على موقع "إكس" (تويتر سابقا) كتبت قبل أيام سؤالا: "ما رأيكم بشخص أرغم فلسطينيا على دفن شقيقه حيا؟"، والمقصود يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في الداخل، السنوار الذي يلقبه مؤيدوه بـ"صائد العملاء"، والمعروف عنه هوسه الأمني، فمجرد الاشتباه بأحدهم كان كافيا بالنسبة للسنوار أن يحاكمه ميدانيا ويعدمه.
انهالت التعليقات من مختلف الدول العربية، من فلسطينيين ومصريين، أردنيين وسوريين ولبنانيين، الغالبية العظمى تثني على ما قام به "البطل" يحيى السنوار، ويتمنون لو أن في كل بلد هناك سنوار كسنوار فلسطين.
السنوار الذي تباهى يوما بأنه قتل مشتبها به بكلتا يديه بعد أن خنقه بكوفيته، أمضى 23 عاما في السجون الإسرائيلية. أتقن اللغة العبرية، وخرج في صفقة تبادل بين "حماس" وإسرائيل بعدما تمكنت الحركة في العام 2006 من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، يومها شنت إسرائيل حربا على قطاع غزة وبعدما فشلت في تحرير شاليط، دخلت في مفاوضات مع "حماس" استمرت 5 سنوات، لتفرج الحركة في النهاية عن شاليط مقابل 1027 أسيرا فلسطينيا، كان أحدهم يحيى السنوار.
بعضنا يبرر قتل كل صاحب رأي مخالف. نتهمه مرة بالعمالة ومرة بالكفر. نهدر دمه غير آبهين لا بحقوق إنسان ولا بقيم نطالب الغرب فقط بأن يحترمها أثناء تعاطيه معنا
خرج السنوار من الأسر وتبوأ مناصب قيادية في "حماس"، فكان أول عسكري يتسلم منصب رئيس المكتب السياسي. لم يقتل السنوار فقط من شك مجرد شك في أنهم عملاء، بل أعدم من اختلف معهم سياسيا، فالقيادي في القسام محمود شتيوي، أعدم بتهمة "تجاوزات أخلاقية وسلوكية". هذه التجاوزات قيل إنها تواصله مع "حماس" الخارج وتحديدا رئيس الحركة خالد مشعل، بينما ذكر القيادي في الحركة جهاد جعبري، في رسالة عنوانها "رسالة توبة"، أن شتيوي الذي كان يترأس خلية الأزمة التي شكلت لتقييم حرب عام 2014 خرج بتقرير أمني مهني ودقيق جدا أجاب من خلاله على مجموعة من التساؤلات التي كانت قائمة في صفوف قيادات وكوادر "القسام" وأجهزة "حماس" الأمنية والعسكرية.
القتل عادة عند السنوار، ليس قتل المحتل فقط ولكن قتل كل من يختلف معه أو يشك في ولائه، يفعل ذلك بسهولة، ولكن لم لا؟ أو كيف لا؟ فإن كان هناك من يفتخر ويتباهى بما يفعله وفعله السنوار، إن كان بين الشعوب العربية من يرى أن دفن مشتبه به حيا ليس بالأمر الجلل، بل ويحتفلون به ويتمنون أن يصل هذا الفعل إلى داخل أوطانهم، وطبعا يتمنون المصير نفسه لكل من يخالفهم الرأي. لا داعي للسؤال حينها عن المحاكمة والدليل، ما دام إرغام شقيق على دفن شقيقه حيا أمرا يدعو "للفخر"، ما دام أن الكوفية التي صارت رمزا للقضية الفلسطينية هي وسيلة إعدام وقتل، مجددا ليس المحتل بل المشتبه بهم، أو من يدري حقا ما هو خلاف من قتلوا بها مع السنوار.
منذ ظهور "داعش" وقبلها "القاعدة"، وجميع المتطرفين والإرهابيين تستروا بالإسلام والإسلام منهم براء، ونحن نقول إنهم لا يمثلون سوى أنفسهم. نحن ندين جرائم إسرائيل ونستنكرها ونعيب على الغرب عدم احترامه لحقوق الإنسان إن كان هذا الإنسان عربيا مسلما، ولكن نحن أيضا، أو كثير منا، يرفض أن يحترم حقوق الإنسان شريكه في الوطن، بعضنا يبرر قتل كل صاحب رأي مخالف. نتهمه مرة بالعمالة ومرة بالكفر. نهدر دمه غير آبهين لا بحقوق إنسان ولا بقيم نطالب الغرب فقط بأن يحترمها أثناء تعاطيه معنا.
هل سنستطيع تجاوز سجننا الأخلاقي والفكري والعقائدي وأن نصبح قادرين على رؤية الحقيقة عارية، وأن نرى الجريمة فعلا قبيحا حتى ولو كان فاعلها شقيقنا؟
المذبحة/المجزرة المستمرة منذ أكثر من شهرين في غزة، أي حرب إسرائيل الهمجية الانتقامية من شعب بأكمله، انتقاما لعملية عسكرية قادها السنوار ضد الاحتلال، وتخوين كل من عارضها وإهدار دمهم، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن نكبتنا كبيرة، منذ النكبة الأولى واحتلال فلسطين عام 1948. نكبتنا أننا لا نتعلم من أغلاطنا الكثيرة بل ونصر على تكرارها. نكبتنا أننا لا نقبل النقد؛ فشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يسيطر علينا منذ 75 عاما ومستمر. نكبتنا أننا نطالب الآخرين بفعل ما نرفض نحن فعله، نكبتنا أن عقلنا مغيب بإرادتنا، نكبتنا أننا ننزلق للتناقض من دون أن نشعر، ونقع في فخ تبرير الجريمة بناء على فاعلها أو الضحية منها، وهنا يصبح تبرير القتل أسوأ من القتل بحد ذاته، فجرائم إسرائيل لا يمكن أن تكون تبريرا لجرائم السنوار، وكذلك فإن جرائم السنوار لا يمكن أن تكون تبريرا لجرائم إسرائيل.
فهل سنستطيع أن نتجاوز سجننا الأخلاقي والفكري والعقائدي وأن نصبح قادرين على رؤية الحقيقة عارية، وأن نرى الجريمة فعلا قبيحا حتى ولو كان فاعلها شقيقنا مثلما نراها فعلا قبيحا عندما يكون ضحيتها شقيقنا، أم لم نتعلم من تجاربنا؟
يقول كارل ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة". ولكن في حالتنا فإن نكباتنا هي من تتكرر، مرة واثنتين وثلاثا، ولكن في كل مرة المأساة أكبر وأفظع.