دارفور... إقليم بين حربين

تزايد نذر الحرب الأهلية في السودان

Pep Boatella
Pep Boatella

دارفور... إقليم بين حربين

منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، توجهت الأنظار إلى إقليم دارفور غربي السودان لأسباب عديدة، في مقدمتها أن دارفور يمثل إلى حد كبير الحاضنة الاجتماعية لقوات الدعم السريع، إذ تنحدر قبائل الرزيقات التي ينتمي إليها قائد هذه "القوات" محمد حمدان دقلو (حميدتي) والمجموعات المنضوية تحتها، تنحدر من دارفور، إضافة إلى وجود محفزات الصراع في الإقليم الذي شهد نزاعا مسلحا لمدة 16 عاما، وانتشر فيه السلاح لدى زعماء القبائل وفي أيدي المواطنين.

كما أن هناك تاريخا من القتال العنيف بين معظم قبائل الإقليم والجيش السوداني أو الحكومة المركزية في الخرطوم والذي انتهى إلى توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس المخلوع عمر البشير وعدد من أعوانه في السلطة، والأهم من كل ذلك حدود الإقليم المفتوحة مع عدد من الدول، بينها تشاد، وأفريقيا الوسطى، وليبيا التي تعيش أوضاعا أمنية هشة تسمح لمجموعات مسلحة بالتحرك بين حدود تلك الدول والداخل السوداني.

Pep Boatella

وفي الواقع لم يخيب إقليم دارفور التوقعات؛ لجهة أنه في غضون أشهر قليلة شهد أعنف المواجهات بين قوات الدعم السريع، والجيش، من جهة، وقوات الدعم السريع، وعدد من المكونات القبلية وفي مقدمتهم مجموعة المساليت في الجنينة من جهة أخرى. وبات السيناريو الأسوأ، وهو الحرب الأهلية وحروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، أقرب إلى التحقق أكثر من أي وقت مضى. وكذلك لا يمكن تجاهل الأصوات التي تؤجج نار العنصرية من هنا وهناك، وسط دعوات لانفصال الإقليم عن المركز.

دارفور بين حربين

لا يستطيع أحد أن يقول إن حرب دارفور الأولى انتهت بالكامل قبل اندلاع الحرب الثانية التي يشهدها الإقليم اليوم، على الرغم من أنها انحسرت بشكل ملحوظ قبل سقوط نظام الإسلاميين في أبريل/نيسان 2019، بعد أن حققت الحكومة المركزية في الخرطوم انتصارات كبيرة على الحركات المسلحة التي ترفع السلاح في وجهها، والمفارقة المدهشة أن الحكومة حققت هذه الانتصارات بمساندة قوات الدعم السريع التي تقاتلها اليوم وهذا ما سنأتي إليه بالتفصيل.

لم يكن استئناف الصراع أمرا صعبا بل شديد السهولة، وهذا ما كان يتخوف منه الجميع منذ اللحظة الأولى لحرب 15 أبريل/نيسان

في الحرب الأولى التي اشتعلت عام 2003 رفضت الحركات المسلحة التوقيع على اتفاق سلام مع حكومة البشير، وتحديدا الحركات الرئيسة: "حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، وزير المالية الحالي. و"حركة جيش تحرير السودان"، بقيادة مني أركو مناوي، حاكم دارفور حاليا. غير أن مني أركو مناوي وقع اتفاقا عام 2008 شارك بموجبه في السلطة لمدة خمس سنوات، ثم عاد لمحاربتها مرة أخرى إلى جانب حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، وعاشت دارفور طوال حكم البشير توترا أمنيا دائما على الرغم من وجود أكبر بعثة أممية لحفظ السلام في العالم وهي بعثة "يوناميد". 

Pep Boatella


وما فاقم الصراع وزاد من حدة العنف تبني حكومة البشير سياسة استخدام قبائل عربية ضد قبائل أخرى تعرف بقبائل "الزرقة". وتولى جهاز المخابرات العسكرية وقوات الأمن تسليح القبائل العربية وهي نواة ما يعرف بـ"الدعم السريع" اليوم، وردة الفعل الطبيعية كانت تسلح القبائل التي تعرف بـ"الزرقة" بإمكانياتها الذاتية وعلاقات قياداتها الأهلية، وأصبحت دارفور من أكبر أسواق السلاح في غرب أفريقيا. وحكى دكتور موسى أبكر، أحد أبناء دارفور، وهو أستاذ جامعي، أنه تلقى اتصالا في 2009 من أحد زعماء قبيلته بأن يرسل مساهمة مالية لشراء مدفع دوشكا بحجة أن القبائل حولهم حصلت على دوشكا، ومن الضروري أن تملكه القبيلة لحماية أفرادها وأبقارها وأراضيها. 
ومنذ اتخاذ البشير سياسة تسليح القبائل ثم تقنين وجود قوات مساندة للجيش من القبائل العربية التي كانت نواة لقوات الدعم السريع نفسها، تأسست بنية العنف في دارفور، لذا لم يكن استئناف الصراع أمرا صعبا بل شديد السهولة، وهذا ما كان يتخوف منه الجميع منذ اللحظة الأولى لحرب 15 أبريل/نيسان.


