات الرنانة، مثلما كانوا على الدوام. 
وعلى العكس من ذلك تماما، يرى سكان غزة أنفسهم في مواجهة حقائق سياسية وحياتية واضحة: طلب الوقود ومياه الشرب والدواء من إسرائيل، آلية إعادة عشرات آلاف العمال الفلسطينيين إلى أعمالهم ضمن إسرائيل، تأمين شبكة التوافق الإقليمي معها لإيقاف الحرب وفتح المعابر، والتفكير الملح بما هو ممكن لإيجاد حلول سياسية ما للمسألة الفلسطينية بعمومها. 

ستتطلب القضية الفلسطينية حلولا سياسية موضوعية، ممكنة في قلب الحاضر وقابلة للاجتراح، وإن بمسارات متعرجة وحسب سياق زمني طويل

هذه التوجهات الواقعية، تطلب فعليا القطيعة الكلية مع ذلك الطيف من مستخدمي المسألة الفلسطينية، لكنها قطيعة مستحيلة قبل مواجهة الفلسطينيين أنفسهم لذواتهم وإعادة تعريفهم للمسألة؛ فهل هي قضية سياسية "عادية"، أيا كان سوء العدالة الذي بها، أم أنها "قضية مقدسة"، مطلقة وعابرة للتاريخ والمعاش، تعبر عن صراع الخير والشر، الإله والشيطان... إلخ؟ 
حسب التعريف الأول، ستتطلب القضية الفلسطينية حلولا سياسية موضوعية، ممكنة في قلب الحاضر وقابلة للاجتراح، وإن بمسارات متعرجة وحسب سياق زمني طويل. 
لكنها حسب التعريف الثاني ستبقي الفلسطينيين ومسألتهم شبيهة بصاحب مهنة "السكرابخانة"، أي بائع قطع غيار السيارات المستعملة، الذي يملك عادة المئات من السيارات الخربة، التي يُخرج منها قطع غيار يمنحها ويبيعها لأصحاب سيارات أخرى، لإصلاحها وتجهيزها لتكون قابلة للاستخدام، لكنه لا يملك بحوزته أية سيارة صالحة للاستعمال.

font change