علاقة سيئة ومعقدة


من المهم النظر إلى علاقة القبائل والمجموعات السكانية في دارفور مع طرفي الحرب: الجيش، وقوات الدعم السريع، وهنا يجب أن نعود إلى تاريخ العنف في المنطقة الذي أسس له كما أسلفنا تحالف الجيش وقوات الدعم السريع، والمجموعات العربية المساندة لـ"الدعم السريع" التي هي نفسها تم تسليحها من قبل حكومة البشير أو مباركة تسليحها في بعض الأحيان، مثل قبائل المسيرية والحمر. وقد تحالف المركز مع بعض المجموعات السكانية العربية مما خلق علاقة سيئة مع بقية مكونات الإقليم وحركاته المسلحة، وبطبيعة الحال تحمل الجيش ومركز السلطة العبء الأكبر في هذه العلاقة السيئة مع سكان الإقليم لجهة اتهام المركز بالانحياز للقبائل العربية في مواجهة "الزرقة" أو القبائل الأفريقية الأخرى، وأبرزها قبائل الفور، والمساليت. 

كان العنف والإبادة الجماعية والاغتصاب والتهجير من أبرز سمات حرب دارفور الأولى، وانتبه العالم وقتها لكل الجرائم

وكان العنف والإبادة الجماعية والاغتصاب والتهجير من أبرز سمات حرب دارفور الأولى، وانتبه العالم وقتها لكل الجرائم وعملت منظمة "أنقذوا دارفور"- منظمة أميركية- على تصنيف ما يحدث على أنه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، إلى أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق البشير وستة من معاونيه، وفرض حظر طيران على إقليم دارفور، وصدر قرار من مجلس الأمن بإرسال بعثة مختلطة من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة عرفت بقوات "يوناميد" وهي أكبر بعثة تدخل السودان في تاريخه. 

Pep Boatella


وقد أيد الناشطون والمجموعات التي عانت ويلات الحرب قرار محاكمة البشير وأعوانه، وظلت حركات الكفاح المسلح في مواجهات عسكرية مع جيش الحكومة و"القوات"، وبعد سقوط نظام البشير وعودة حركات الكفاح المسلح إلى الداخل وفق اتفاق سلام جوبا في2020 حصل قادتها السياسيون على مناصب مهمة في الحكومة واستطاع الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، عقد تحالف سياسي مع هؤلاء القادة وساندوه في الإطاحة بحكومة الثورة برئاسة دكتور عبدالله حمدوك، ولذلك عندما وقع انقلاب25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بقيادة البرهان، واعتقل وزراء الحكومة بمن فيهم حمدوك. ولم يعتقل أحد من الموقعين على سلام جوبا وأبقاهم البرهان في مناصبهم إلى أن اندلعت الحرب في 15 أبريل/نيسان، وعند هذه النقطة كان على دارفور أن تواجه حربا أكثر تعقيدا على مستوى علاقات المكونات "الدارفورية" المسلحة وعلاقتها مع الجيش والمركز ودول جوار الإقليم.


الحركات الدارفورية المسلحة: حياد وعدم حياد 


أعلنت الحركات المسلحة "الدارفورية" التي ساندت انقلاب25  أكتوبر موقفا جديدا من الحرب الدائرة في السودان، وخاصة في دارفور، عندما قالت في مؤتمر صحافي إنها سوف تقاتل في صفوف الجيش السوداني ضد "القوات"، التي وصفتها بـ"المتمردة"، وخلال السبعة أشهر الفائتة أعلنت الحركات "الدارفورية" وفي مقدمتها حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة أركو مناوي، أنهم "محايدون" لا يدعمون طرفا ويعملون على إيقاف الحرب. ويذكر الشعب السوداني فيديو شهيرا للقائد مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور يقول فيه: "نحن لا مع دول ولا مع دول". 

شهدت الأيام الماضية إعلان آلاف الجنود من الحركات المسلحة انحيازهم إلى "القوات"، وهذا سيعقد الواقع على الأرض بدرجة كبيرة

وبحسب مراقبين، فإن الحركات المسلحة تعرضت لضغوط مكثفة من قيادة الجيش لاتخاذ موقف، وتعلق الضغط بحظوظ القادة السياسيين للحركات في مستقبل السلطة بعد الحرب وتسبب القرار منذ لحظة إعلانه في أزمة كبيرة بين القيادة السياسية للحركات والقيادة الميدانية. وفعليا شهدت الأيام الماضية إعلان آلاف الجنود من الحركات المسلحة انحيازهم إلى "القوات"، وهذا سيعقد الواقع على الأرض بدرجة كبيرة؛ إذ يصعب على الجيش القتال في تلك المناطق، ناهيك عن استرداد المدن والحاميات العسكرية التي اجتاحتها "القوات". كما أن هذا التطور يعني استمرار تدفق الإمداد العسكري واللوجستي لـ"القوات" في الإقليم، وكذلك تحركات المقاتلين من القبائل المساندة لها من الجوار الأفريقي، وينذر بتطورات خطيرة في علاقة دارفور بالمركز الآن وفي المستقبل، خاصة بعدما خلق القرار جيوشا ومسلحين بلا قيادة سياسية إذ نجح عبد الرحيم دقلو القائد الثاني لـ"القوات" في استمالة عدد من القادة الميدانيين وفصلهم عن القيادة السياسية المساندة للبرهان.


نذر الحرب الأهلية 


وبالعودة للحرب الثانية التي تدور أحداثها اليوم في إقليم دارفور، سنجدها استعادت كل مرارات الحرب الأولى في عهد نظام الإسلاميين، حتى إن بنية العنف التي تأسست على مدى20  عاما من الحرب بين مواطني الإقليم والسلطة المركزية نشطت بطريقة لافتة. 
ومثال على ذلك طريقة التهجير القسري للسكان والتصفية الجماعية واغتصاب النساء وانعدام أخلاقيات الحرب. كل ذلك حدث في الحرب الأولى بكثافة في مناطق الجنينة وجبل مرة وفي جنوب دارفور، وهي ذات المناطق التي تشهد مثل هذه الممارسات اليوم. 

دارفور... الأثمان الباهظة 


والمفارقة المهمة أن الحركات المسلحة التي كانت تتحالف مع بعض المجموعات السكانية والمناطق في دارفور ضد المركز والجيش الحكومي هي اليوم تساند المركز والجيش في حربه ضد من تسميهم "المتمردين" من "القوات" ومسانديهم من القبائل، ومقاتلي الحركات المنحازين إليهم. وفضلا عن انتشار السلاح مسبقا في الإقليم وبنية العنف المؤسسة، فمن المرجح أن يشهد موجة تسلح جديدة ربما أكثر فتكا وتطورا بجانب تدخل المحاربين ورجال العصابات المسلحة من دول الجوار بحثا عن الموارد وغنائم النزاع، الأمر الذي يستوجب اصطفافا قبليا وإثنيا جديدا لحماية الأنفس والممتلكات والأرض في ظل تراخي قبضة المركز وتضعضعها بداية بانقلاب25 أكتوبر وانتهاء بحرب 15 أبريل.

الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا تجاهلت أيضا عقب السلام إعادة علاقاتها مع المجتمع المحلي وتوطيد نفوذها، وانشغلت بصراع السلطة في الخرطوم

التحالفات والعلاقات التي حرص عليها "حميدتي" في إقليم دارفور وفي محيطه الإقليمي، كانت تشير إلى تخطيط مسبق بأن تكون دارفور ملاذا وحاضنة لـ"القوات" في حالتي السلم والحرب. وعلى الرغم مما ارتكبته "القوات" من انتهاكات في الإقليم، عاد "حميدتي" وأنجز مصالحات مع كثير من مكونات الإقليم عبر تجنيد أبنائهم في قواته نفسها والحصول على حصة من إمكانياتها ومواردها الاقتصادية الكبيرة التي وفرها له النظام السابق، أو عن طريق تقديم الدعم المالي المباشر لزعماء القبائل ودعم المناطق والقرى. وبعد توليه منصب نائب البرهان في مجلس السيادة بات يبذل الوعود السياسية للنخب المهتمة بالسلطة في دارفور ويقدم لهم العون المادي في طريق تحقيق النفوذ السياسي، وفي الوقت نفسه أهملت الحكومة المركزية والجيش الذي كان شريكا لـ"القوات" وربما الشريك الأكبر، إنجاز مثل هذه المصالحات. كما أن الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا تجاهلت أيضا عقب السلام إعادة علاقاتها مع المجتمع المحلي وتوطيد نفوذها، وانشغلت بصراع السلطة في الخرطوم. 
كل ذلك يجعل مستقبل دارفور، في ظل الحرب، أكثر تعقيدا مما مضى، الأمر الذي يستوجب انتباها محليا وإقليميا ودوليا خاصا للأزمة، حتى يتجنب الإقليم ومواطنوه دفع أثمان باهظة مرة أخرى لحرب 15 أبريل. 

font change

مقالات ذات صلة